الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

وأما من ساق الهدي ففيه ثلاث روايات ; إحداهن : لا ينحر هديه ، ولا يحل من إحرامه بتقصير ولا غيره إلى يوم النحر سواء قدم من مكة في العشر أو قبله ، قال - في رواية - حنبل : إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي لا يحل حتى ينحره ، والعشر أوكد إذا قدم في العشر لم يحل ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم في العشر ولم يحل .

وهذه الرواية هي المشهورة عند أصحابنا فيمنع من الإحلال والنحر سواء كان مفردا للحج ، أو متمتعا ، أو قارنا ، وهذا مما استفاض عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقدم ذكر ذلك في حديث ابن عمر وعائشة : " تمتع رسول الله [ ص: 469 ] - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى ، فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس : من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وذكر الحديث إلى أن قال : ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر " متفق عليه .

وعن عائشة قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج ، فقدمنا مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل ، ومن أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى يحل نحر هديه ، ومن أهل بالحج فليتم حجه " متفق عليه .

وقد تقدمت الأحاديث عن ابن عباس ، وجابر ، والبراء ، وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر جميع أصحابه أن يحلوا إلا من ساق الهدي .

وفي رواية لابن عباس : " أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمرة ، وأهل أصحابه بحج فلم يحل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من ساق الهدي من أصحابه ، وحل بقيتهم ، وكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل " رواه مسلم .

وعن أسماء قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحل ، ولم يكن معي هدي فحللت ، وكان مع الزبير هدي فلم يحل " رواه مسلم .

[ ص: 470 ] وعن أبي موسى : " أنه أهل بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فقدمت عليه ، فقال : هل سقت من هدي ؟ قلت : لا ، قال : فطف بالبيت وبالصفا والمروة " .

وكان علي قد أهل بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وساق الهدي فلم يحل ، وقد تقدم ذلك .

فهذه الأحاديث : نصوص في أن من ساق الهدي لا يحل إلى يوم النحر سواء كان متمتعا ، أو مفردا أو قارنا ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع كل من ساق الهدي من الإحلال ، وقد كان فيهم المتمتع والمفرد والقارن ولم يستثن المتمتع ، ولو جاز الحل للمتمتع لوجب استثناؤه وبيان ذلك ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ; ولأنه جعل سوق الهدي هو المانع من الإحلال ولم يعلق المنع بغيره ، فعلم أنه مانع في حق المتمتع كما أنه مانع من الفسخ في حق المفرد والقارن ، إذ لو كان هناك مانع آخر لبينه ، ولأن كل من جاز له الفسخ سواء كان خاصا في حق الصحابة أو عاما للمسلمين إلى يوم القيامة بمنزلة المتمتع في جواز الإحلال ، فلما منع أصحاب الهدي من الإحلال علم أن سوق الهدي مانع من الإحلال حيث يجوز الحل لغير السائق .

ولأن حديث عائشة نص خاص في المتمتع إذا ساق الهدي لا يحل حتى ينحر هديه ويقضي حجته .

وأيضا : فإن الله سبحانه قال : ( ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) والحلق : هو أول التحلل بمنزلة السلام من الصلاة ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " وقال لأصحابه : " من ساق الهدي فلا يحل إلى يوم النحر " فعلم أن الإحلال والنحر لا يكون إلى يوم النحر ، فعلم أنه لا يجوز الإحلال حتى يحل نحر الهدي ، ولا يحل نحر الهدي إلى يوم النحر كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وذلك لأن [ ص: 471 ] نحر الهدي من أسباب التحلل ، وتقليده له وسوقه بمنزلة الإحرام للرجل ، ونحره بمنزلة الإحلال للرجل ; ولهذا قال تعالى : ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) ( حتى يبلغ الهدي محله ) والمحل : مشتق من الحل ، وذاك بإزاء الحرم ، فعلم أنه ذو حرم ، وإنما ينقضي الإحرام يوم النحر; لأن المتمتع إنما يتم نسكه بالحج .

والرواية الثانية : أن سائق الهدي يحل ليقصر من شعر رأسه إن شاء ، فأما غير ذلك من محظورات الإحرام فلا ، قال - في رواية أبي طالب - في الذي يعتمر قارنا أو متمتعا ومعه الهدي : قصر من شعرك ولا تمس شاربك ولا أظفارك ولا لحيتك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن شاء لم يفعل وإن شاء أخذ من شعر رأسه وهو حرام .

فقد بين أنه يحل من التقصير فقط ، ولا يحل من جميع المحظورات كما يحل الحاج إذا رمى من بعض المحظورات ; وذلك لما روى ابن عباس عن معاوية بن أبي سفيان قال : " قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص " رواه البخاري ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : " قال لي معاوية : إني قصرت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند المروة بمشقص ، فقلت له : لا أعلم هذه إلا حجة عليك " .

[ ص: 472 ] وعن ابن عباس أيضا قال : " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات ، وأبو بكر حتى مات ، وعمر حتى مات ، وعثمان حتى مات ، وكان أول من نهى عنها معاوية ، قال ابن عباس : فعجبت منه ، وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص " رواه أحمد والترمذي ، وقال : حديث حسن وفيه ليث بن سليم .

وعن قيس بن سعد عن عطاء عن معاوية قال : " أخذت من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص كان معي بعدما طاف بالبيت وبالصفا والمروة في أيام العشر ، قال قيس : والناس ينكرون هذا على معاوية " رواه النسائي ، وروى أحمد نحوه .

وأيضا : فإن قضاء العمرة يقتضي الإحلال ، وسوق الهدي يقتضي بقاء الإحرام ، فحل بالتقصير خاصة توفية لحق العمرة ولتتميز عن الحج ، وبقي على إحرامه من سائر المحظورات لأجل سوق الهدي ، لا سيما والتقصير متردد بين النسك المحض وبين استباحة المحظورات .

والرواية الثالثة : إن قدم في العشر لم ينحر ولم يحل ، وإن قدم قبل العشر نحر [ ص: 473 ] وحل إن شاء ، ثم هل يحل في العشر بالتقصير ؟ مبني على ما سبق ; لكن المنصوص عنه أنه يحل به ، قال - في رواية يوسف بن موسى وحرب - فيمن قدم متمتعا وساق الهدي : فإن قدم في شوال نحر الهدي وحل وعليه هدي آخر ، وإذا قدم في العشر أقام على إحرامه ولم يحل ، فقيل له : معاوية يقول : قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص ؟ فقال : إنما حل بمقدار التقصير ويرجع حراما مكانه .

وقال - في رواية أبي طالب - : ‌إذا كان قبل العشر نحر ولا يضيع ، لا يموت ، لا يسرق ، وهذا هو الذي ذكره القاضي في المجرد من غير خلاف ، قال : لأن له قبل العشر أن ينحر الهدي ويبقى بلا هدي ، وفي العشر ليس له أن ينحر الهدي فلا يتحلل ، وعامة أصحابنا على أنه ممنوع من الإحلال إذا قدم في العشر رواية واحدة ، وقال القاضي - في خلافه - : هذه الرواية تقتضي أن سوق الهدي لا يمنع التحلل عنده ، وإنما استحب له المقام على إحرامه إذا دخل في العشر ; لأنه لا يطول تلبسه بالإحرام ، وإذا دخل قبل العشر طال تلبسه فلا يأمن مواقعة المحظور .

والطريقة المشهورة ، هي الصواب .

ووجه ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إنما قدموا في العشر ، ومنعهم [ ص: 474 ] من الإحلال لأجل سوق الهدي ، فثبت الحكم في مثل ذلك ، ومن قدم قبل العشر لا يشبه ذلك ; لأن المدة تطول فيخاف أن يموت الهدي ، أو يضل ، أو يسرق ; ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المضحي إذا دخل العشر أن يأخذ من شعره أو بشره ، فالمتمتع الذي معه الهدي أولى أن لا يأخذ من شعره وبشره ، وما قبل العشر ليس بوقت لمنع المضحي ، فجاز أن لا يكون وقتا لمنع المهدى .

ولأن العشر من أول أوقات النسك وفيها تضاعف الأعمال الصالحة ، وشرع التكبير الذي هو شعار العيد ، وهي الأيام المعلومات التي يذكر الله فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام ، ولها خصائص كثيرة ، فجاز أن يؤخر النحر والحل فيها إلى يوم النحر بخلاف ما قبلها .

وعلى هذه الرواية ينحر الهدي قبل العشر ، وعليه هدي آخر نص عليه ; لأن دم المتعة لا ينحر إلا يوم النحر ، وإنما فائدة النحر جواز إحلاله من العمرة .

ومن أصحابنا من يحكي رواية : أنه يجزئه ذلك عن هدي المتعة ، وعلى هذه الرواية : لو كان مفردا أو قارنا فهل ينحر الهدي قبل العشر ؟ وهل له أن يتحلل ؟

والرواية الأولى : اختيار أصحابنا لما ذكرنا من الأحاديث الصريحة بذلك .

وهم وإن قدموا في العشر لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل بعلة عامة [ ص: 475 ] فقال : ... ، ولأنه قال لأصحابه : " من كان أهدى فلا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه " وهذا نهي عن التحلل بالتقصير وغيره ; فإنه نكرة في سياق النفي فكيف يجوز ؟ !

وأمر الذين لم يسوقوا الهدي أن يتحللوا بالتقصير ، فكيف يجوز أن يسوي بينهم - في التقصير - بعد إذنه فيه لمن لم يسق الهدي دون من ساق ؟ وقال عن نفسه : " لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله " وهذا نص في اجتنابه كل المحرمات من التقصير وغيره .

ثم هم إنما أنكروا أنه أمرهم بالتقصير ولم يقصر ، فلو كان قد قصر زال هذا ، ثم هو - صلى الله عليه وسلم - قد خطبهم بهذا وأمرهم به - وهو على المروة - والناس حوله ، فلو كان قد قصر من شعر رأسه لم يخف ذلك على أصحابه في مثل ذلك المشهد العظيم ، وكيف يقصر ولم يأمر غيره ممن ساق الهدي بالتقصير ؟ !

ومن تأمل أحاديث حجة الوداع وأحوالها كان كالجازم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل بشيء من الأشياء .

فأما حديث معاوية فحديث شاذ ، وقد طعن الناس فيه قديما وحديثا كما أخبر قيس : فإنهم أنكروا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر .

ويشبه - والله أعلم - أن يكون أصله أن معاوية قصر من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجعرانة ، فإنه في عمرة القضية لم يكن أسلم بعد .

والرواية الصحيحة المتصلة إنما فيها أنه قصر من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - على المروة بمشقص ، وكانت عمرة الجعرانة ليلا ، فانفرد معاوية بعلم هذا .

[ ص: 476 ] أما حجة الوداع فكان وقوفه على المروة ضحى ، والناس كلهم حوله ، ومثل هذا لا يجوز أن ينفرد بروايته الواحد ، وكانت الجعرانة في ذي القعدة .

وأما الرواية التي فيها : أنه قصر من رأسه في العشر فرواية منقطعة ; لأن عطاء لم يسمع من معاوية ، ومراسيله ضعاف ، ويشبه أن يكون الراوي لما سمع عن معاوية أنه قصر من رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص اعتقد أنه في حجته ، وقد علم أن دخوله مكة كان في العشر فحمل هذا على هذا .

يوضح هذا أن ابن عباس احتج على معاوية بروايته هذه في جواز العمرة في أشهر الحج ، وهم قد كانوا يسمون كل معتمر في أشهر الحج متمتعا ، وإن لم يحج من عامه ، ولهذا سئل سعد عن المتعة قال : فعلناها وهذا كان كافرا بالعرش - يعني معاوية - ، ومعاوية قد كان مسلما قبل حجة الوداع ، وإنما أراد فعلنا العمرة في [ ص: 477 ] أشهر الحج قبل أن يسلم معاوية ، يعني عمرة القضية ، فكيف ينهى عن العمرة في أشهر الحج ؟ !

التالي السابق


الخدمات العلمية