الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة :

" ويعفى عن يسيره ويسير الدم وما تولد منه من القيح والصديد ونحوه وهو ما لا يفحش في النفس" .

النجاسات على قسمين : ما يبطل الصلاة قليلها وكثيرها وما يعفى عن يسيرها .

أما المذي فيعفى عنه في أقوى الروايتين ؛ لأن البلوى تعم به ويشق [ ص: 105 ] التحرز منه ، فهو كالدم بل أولى للاختلاف في نجاسته ، والاجتزاء عنه بنضحه ، وكذلك المني إذا قلنا بنجاسته ، وأما الودي فلا يعفى عنه في المشهور عنه كالبول . وأما الدم فيعفى عن يسيره رواية واحدة ، وكذلك القيح والمدة والصديد وماء القروح " إن كان متغيرا فهو كالقيح وإلا فهو طاهر كالعرق " قال أحمد : " القيح والصديد والمدة عندي أسهل من الدم الذي فيه شك " . يعني في نجاسته ، وسئل : القيح والدم عندك سواء ؟ فقال : " الدم لم يختلف الناس فيه والقيح قد اختلف الناس فيه " .

قال البخاري : " بزق عبد الله بن أبي أوفى دما فمضى في صلاته" ، " وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها دم ولم يتوضأ " ،وحكى أحمد أن أبا هريرة " أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليها دم فلم يتوضأ " وعن جابر بن عبد الله أنه سئل عن رجل يصلي فامتخط فخرج من مخاطه شيء [ ص: 106 ] من دم ، قال : " لا بأس بذلك يتم صلاته " . ولأن الله سبحانه حرم الدم المسفوح خاصة لأن اللحم لا يكاد يخلو من دم فأباحه للمشقة فلأن يبيح ملاقاته في الصلاة أولى لأن الإنسان لا يكاد يخلو من دماميل ، وجروح ، وقروح فرخص في ترك غسلها .

والمعفو عنه دم الآدمي ، ودم البق ، والبراغيث - إن قيل بنجاسته - ودم الحيوان المأكول ، فأما المحرم الذي له نفس سائلة فلا يعفى عن دمه لأن التحرز منه يمكن وهو مغلظ ، لكون لبنه نجسا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلع نعليه في الصلاة وعلل بأن فيهما دم حلمة ، وكذلك دم الحيضة وما خرج من السبيلين لا يعفى عنه في أصح الوجهين لأنه يغلظ بخروجه من السبيل ، ولذلك ينقض قليله الوضوء ، والتحرز منه ممكن ، وأما قدر اليسير فعنه ما دون شبر في شبر ، وعنه ما دون قدر الكف ، وعنه القطرة والقطرتان وقيل عنه ما دون ذراع في ذراع . والمشهور عنه ما يفحش في النفس لأن ابن عباس قال في الدم : إذا كان فاحشا أعاد .

ولأن التقدير مرجعه العرف إذا لم يقدر في الشرع ولا في اللغة ، قال الخلال : " الذي استقر عليه قوله : إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه" .

وهذا هو ظاهر المذهب إلا أن يكون قطرة أو قطرتين فيعفى عنه بكل [ ص: 107 ] حال ؛ لأن العفو عنه لدفع المشقة فإذا لم يستفحشه شق عليه غسله ، وإذا استفحشه هان عليه غسله ، قال ابن عقيل : الاعتبار بالفاحش في نفوس أكثر الناس وأوساطهم . ومما يعفى عنه أثر الاستجمار إن لم نقل بطهارته ، وبول ما يؤكل لحمه وروثه إن قلنا بنجاسته كدمه المختلف فيه ولمشقة الاحتراز منه .

وكذلك يعفى عن ( يسير ) ريق الحيوانات المحرمة وعرقها إذا قلنا بنجاستها في إحدى الروايتين وفي الأخرى لا يعفى كريق الكلب والخنزير وعرقهما ، والفرق بينهما أن هذه الحيوانات يباح اقتناؤها مطلقا ويشق معه التحرز من ريقها وعرقها وقد اختلف في نجاستها ، وركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا . ويعفى عن يسير بول الخفاش في إحدى الروايتين لأنه في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا لا يسلم الناس منه في المساجد ولا من الصلاة عليه ( ولا يعفى عن يسير النبيذ المختلف فيه في أصح الروايتين كالمجمع عليه فإنه رواية واحدة ) قال ابن عقيل : وفي العفو عن يسير القيء روايتان وكذلك ذكر أن يسير القيء يعفى عنه .

وكذلك كل ما لا ينقض الوضوء خروجه ، كيسير الدود والحصى ، والخارج من غير الفرجين لا يجب غسل موضعه كما لا يجب التوضؤ منه . وذكر القاضي في العفو عن أرواث البغل والحمار والسباع روايتين أقواهما أنه لا [ ص: 108 ] يعفى ، وأما الذي لا يعفى عن يسيره ، فكالبول ، والغائط ، والخمر والميتة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه " وقوله : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ) ولأن هذه نجاسات مغلظة في أنفسها ولا يعم الابتلاء بها وليس في نجاستها اختلاف ، فلا وجه للعفو عنها مع أن الاختلاف فيها لا أثر له على الأصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية