الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 185 ] مسألة : ( السابع : عقد النكاح لا يصح منه ، ولا فدية فيه ) :

وجملة ذلك : أن المحرم إن كان رجلا لا يصح أن يتزوج بنفسه ولا وكيله ولا وليه ، بحيث لو وكل وهو حلال رجلا لم يجز أن يزوجه بعدما يحرم الموكل ، فأما إذا وكل وهو حرام من زوجه بعد الحل فقال القاضي وابن عقيل : يجوز ذلك .

فعلى هذا لو وكل وهو حلال ثم أحرم ثم حل جاز أن يزوج الوكيل بذلك التوكيل المتقدم وأولى ; لأن العبرة بحال العقد ، ولأن التصرف بالوكالة الفاسدة جائز ; لكن هل يجوز الإقدام على التوكيل ؟

وإن كانت امرأة لم يجز أن تزوج وهي محرمة بإذن متقدم على الإحرام أو في حال الإحرام ; لكن إذا أذنت حال الإحرام ... وذلك لقوله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ) ... .

وعن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ، وفي رواية عن نبيه بن [ ص: 186 ] وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبان ، وزعم أن عثمان حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المحرم لا ينكح ولا ينكح " وفي رواية : " أراد ابن معمر أن ينكح ابنه بنت شيبة بن جبير فبعثني إلى أبان بن عثمان - وهو أمير الموسم فأتيته فقلت : إن أخاك أراد أن ينكح ابنه فأراد أن يشهدك ذاك ، فقال : ألا أراه عراقيا جافيا ; إن المحرم لا ينكح ولا ينكح ، ثم حدث عن عثمان بمثله يرفعه " رواهما أحمد بإسناد صحيح .

[ ص: 187 ] وفي رواية عن نافع عن نبيه مثله ، قال نافع : وكان ابن عمر يقول هذا القول ، ولا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك .

وعن أيوب بن عتبة ثنا عكرمة بن خالد ، قال : " سألت عبد الله بن عمر عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل - وهو خارج من مكة - فأراد أن يعتمر أو يحج ، فقال : لا يتزوجها وهو محرم ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه " رواه أحمد وأبو بكر النيسابوري .

وروى سعيد ثنا عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى عن عكرمة بن خالد المخزومي أن ابن عمر نهاه أن ينكح وهو محرم .

[ ص: 188 ] وروى النفيلي ثنا مسلم بن خالد الزنجي عن إسماعيل عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المحرم لا ينكح ولا ينكح " قال النفيلي : هذا حديث منكر ، وهذا رجل ضعيف ؛ الزنجي ، رواه الخلال عن الميموني عنه في العلل .

وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتزوج المحرم ولا يزوج " رواه الدارقطني .

وأيضا فقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة ، فعن غطفان بن طريف المري أن أباه طريفا تزوج وهو محرم ، فرد عمر بن [ ص: 189 ] الخطاب نكاحه .

وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : " لا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره " رواهما مالك وغيره .

وعن الحسن أن عليا قال : " من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولا نجيز نكاحه " رواه ابن أبي عروبة وأبو بكر النيسابوري من حديث قتادة عنه .

وعن شوذب مولى زيد بن ثابت : " أنه تزوج وهو محرم ، ففرق بينهما زيد بن ثابت " رواه عبد الله بن أحمد ، وقال : قرأت على أبي : يتزوج المحرم ؟ [ ص: 190 ] قال : لا يتزوج ، قال : يروى عن عمر وعلي : يفرق بينهما ، وزيد بن ثابت قال : يفرق بينهما ، وابن عمر قال : لا ينكح ولا ينكح .

وروي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينكح المحرم ولا ينكح " .

وهؤلاء أكابر الصحابة لم يقدموا على إبطال نكاح المحرم والتفريق بينهما إلا بأمر بين وعلم اطلعوه ربما يخفى على غيرهم ، بخلاف من نقل عنه إجازة نكاح المحرم ، فإنه يجوز أن يبني على استصحاب الحال .

فإن قيل : فقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " تزوج ميمونة وهو محرم " رواه الجماعة ال ر ، وفي رواية للبخاري : " وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف " وللبخاري تعليقا : " تزوج النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء ميمونة وهو حلال وماتت بسرف " .

[ ص: 191 ] وفي رواية للنسائي : " جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه " وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " تزوج ميمونة بنت الحارث وهما محرمان " رواه أحمد من حديث حماد بن سلمة عن حميد عنه .

وعن الشعبي وعطاء وعكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزوج ميمونة وهو محرم " ولفظ الشعبي : احتجم وهو محرم وتزوج الهلالية وهو محرم " رواهن سعيد .

وعن أبي هريرة وعائشة ... ، وعن عكرمة عن ابن عباس : " أنه كان لا يرى به - يعني بنكاح المحرم - بأسا ، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج [ ص: 192 ] ميمونة بنت الحارث وهو محرم بسرف ، وبنى بها لما رجع بذلك الماء " رواه سعيد بن أبي عروبة عن يعلى بن خليفة عنه .

ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضية من ذي الحليفة ، فإنه لم يجزها بغير إحرام قط ، وكانت ميمونة بمكة ، وقد .... روي أنه قال لأهل مكة : " دعوني أعرس بينكم لتأكلوا من وليمتها ، فقالوا : لا حاجة لنا في وليمتك ، فاخرج من عندنا ، فخرج حتى أتى سرفا وأعرس بها " .

قيل عنه أجوبة :

أحدها : أنه قد روى يزيد بن الأصم عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال ، قال : وكانت خالتي وخالة ابن عباس " [ ص: 193 ] رواه مسلم وابن ماجه ، وفي رواية لأحمد والترمذي ، والبرقاني عن يزيد عن ميمونة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا ، وماتت بسرف فدفناها في الطلحة التي بنى بها فيها " وفي رواية لأبي داود : " تزوجني ونحن حلالان بسرف " .

وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله : " تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما " . [ ص: 194 ] رواه أحمد والترمذي ، وقال : حديث حسن ، ولا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر ، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مرسلا ، ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا ، وهذه الرواية مقدمة على رواية ابن عباس لوجوه :

أحدها : أنها هي المنكوحة وهي أعلم بالحال التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هل كانت في حال إحرامه أو في غيرها من ابن عباس .

الثاني : أن أبا رافع كان الرسول بينهما وهو المباشر للعقد فهو أعلم بالحال التي وقع فيها من غيره .

الثالث : أن ابن عباس كان إذ ذاك صبيا له نحو من عشر سنين وقد يخفى على من هذه سنه تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه ; أما أولا : فلعدم كمال الإدراك والتمييز ، وأما ثانيا : فلأنه لا يداخل في هذه الأمور ولا يباشرها ، وإنما يسمعها من غيره ، إما في ذلك الوقت أو بعده .

[ ص: 195 ] الرابع : أن السلف طعنوا في رواية ابن عباس هذه ، فروى أبو داود عن سعيد بن المسيب قال : وهم ابن عباس في قوله : " تزوج ميمونة وهو محرم " .

وقال أحمد في رواية أبي الحارث وقد سئل عن حديث ابن عباس : هذا الحديث خطأ ، وقال في رواية المروذي : أذهب إلى حديث نبيه بن وهب ، فقال له المروذي : إن أبا ثور قال لي : بأي شيء تدفع حديث ابن عباس ؟ فقال أبو عبد الله : الله المستعان ، قال سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس ، وميمونة تقول : تزوج وهو حلال ، وقال : إن كان ابن عباس ابن أخت ميمونة فيزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة ، وقال أبو رافع : كنت السفير بينهما .

وعمر بن الخطاب يفرق بينهما ، هذا بالمدينة لا ينكرونه .

[ ص: 196 ] وقال ميمون بن مهران : أرسل إلي عمر بن عبد العزيز أن سل يزيد بن الأصم كيف تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة ، فسألته فقال : " تزوجها وهو حلال " رواه سعيد ، وقال عمرو بن دينار : أخبرت الزهري به - يعني بحديثه - عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ، فقال : " أخبرني يزيد بن الأصم - وهي خالته - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال " رواه مسلم .

فهذا سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعامة علماء المدينة ، وهم أعلم الناس بسنة ماضية ، وأبحثهم عنها ، قد استبان لهم أن الصواب رواية من روى أنه تزوجها حلالا ، وكذلك سليمان بن يسار يقول ذلك وهو مولاها .

الخامس : أن الرواية بأنه تزوجها حلالا كثيرون ; فهي منهم ، وأبو رافع [ ص: 197 ] وعن ميمون بن مهران عن صفية بنت شيبة ، وكانت عجوزا أن النبي صلى الله عليه وسلم " ملك ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وخطبها وهو حلال " ذكره القاضي عن ميمون بن مهران قال : أتيت صفية ابنة شيبة امرأة كبيرة فقلت لها : أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم ؟ قالت : لا والله ، ولقد تزوجها وهما حلالان " رواه ابن أبي خيثمة ورواه من التابعين خلق كثير .

وأما الرواية الأخرى فلم ترد إلا عن ابن عباس ، وعن أصحابه الذين أخذوها عنه ، قال ابن عبد البر : ما أعلم أحدا من الصحابة روي عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم إلا ابن عباس .

وإذا كان أحد الخبرين أكثر نقلة ورواة ، قدم على مخالفه ، فإن تطرق الوهم والخطأ إلى الواحد أولى من تطرقه إلى العدد ، لا سيما إذا كان العدد أقرب إلى الضبط وأجدر بمعرفة باطن الحال .

السادس : أن في رواية عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما محرمان ، وأن عقد النكاح كان بسرف ، ولا ريب أن هذا غلط ، فإن عامة [ ص: 198 ] أهل السير ذكروا أن ميمونة كانت قد بانت من زوجها بمكة ولم تكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته ، فإنه لم يقدم بها من المدينة ، وإذا كانت مقيمة بمكة فكيف تكون محرمة معه بسرف ، أم كيف وإنما بعث إليها جعفر بن أبي طالب خطبها ، وهو يوهن الحديث ويعلله .

السابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في عمرة القضية في خروجه ، ورجع بها معه من مكة ، وإنما كان يحرم من ذي الحليفة فيشبه أن تكون الشبهة دخلت على من اعتقد أنه تزوجها محرما من هذه الجهة ، فإن ظاهر الحال أنه تزوجها في حال إحرامه .

أما من روى أنه تزوجها حلالا فقد اطلع على حقيقة الأمر وأخبر به ، فإما أن يكون تزوجها قبل الإحرام أو بعد قضاء عمرته ، لا سيما ومن روى أنه تزوجها قبل الإحرام معه مزيد علم .

وقد روى مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مولاه أبا رافع ورجلا من الأنصار ، فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج " ورواه الحميدي عن عبد العزيز [ ص: 199 ] بن محمد عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العباس بن عبد المطلب ، وأبا رافع فزوجاه بسرف وهو حلال بالمدينة .

وهذا فيه نظر ، وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو يقوى من جهتين :

إحداهما : أن سليمان بن يسار هو مولاها ، فمثله قد يطلع على باطن حالها ، ومعه مزيد علم خفي على غيره .

الثاني : أنه هو الذي روى حديث أبي رافع عنه كما تقدم ، وأهل الحديث يعدونه حديثا واحدا أسنده سليمان تارة ، وأرسله أخرى ، فيعلم أنه تلقى هذا الحديث عن أبي رافع وهو كان الرسول في النكاح .

وقد روى يونس بن بكير عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم قال : " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال ، بعث إليها الفضل بن العباس ورجل معه فزوجوه إياها " وهذا يوافق الذي قبله في تقدم النكاح ، ويخالفه في تسمية أحد الرجلين .

فإن قيل : فقد تقدم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة عن [ ص: 200 ] حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت : " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف " وفي رواية : " بسرف ونحن حلال بعدما رجعنا من مكة " رواه أحمد ، وهذا لا يمكن إلا بعد العمرة وهو قافل من مكة إلى المدينة .

وقد روى الأوزاعي قال : حدثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم " تزوج ميمونة وهو محرم " قال سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس ، وإن كانت خالته ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما حل . رواه ابن عبد البر .

وقال ابن إسحاق : حدثني نفر عن ابن المسيب أنه قال : " هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم ، وكذب ، وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس " .

وهذا يدل على أن من روى أنه تزوجها حلالا اعتقد تأخر العقد عن الإحرام [ ص: 201 ] وابن عباس أخبر بوقوعه قبل ذلك ، فيكون هو الذي قد اطلع على ما خفي على غيره ، يؤيد ذلك ما روى سنيد بن الحباب بن أبي معشر عن شرحبيل بن سعد قال : لقي العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية ، فقال له العباس : يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث بن حرب بن أبي رهم بن عبد العزى ، فهل لك في أن تزوجها ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ، فلما أن قدم مكة أقام ثلاثا فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة ، فقال : يا محمد اخرج عنا ، اليوم آخر شرطك ، فقال : دعوني أبتني بامرأتي وأصنع لكم طعاما ، فقال : لا حاجة لنا بك ولا بطعامك ، اخرج عنا ، فقال له سعد : يا عاض بظر أمه أرضك وأرض [ ص: 202 ] أمك دونه ، لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يشاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهم فإنهم زارونا لا نؤذيهم ، فخرج فبنى بها بسرف " .

وروى ابن إسحاق قال : حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفرته في هذه العمرة وكان الذي زوجه العباس بن عبد المطلب ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود في نفر من قريش ، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، فقالوا : قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، فقال لهم : لو تركتموني فعرست بين أظهركم وصنعنا طعاما فحضرتموه ؟ فقالوا : لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا ، فخرج وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف ، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك " .

وقد ذكر البخاري بعض هذا الحديث تعليقا فقال : وزاد ابن إسحاق : حدثني ابن نجيح وأبان بن صالح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء .

فقد اضطربت هذه الروايات في وقت تزوجه ، فمن قائل أنه تزوجها قبل [ ص: 203 ] الإحرام ، ومن قائل عقب الحل بمكة ، ومن قائل بسرف وهما حلالان ; إما قبل الإحرام أو بعد رجوعه إلى المدينة ، ثم أجود ما فيها حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة ، وحديث سليمان بن يسار عن أبي رافع ، وقد رويا مرسلين من وجوه هي أقوى من رواية من أسند ، وهذه علة فيهما إن لم توجب الرد فإنها توجب ترجح حديث ابن عباس الذي هو أصح إسنادا .

قال عمرو بن دينار : حديث ابن شهاب عن جابر بن زيد عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم فقال ابن شهاب : حدثني يزيد بن الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال ، قال عمرو : فقلت لابن شهاب : أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على عقبيه " .

قيل : أما رواية من روى أنه تزوجها وهما حلالان بسرف إن كانت محفوظة فإن معناها والله أعلم أنه بنى بها ودخل بها بسرف كما فسرت ذلك جميع الروايات ، فإنها كلها متفقة على أنه بنى بها بعد منصرفه من عمرته بسرف ، وأكثر الروايات على أن عقد النكاح تقدم على ذلك ، وقد تقدم أنه أراد أن يبني بها بمكة ، اللهم إلا أن يكون تقدم الخطبة والركون ، ولم يعقد العقد إلا بسرف حين البناء ؛ فإن هذا ممكن ، وعلى هذا حمل القاضي الروايتين ، وفسر قوله : دعوني أعرس ، معناه : أعقد وأعرس ، فلما منعوه خرج إلى سرف فعقد وأعرس .

[ ص: 204 ] وأما رواية من روى أنه تزوجها قبل الإحرام أو بعده ، فإما أن يكون الأول هو المطلع على حقيقة الأمر وخفي على الثاني ، فإن ذاك مثبت وهذا ناف لا سيما وسليمان بن يسار ، ويزيد بن الأصم أعلم بهذه القضية من غيرهما ثم لم يتحدث بالعقد ولم يظهر إلا بعد مقدمه مكة وانقضاء عمرته ، ومن هنا اعتقد من اعتقد أن العقد وقع في أثناء الإحرام ، وقد ذكر هذا القاضي ، وقال : هذا تأويل جيد ، أو أن يكون بعث أبا رافع ومن معه فخطبا له ووقع الاتفاق والمواطأة على العقد ثم لم يعقد إلا بعد الإحرام .

وأما كونهما قد رويا مرسلين ، وكون يزيد بن الأصم لا يعدل ابن عباس فليس بشيء ، فإنه قد روي مسندا من وجوه مرضية مخرجة في الصحاح والحسان ، والقصة إذا أسندها من يحدثها تارة وأرسلها أخرى كان أوكد في ثبوتها عنده وثقته بحديث من حدثه ، فإنه إنما يخاف في الإرسال من ضعف الواسطة ، فمتى سماه مرة أخرى زال الريب .

وابن عباس رضي الله عنه لم يعارض به يزيد بن الأصم في شيء يكون ابن عباس أعلم به منه ، وإنما هو أمر نقلي ، العالم والجاهل فيه سواء ، ثم ابن عباس لم يسند روايته إلى أحد ويزيد قد أسند روايته إلى خالته المنكوحة أم المؤمنين ولا ريب أنها أعلم بحالها من ابن أختها ابن عباس .

الجواب الثاني : أن تزوج ميمونة وإن لم يحكم فيه بصحة رواية من روى أنه تزوجها حلالا فلا ريب أنه قد اضطربت فيه النقلة ، ومع ما تقدم فلا وجه يصح الاحتجاج به لعدم الجزم بأنه تزوجها وهو محرم ، فتتساقط الروايتان ، وحديث عثمان لا اضطراب فيه ولا معارض له .

[ ص: 205 ] الجواب الثالث : أنه لو تيقنا أنه تزوجها محرما لكان حديث عثمان هو الذي يجب أن يعمل به لأوجه :

أحدها : أن حديث عثمان ناقل عن الأصل الذي هو الإباحة ، وحديث ابن عباس مبق على الأصل ، فإن قدرنا حديث ابن عباس متأخرا لزم تغيير الحكم مرتين ، وإن قدرنا حديث عثمان متأخرا لكان تزوج ميمونة قبل التحريم ، فلا يلزم إلا تغيير الحكم مرة واحدة فيكون أولى .

الثاني : أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضية قبل فتح مكة وقبل فرض الحج ، كما تقدم ، ولم تكن أحكام الحج قد مهدت ، ولا محظورات الإحرام قد بينت ، وحديث عثمان إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ; لأن النهي عن اللباس والطيب إنما بين في حجة الوداع ، فكيف النهي عن عقد النكاح ؟ إذ حاجة المحرمين إلى بيان أحكام اللباس أشد من حاجتهم إلى بيان حكم النكاح ، والغالب أن البيان إنما يقع وقت الحاجة . فهذه القرائن وغيرها تدل - من كان بصيرا بالسنن كيف كانت تسن ، وشرائع الإيمان كيف كانت تنزل - : أن النهي عن النكاح متأخر .

الثالث : أن تزوجه فعل منه ، والفعل يجوز أن يكون خاصا به ، وحديث عثمان نهي لأمته ، والمرجع إلى قوله أولى من فعله ، ومن رد نص قوله وعارضه بفعله فقد أخطأ .

الرابع : أن حديث عثمان حاظر وحديث ابن عباس مبيح ، والأخذ بالحاظر أحوط من الأخذ بالمبيح .

الخامس : أن أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان ، وإذا اختلفت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون . ولم يخالفهم أحد من الصحابة فيما بلغنا إلا ابن عباس ، وقد علم مستند فتواه ، وعلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفي على من لم يحرمه ، فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس ، وأصحاب رسول الله [ ص: 206 ] صلى الله عليه وسلم أعلم بالله وأخشى من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون بخلاف من أباحه فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية ، وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند آخر مضطرب .

السادس : أن أهل المدينة متفقون على هذا علما ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد ونظرائه ، وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة كان أولى من غيره في أصح الوجهين ، وهو المنصوص عن أحمد في مواضع ، وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة أهل المدينة ، لا سيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث ، فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار ، وهم أعلم بالسنة من سائر أهل الأمصار ، وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم ، وإنما كان الناس تبعا لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان وبعد ذلك ، فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم ، فلم يكونوا بدون من سواهم ، ونحن وإن لم نطلق القول [ ص: 207 ] بأن إجماعهم حجة فإنا نضعهم مواضعهم ، ونؤتي كل ذي حق حقه ونعرف مراتب المحدثين والمفتين والعاملين لنرجح عند الحاجة من يستحق الترجيح ، وفي المسألة أقيسة شبيهة ، ومعان فقهية .

وأيضا فإن الإحرام تحريم جميع دواعي النكاح تحريما يوجب الكفارة مثل القبلة والطيب ، ويمنع التكلم بالنكاح والزينة ، وهذه مبالغة في حسم مواد النكاح عنه .

وعقد النكاح من أسبابه ودواعيه ، فوجب أن يمنع منه وعكسه الصيام والاعتكاف ، فإنه يحرم القبلة ولا يمنع الطيب والتكلم بالنكاح ، والاعتكاف . وإن قيل بكراهة الطيب فيه فإنه لا يحرم ذلك ، ثم لا كفارة في شيء من مقدمات النكاح إذا فعله في الصيام والاعتكاف .

وقد بالغ الشرع في قطع أسبابه ، حتى إنه يفرق بين الزوجين في قضاء الحجة الفاسدة .

وأيضا فإن المقصود بالنكاح : حل الاستمتاع ، فمن حقه ألا يصح إلا في حل يقبل الاستمتاع ، وأن لا يتأخر حل الاستمتاع عن العقد ; لأن السبب إذا لم يفد حكمه ومقصوده وقع باطلا ، كالبيع في محل لا يملكه ، والإجارة على منافع لا تستوفى ، ولهذا لم يصح في المعتدة من نكاح أو في شبهة أو زنا ، ولا في المستبرأة في ظاهر المذهب ، [ ص: 208 ] وإن قيل : تعتد بعد العقد . وسائر أحكام النكاح من الإرث ووجوب النفقة وجواز الخلوة والنظر توابع لحل الاستمتاع .

وإنما صح نكاح الحائض والنفساء والصائمة ; لأن بعض أنواع الاستمتاع هناك ممكن ، أو وقت الاستمتاع قريب ، فإن الصائم يستمتع بالليل والحائض يستمتع منها بما دون الفرج ، وأما المعتكف فإن أصحابنا قالوا : يصح نكاحه لأن منعه ... .

والإحرام يمنع الاستمتاع بكل حال منعا مؤكدا تطول مدته على وجه يفضي الاستمتاع إلى مشاق شديدة من المضي في الفاسد ووجوب القضاء والهدي والتعرض لسخط الله وعقابه ، والإحرام لا ينال إلا بكلف ومشاق ، وليس في العبادات أشد لزوما وأبلغ نفوذا منه ، فإيقاع النكاح فيه إيقاع له .

وأيضا فإن الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه ، وترك أنواع الاستمتاعات فلا يلبس اللباس المعتاد ، ولا يتطيب ولا يتزين ولا يتظلل ، ويلازم [ ص: 209 ] الخشوع والاخشيشان ، ويقصد بيت الله أشعث أغبر أدفر قملا ، ولا شك أن من يتزوج فقد فتح باب التنعم والاستمتاع وعقد أسباب اللذة والشهوة وتعرض للهو واللعب ، وحاله مخالفة لحال الخاشع المعرض عن جميع العادات ، والصائم يخالفه في عامة هذه الأشياء فإن تحفية الطيب والمجمر ، والمعتكف بينهما .

وأيضا فإن المعتدة عن وفاة الزوج منعت الطيب والزينة حسما لمواد النكاح ومفارقة لحال المتزوجة وألزمت لزوم المنزل ، والمحرمة قد منعت الطيب والزينة فهي كالمعتدة من الوجه .

وأيضا فإن المقصود من النكاح الاستمتاع ، فلما منع المحرم من النكاح منع من مقصوده ، كتملك الصيد لما كان مقصوده ابتذال الصيد وإتلافه منع منه لما كان ممنوعا من مقصوده ; يوضح ذلك : أن نفس ملك الصيد لا محظور فيه كملك ... .

ولهذا لا يمنع دوام ملك النكاح والصيد ، وإنما يمنع من ابتدائهما ، وعكسه شراء الجواري والطيب واللباس ، لما لم يكن مقصوده مجرد الاستمتاع لم يمنع منه [ ص: 210 ] ( فصل )

وإذا تزوج وهو محرم ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية