الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 110 ] فصل .

وأما النظافة : فللمحرم أن يغسل رأسه وبدنه وثيابه وأن يبدل ثياب الإحرام ويبيعها ، وإن كان في ذلك إزالة وسخة وإزالة القمل الذي كان بثيابه ، وإن أفضى اغتساله إلى قتل القمل الذي برأسه ، حتى له أن يدخل الحمام ما لم يفض ذلك إلى قطع شعر .

قال أحمد - في رواية عبد الله - : " ويغسل المحرم ثيابه ويدخل الحمام ويتداوى بالأكحال كلها ما لم يكن كحل فيه طيب " .

وقال - في رواية حنبل - : " المحرم يدخل الحمام وليس عليه كفارة ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه " .

وقال حرب : " قلت لأحمد يبيع المحرم الثوب الذي أحرم فيه ويشتري غيره ؟ قال : نعم لا بأس به " .

وقال عبد الله أيضا : " سألت أبي عن المحرم يدخل الحمام ؟ فقال : نعم ولا يمد بيده الشعر مدا شديدا ، قليل قليل " .

ولا بأس بالحجامة للمحرم ما لم يقطع شعرا ، ولا بأس بالكساء إذا أصابه البرد ، ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ، ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قملة ولا يقطع شعرة ولا يدهنه .

وقال - في رواية محمد بن أبي حرب - : " وسئل عن المحرم يغسل بدنه [ ص: 111 ] بالمحلب فكرهه وكره الأشنان ; وذلك لما روى عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة : " أنهما اختلفا بالأبواء ، فقال عبد الله بن عباس : يغسل المحرم رأسه ، وقال المسور بن مخرمة : لا يغسل المحرم رأسه ، فأرسلني عبد الله إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب ، قال : فسلمت عليه ، فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم ؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه [ ص: 112 ] حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب ، فصب على رأسه ، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، ثم قال : " هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل " متفق عليه ، لفظ مسلم ، وفي لفظ له : " فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه جميعا على جميع رأسه فأقبل بهما وأدبر " ، فقال المسور لابن عباس : " لا أماريك أبدا " .

وعن يعلى بن عطاء قال : " قال عمر بن الخطاب : أصب الماء على رأسي وأنا محرم ؟ فقلت : أنت أعلم يا أمير المؤمنين . قال : صب فإنه لا يزيده إلا شعثا ، صب بسم الله " .

وعن محمد بن علي بن أبي طالب : " أنه كان يقول للمحرم اغسل رأسك فهو أشعث لك " .

وعن ابن عمر : أنه سئل عن المحرم يغتسل ؟ فقال : " لقد ابتردت يعني اغتسلت منذ أحرمت سبع مرات " ، وفي رواية أخرى : " لقد ابتردت منذ أحرمت أربع عشرة مرة " .

[ ص: 113 ] وعن مجاهد : " أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يغتسل المحرم أو يغسل ثيابه " .

وعن ابن عباس قال : " ربما قال لي عمر بن الخطاب - ونحن بالجحفة - تعال أباقيك أينا أطول نفسا " ، وفي رواية : " ربما رامست عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون " .

وعن عكرمة قال : " دخل ابن عباس حمام الجحفة وهو محرم وقال : ما يصنع الله بأوساخنا " .

وعن ابن عباس : " أنه كان لا يرى بأسا أن يشم المحرم الريحان وينظر في المرآة ويدخل الحمام " .

وعن عطاء بن السائب عن إبراهيم : " كانوا يستحبون إذا أرادوا أن يحرموا أن يأخذوا من أظفارهم وشواربهم وأن يستحدوا ، ثم يلبسوا أحسن ثيابهم وكانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارا ، وأن يخرجوا منها ليلا ، فلقيت سعيد بن جبير [ ص: 114 ] فذكرت له قول إبراهيم ، قال : " قلت له : أطرح ثيابي التي فيها تفثي وقملي ؟ قال : نعم أبعد الله القمل " . رواهن سعيد في سننه .

فإن قيل : هذا فيه إزالة الوسخ والغبار وقتل القمل وقطع الشعر وتخمير الرأس في الماء .

قيل : أما تخمير الرأس فإنه ليس المقصود التغطية ، وإنما المقصود الاغتسال ، فصار كما لو حمل على رأسه شيئا .

وأما قطع الشعر : فإنما يجوز له من ذلك ما لا يقطع شعرا .

وأما إزالة الوسخ وقتل القمل : فسنتكلم عليه .

وهذا يقتضي أنه يكره تعمد إزالة الوسخ وكذلك قتل القمل ، فعلى هذا يحرك رأسه تحريكا رفيقا كما فعل أبو أيوب ، ورواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كان عليه جنابة أو لم يكن . وهو معنى قول أبي عبد الله : " ولا يمر بيده على الشعر مرا شديدا " يعني أن الخفيف ، مثل : أن يكون ببطون أصابعه ونحو ذلك لا بأس به ; وذلك خشية أن يقتل قمله ، أو يزيل وسخا ، أو يقطع شعرا .

وقال - في رواية المروذي - : " لا يغسل رأسه بالخطمي ولكن يصب على رأسه الماء صبا ولا يدلكه " . فمنعه من الدلك مطلقا . وكذلك ...

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا : " إن لم يكن عليه جنابة [ ص: 115 ] صب الماء على رأسه صبا ولم يحكه بيده ، وإن كان عليه جنابة استحب أن يغسله ببطون أنامله ويديه ويزايل شعره مزايلة رفيقة ، ويشرب الماء إلى أصول شعره ، ولا يحركه بأظافيره ويتوقى أن يقتل منه شيئا ، فإن حركه تحريكا خفيفا أو شديدا فخرج في يديه منه شعر فالاحتياط أن يفديه ولا يجب ذلك عليه حتى يتيقن أنه قطعه ، وكذلك شعر اللحية فالاحتياط أن يفديه ولا يجب عليه حتى يتيقن أنه قطعه .

قالوا : فأما بدنه فيدلكه دلكا شديدا إن شاء . فقد جوزوا له دلك البدن شديدا ، وإن كان فيه إزالة الوسخ بخلاف شعر الرأس ، فإنه يخاف أن يقطع الشعر .

وإذا كان الغسل واجبا : فإنه لا بد أن يوصل الماء إلى أصول الشعر بخلاف المباح ، فإنه لا حاجة به إلى ذلك .

والصواب : أن الغسل المستحب للمحرم مثل دخول مكة ، والوقوف بعرفة ، ونحو ذلك يستحب فيه ذلك . ما المباح ؟ فإن ذلك جائز فيه كما نص عليه . وكلام .... يقتضي كراهته ، أو أن تركه أفضل . والصواب : المنصوص .

وأما دلك البدن بالماء : فإن كراهته للأشنان والمحلب في البدن دليل على أنه كره تعمد إزالة الوسخ .

وقال - في رواية عبد الله - : " يحك رأسه وجسده حكا رفيقا ; لأن الحك الشديد إن صادف شعرا قطعه ، وإن صادف قملا قتله ، وإن صادف بشرة جرحها ، وإن كان مع الماء أو الغرف أزال الوسخ .

وعلى قول القاضي وابن عقيل : " يحك بدنه حكا شديدا - إن شاء - ; لأن [ ص: 116 ] الإدماء وإزالة الوسخ ليس بمكروه عندهم ، وصرح القاضي بأن ما يزيل الوسخ من الماء والأشنان ونحو ذلك ، لا فدية فيه وجعله أصلا لمسألة السدر والخطمي .

وأما غسل الرأس بالخطمي والسدر : فالمنصوص عنه - في رواية صالح - إذا غسل رأسه بالخطمي افتدى .

وقال - في رواية المروذي - : " ولا يغسل رأسه بالخطمي ولكن يصب على رأسه الماء صبا ولا يدلكه .

وقال - في رواية ابن أبي حرب - وسئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب : فكرهه وكره الأشنان .

وذكر القاضي وغيره رواية أخرى : أنه لا فدية عليه بذلك ، وأخذها من قوله - في رواية حنبل - : " لا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه " .

فأطلق الغسل ، ومن كونه قد قال - في رواية أبي داود - حديث ابن عباس : " أن رجلا وقصت به ناقته - وهو محرم - فيه خمس سنن ، كفنوه في ثوبيه ، ولا تخمروا رأسه ، ولا تمسوه طيبا ، واغسلوه بماء وسدر ، أي في الغسلات كلها " .

وكذلك ذكر في غير موضع تغسيل الميت المحرم بماء وسدر ، مع أن حكم الإحرام باق عليه بعد الموت ، فعلم أنه ليس ممنوعا منه في الحياة .

[ ص: 117 ] والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته دابته : " اغسلوه بماء وسدر " مع أنه قال : " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا ، وأنه يبعث يوم القيامة ملبيا " فعلم الفرق بين الطيب والسدر .

وعلى هذه الرواية فاغتساله بالسدر والخطمي مكروه لما فيه من قطع الشعر وإزالة الشعث . ونص - أيضا - على أن المحرم لا يغسل كما يغسل الحلال ، بل يصب عليه الماء صبا ، فعلم أن الدعك والمعك لا يجوز للمحرم ، وفرق بين غسل المحرم وغسل الحلال .

والرواية الأولى أصرح عنه ; لأن المحرم هو الأشعث الأغبر ، والسدر والخطمي يزيل الشعث والغبار ; ولأنه غالبا يقطع الشعر ، ويقتل الدود .

وأما المحرم الميت : فقد روي عن أحمد أنه بمنزلة الحي ، فقال - في رواية حنبل - وقيل له يغسل ؟ قال : " يصب عليه الماء ، قال : لا يغسل كما يغسل الحلال " .

وقال أبو الحارث : " سألت أبا عبد الله عن المحرم إذا مات يغسل كما يغسل الحلال أو يغسل بالسدر والماء ؟ قال : يغسل بالماء والسدر " . حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغسلوه بماء وسدر ، ولا تخمروا رأسه ، ولا تمسوه طيبا " . قلت : " فإذا غسل يدلك رأسه بالسدر ؟ قال : ما أدري كذا جاء الخبر يغسل بماء وسدر ، قيل له : فتذهب إلى أن يخمر وجهه ويكشف رأسه ؟ قال : [ ص: 118 ] نعم على ما جاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أصح من غيره .

قال أبو عبد الله : " وكان عطاء يقول : يخمر رأسه يغسل رأسه بالسدر ، وقد روى عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه يخمر رأسه وهو محرم " . مرسل ، وحديث ابن عباس أصح .

وقال ابن جريج : " أنا أقول يغسل بالسدر ولا يخمر رأسه ، قلت : فما ترى ؟ قال : أهاب أن أقول يغسل بالسدر وأحب العافية منها ، قلت : فيجزئه أن يصب على رأسه الماء فقط ؟ قال : يجزئه إن شاء الله " .

قال أبو عبد الله : " الذي أذهب إليه حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يغسل بماء وسدر ولا يخمر رأسه ولا يمس طيبا " .

فقد توقف في دلك رأسه بالسدر . وقد ذكر أصحابنا رواية أنه لا يغسل رأسه بالسدر كالحي ، وحملوا حديث ابن عباس على أن المقصود غسل بدنه بالسدر وأن السدر يذر في الماء .

والصواب : الفرق بينهما .

قال الخلال : " ما رواه أبو الحارث في غسله فيه توقف وجبن ، غير أنه قد روى ما روى حنبل : أنه لا يدلك رأسه ويصب عليه الماء صبا ، ويكون فيه السدر ، وبين عنه حنبل أنه يصب الماء ولا يغسل كما يغسل الحلال ، وعلى هذا استقر قوله .

ووجه الفرق بين الحي والميت : أن الميت محتاج إلى الطهارة والنظافة فإن هذا آخر عهده بالدنيا ، وليس حال ينتظر فيها إزالة تفثه ، فجاز أن يرخص له في ذلك كما رخص لمن لم يجد الإزار والنعلين في لبس السراويل والخفين ; إذا كان ذلك مما تدعو إليه الحاجة فكذلك موتى المحرمين بهم حاجة عامة [ ص: 119 ] إلى إزالة الوسخ والشعث ، فرخص لهم في ذلك ، وإنما منع أحمد من قوة الدلك خشية تقطيع الشعر.

قال أبو الحارث : " قلت لأحمد : المحرم يغسل الميت ، قال : نعم فإذا فرغ من غسله طيبه غيره ; لأن المحرم لا يمس طيبا فيجعله رجل حلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية