الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 609 ] ( فصل )

وتشرع التلبية من حين الإحرام إلى الشروع في الإحلال ، ففي الحج يلبي إلى أن يأخذ في رمي جمرة العقبة ، وفي العمرة إلى أن يشرع في الطواف .

قال أحمد : الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة ، وفي رواية : يقطع عند أول حصاة ، وقال - في رواية الجماعة في المعتمر - : يقطع التلبية إذا استلم الركن ، وهذا هو المذهب .

وقال الخرقي : من كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت . فمن أصحابنا من قال : ظاهر هذا أنه يقطع التلبية برؤية البيت قبل الطواف فجعل هذا خلافا ، ومنهم من فسر وصوله إليه باستلامه الحجر ، وهذا أشبه ؛ لأن [ ص: 610 ] حقيقة الوصول أن يتصل به ، وإنما يتصل به إذا لمسه لا إذا رآه ; وذلك لما روى الفضل بن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة " وفي لفظ للبخاري : " حتى بلغ الجمرة " .

وعن ابن عباس : " أن أسامة كان ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى المزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، قال فكلاهما قال : لم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى جمرة العقبة " متفق عليها .

وعن عكرمة قال : " أفضت مع الحسين بن علي من المزدلفة ، فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، فسألته ، فقال : أفضت مع أبي من المزدلفة ، فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة ، فسألته فقال : أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة " رواه أحمد من حديث ابن إسحاق عن أبان بن صالح عنه .

[ ص: 611 ] وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر " رواه أبو داود ، وعنه يرفع الحديث أنه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر " رواه الترمذي وقال حديث صحيح .

وعن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : " اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عمر ، كل ذلك في ذي القعدة ، يلبي حتى يستلم [ ص: 612 ] الحجر . رواه أحمد .

فأما التلبية في الطواف والسعي ، وفي حال الوقوف بعرفة ومزدلفة .

ويكره إظهار التلبية [ في الأمصار والحلل ، قال أحمد - في رواية المروذي - : التلبية ] إذا برز عن البيوت ، وقال - في رواية أبي داود - ولا يعجبني أن يلبي في مثل بغداد حتى يبرز ، وقال - في رواية حمدان بن [ ص: 613 ] علي - : إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي . وفي لفظ : يلبي الرجل إذا وارى الجدران ، قول ابن عباس : ولا يعجبني من المصر .

وحمل أصحابنا قوله : على إظهار التلبية وإعلانها . وعبارة كثير منهم : لا يستحب إظهارها ، وربما قالوا : لا يشرع ذلك ، كما قالوا : لا يستحب تكرارها في حال واحدة ، وذلك يقتضي التسوية بين المسألتين ; إما في الكراهة ، أو في أن الأولى تركه ، وذلك لما احتج به أحمد ورواه بإسناده عن عطاء ، عن ابن عباس : " أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة ، فقال : إن هذا لمجنون ، ليست التلبية في البيوت ، وإنما التلبية إذا برزت " . وعلله القاضي : بأن التلبية مستحبة ، وإخفاء التطوع أولى من إظهاره لمن لا يشركه فيه ؛ ولهذا لم يكره ذلك في الصحراء وفي أمصار الحرم ؛ لوجود الشركاء ، وهذا ليس بشيء ، ويحتمل أن يكون ذلك لأن المقيم في مصر ليس بمسافر ولا متوجه إلى الله تعالى ، والتلبية إجابة الداعي ، وإنما يجيبه إذا شرع في السفر . فإذا فارق البيوت شرع في السفر [ ص: 614 ] فيجيبه ، وكلام ابن عباس وأحمد يحتمل هذا . فعلى هذا لو مر بمصر آخر في طريقه ، لبى منه .

وعلى هذا فلا يستحب إخفاؤها ولا إظهارها ، وهو ظاهر كلام أحمد وابن عباس .

فأما المساجد : فقال القاضي وأبو الخطاب : لا يستحب إظهارها في الأمصار ومساجد الأمصار ، ومساجد الأمصار : هي المبنية في المصر ؛ وذلك لأن حكمها كحكم المصر ، وأولى من حيث كره رفع الصوت فيها ، لا من إظهارها في مساجد الحل وأمصاره . فعلى هذا : للمساجد المبنية في البرية مثل مسجد ذي الحليفة ونحوه لا يظهر فيه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن رفع [ ص: 615 ] الصوت في المسجد . وإنما خص من ذلك الإمام خاصة والمأموم إذا احتيج إلى تبليغ تكبير الإمام .

فيبقى رفع الصوت بالتلبية على عمومه . وهذا قوي على قول من لا يرى . . . .

وحديث ابن عباس في إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - بمسجد ذي الحليفة عقيب الركعتين ، وقول أحمد وغيره بذلك يخالف هذا القول .

قال أصحابنا : ويستحب إظهارها في المسجد الحرام وغيره من مساجد الحرم ; مثل مسجد منى ، وفي مسجد عرفات ، وإظهارها في مكة لأنها مواضع المناسك .

التالي السابق


الخدمات العلمية