الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

وإذا ذبح المحرم صيدا : فهو حرام كما لو ذبحه كافر غير الكتابي ، وهو بمنزلة الميتة ، وتسمية الفقهاء المتأخرين : ميتة : بمعنى أن حكمه حكم الميتة ، إذ حقيقة الميتة ما مات حتف أنفه ، قال - في رواية حنبل - : إذا ذبح المحرم لم يأكله حلال ولا حرام هو بمنزلة الميتة .

وفي لفظ لحنبل وإبراهيم في محرم ذبح صيدا : " هو ميتة ; لأن الله تعالى قال : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) فسماه قتلا فكل ما اصطاده المحرم أو ذبحه فإنما هو قتل قتله .

وفي لفظ : لا إذا ذبح المحرم الصيد لم يأكله أحد ; لأن الله سماه قتلا فلا يعجبنا لأحد أن يأكله .

وذلك لما احتج به أحمد من قول الله سبحانه ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) فسمى الله سبحانه رمي [ ص: 154 ] الصيد بالسهم ونحو ذلك قتلا ، ولم يسمه تذكية .

وذلك يقتضي كونه حراما من وجوه :

أحدها : أن كل حيوان نهى الشرع عن قتله ، فإنه حرام ، كما نهى عن قتل الضفدع ، وعن الهدهد ، والصرد ، وعن قتل الآدمي ; لأن النهي عن قتله يقتضي شرفه وكرامته وذلك يوجب حرمته .

الثاني : أنه سمى جرحه قتلا ، والقتل إذا أطلق في لسان الشرع فإنه يقتضي الفعل المزهق للروح الذي لا يكون ذكاة شرعية ، كما قال تعالى : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ) ، ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) إلى غير ذلك من ذكر قتل الآدمي ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ينزل ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير " ، وقال : " خمس من الدواب يقتلن في الحل ، ولا جناح على من قتلهن " وقال " اقتلوا الأبتر وذو [ ص: 155 ] الطفيتين " وأمر بقتل الأسودين في الصلاة ؛ الحية والعقرب ، ونهى عن قتل الحيوان لغير مأكلة ، وقال : " من قتل عصفورا بغير حقه فإنه يعج إلى الله يوم القيامة يقول : ربي سل هذا فيم قتلني " .

[ ص: 156 ] وسئل عن ضفدع تجعل في دواء ، فنهى عن قتلها ، وقال : " إن نقيقها تسبيح " ، ونهى عن قتل أربع من الدواب ، وقال في الفعل المبيح : " إلا ما ذكيتم " ، وقال : " دباغ الأديم ذكاته " ، وقيل له : أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ " .

[ ص: 157 ] فلما سمى الله سبحانه رمي الصيد بالسهم وإزهاق روحه قتلا ، ولم يسمه ذكاة ولا عقرا ، علم أنه ليس مذكى تذكية شرعية .

وأيضا فإن هذا عقر قد حرمه الشرع لمعنى في القاتل ، فلم يفد الإباحة ولا الطهارة كذبح المجوسي والمرتد ، وعكسه ذبح المسروق والمغصوب - إن سلم - فإن ذلك المعنى في المالك ، وهو أن نفسه لم تطب به ، ولهذا لا يختلف حال الغاصب قبل الإذن وبعده ، إلا فيما يتعلق بالمغصوب خاصة بخلاف المحرم ، فإن إحرامه صفة في نفسه تكون مع وجود الصيد وعدمه كدين المشرك والمرتد .

وأيضا فإنه عقر محرم لحق الله فلم يفد الإباحة ، كالعقر في غير الحلق واللبة ، وبكلب غير معلم ، وبدون التسمية وبدون قصد الذكاة ، وعقر المشرك ، وذلك لأن الحيوان قبل الذكاة حرام فلا يباح إلا بأن يذكى على الوجه المأذون فيه ، كما أن الفرج قبل العقد محرم ، فلا يباح إلا بعقد شرعي ، فإذا نهى الشارع عن عقره لم يكن عقره مشروعا ، فيبقى على أصل التحريم ، كما لو نكح المرأة نكاحا لم يبحه الشارع ; ولأنه قتل لا يبيحه المقتول لقاتله بحال ، فلا يباح لغيره كسائر ما نهى عنه الشرع من القتل ; ولأنه قتل محرم لحرمة الحيوان وكرامته ، فلا يفيد الحل كذبح الإنسان والضفدع والهدهد ; ولأن جرح الصيد الممتنع يفيد الملك والإباحة ، واقتضاؤه الملك أقوى من اقتضائه الإباحة ; لأنه يحصل بمجرد إثباته وبدون قصد الذكاة ، ويثبت للمشرك ، فإذا كان جرح الصيد في حال الصيد لا يفيد الملك ، فأن لا يفيد الإباحة أولى وأحرى .

وصيد الحرم - إذا ذبح فيه - بمنزلة الميتة : كالصيد الذي يذبحه المحرم ، [ ص: 158 ] قال - في رواية ابن منصور - وقد سئل : هل يؤكل الصيد في الحرم ؟ قال : إذا ذبح في الحل . ونقل عنه أيضا : إذا رماه في الحل فتحامل فدخل الحرم يكره أكله " .

وقال - في رواية حنبل - : وإن دخل الحرم فلا يصطاد ، ولا أرى أن يذبح إلا أن يدخل مذبوحا من خارج الحرم فيأكله ، ولا أرى أن يذبح شيئا من صيد الحل ولا الحرم ، وكذلك صيد المدينة الذي يصطاد فيه ، قال - في رواية حنبل - : صيد المدينة حرام أكله حرام صيده ، وخرجها القاضي على وجهين ، أحدهما : كذلك ، والثاني : الفرق ; لأن حرمة حرم المدينة لا يوجب زوال الملك في الصيد المنقول إليها من خارج بخلاف حرمة حرم مكة .

وإن أخرجه من الحرم ثم ذبحه : لم يحل أيضا كما لو أمسكه حتى تحلل ثم ذبحه ، وإذا اشترك حلال وحرام في قتل صيد ، فهو حرام أيضا ، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في الذكاة .

وإن أعان المحرم حلالا بدلالة أو إعارة آلة ونحو ذلك ، فقال القاضي وأصحابه : هو ذكي مباح للحلال ولغير المحرم الدال ; لأن في حديث أبي [ ص: 159 ] قتادة : " فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة ، فعقر منها أتانا ، فنزلوا فأكلوا من لحمها ، قال : فقالوا : أكلنا لحما ونحن محرمون ، فحملوا ما بقي من لحم الأتان ، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : يا رسول الله إنا كنا أحرمنا ، وكان أبو قتادة لم يحرم ، فرأينا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا ، فنزلنا فأكلنا من لحمها ، فقالوا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي . فقال : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها " . رواه البخاري ، وفي لفظ مسلم : هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء ؟ قال : قالوا : لا . قال : فكلوا ما بقي من لحمها " .

وهذا يقتضي أنه لو أشار بعضهم حرم على جميعهم .

وقال أبو بكر : إذا أبان المحرم فاصطاده حلال : فعلى المحرم الجزاء ولا يأكل الحلال والمحرم من الصيد ; لأنه في حكم الميتة .

ولأنه إذا أعان المحرم على قتله : كان مضمونا عليه ، وضمانه يقتضي أنه قتل بغير حق فيكون ميتة ، فإن الذكي لا يضمن كما لو ذبحه الحلال لحرم .

[ ص: 160 ] وإن كسر بيضة أو قطع شجرة : لم يجز له الانتفاع بها ، وأما لغيره ... فإذا اضطر إلى الصيد جاز له عقره ، ويأكله وعليه الجزاء ; لأن الضرورة تبيح أكل جميع المحظورات ، سواء كان المنع لحق الله أو لحق آدمي ، والصيد لا يخرج عن هذين .

وإذا قتله : فهل يكون ذكيا بحيث يباح أكله للمحلين أو ميتة ؟ قال : ليست هذه ذكاة بل هو ميتة في جميع الأحوال ; لأن أحمد قال : إنما سماه الله قتلا .

وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا : فإنه يأكل الميتة ويدع الصيد . نص عليه في رواية الجماعة .... ; لأن الله استثنى حل الميتة في كتابه للمضطر بقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) ولم يستثن حل الصيد لأحد ، وإنما أبيح استدلالا وقياسا ، وما ثبت حكمه بالنص مقدم على ما ثبت بالاجتهاد ، لا سيما وهو في هذا الحال قد لا يكون مضطرا إلى الصيد .

[ ص: 161 ] وأيضا فإن الصيد يحرم أخذه وقتله وأكله ، والميتة إنما يحرم أكلها خاصة ، وما حرم فيه ثلاثة أفعال ، أعظم مما يحرم فيه فعل واحد .

وأيضا فإن الصيد قد صار بالإحرام حيوانا محترما يشبه الآدمي وماله ، والميتة لا حرمة لها في نفسها ، فيكون استحلال ما لا حرمة له أولى من استحلال ما هو محترم ، كما تقدم الميتة على أخذ أموال الناس .

وأيضا فإن الصيد يوجب بقاء الجزاء في ذمته ، والميتة بخلاف ذلك .

فإن قيل : الصيد أيسر ; لأن من الناس من يقول : هو ذكي وأن أكله حلال ، قيل : هذا غلط ; لأن أحدا من المسلمين لم يقل إنه حلال للقاتل ولا ذكي بالنسبة إليه ، وكونه حلالا لغيره لا يؤثر فيه كطعام الغير مع الميتة ، فإن الميتة تقدم عليه .

فإن وجد ميتة وصيدا قد ذبحه محرم ، فقال القاضي : يأكل ذبيحة المحرم هنا ويترك الميتة ; لأنه لا يحتاج أن يفعل في الصيد غير الأكل ، وأكله أخف حكما من أكل الميتة ; لأن من الناس من يقول : هو ميتة وذكي .

فأما إن ذبح هو الصيد فهنا ينبغي أن يقدم الميتة .

وإن وجد صيدا وطعاما مملوكا لا يعرف مالكه فقال ... يقدم أكل طعام الغير ، وقيل ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية