الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

فيما يحصل به التحلل الأول ، وفيه روايتان منصوصتان :

إحداهما : يحصل بمجرد الرمي ، فلو لبس قبل الحلق أو تطيب أو قتل الصيد لم يكن عليه شيء ، قال في رواية عبد الله وأبي الحارث : حجه فاسد إذا وطئ قبل أن يرمي ، وإن كان قد وقف بعرفة ; لأن الإحرام قائم عليه ، فإذا رمى الجمرة انتقض بعض إحرامه وحل له كل شيء إلا النساء .

وقال - في رواية ابن منصور - وقد سئل عن المحرم يغسل رأسه قبل أن يحلق ، فقال : إذا رمى الجمرة فقد انتقض إحرامه إن شاء غسله .

لأن في حديث ابن عباس : " إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء " وكذلك في حديث عائشة من رواية أبي داود .

[ ص: 540 ] والثانية : بالرمي والحلاق ، قال القاضي : وهو أصح الروايتين ، قال في رواية المروذي : ابدأ بشق رأسك الأيمن وأنت متوجه إلى الكعبة وقل : اللهم هذه ناصيتي بيدك اجعل لي بكل شعرة نورا يوم القيامة ، اللهم بارك لي في نفسي وتقبل عملي ، وخذ من شاربك وأظفارك ثم قد حل من كل شيء إلا النساء .

والمرأة تقصر من شعرها ، وتقول مثل ذلك .

وقد نص في مواضع كثيرة : على أن المعتمر ما لم يحلق أو يقصر فهو محرم ; لأن في حديث عائشة : " إذا رميتم وحلقتم " وهذه زيادة ... .

واختلف أصحابنا في مأخذ هذا الاختلاف على طرق ; فقال القاضي - في المجرد - وأبو الخطاب وجماعات من أصحابنا : هذا مبني على أن الحلق هل هو نسك أو طلاق من محظور ، وخرجوا في ذلك روايتين :

إحداهما : أنه إطلاق من محظور بمنزلة تقليم الأظفار ، وأخذ الشارب ، ولبس الثياب والطيب لأنه محظور في حال الإحرام ، فكان في وقته إطلاق محظور كسائر المحظورات من اللبس والطيب ، ولأنه لو كان نسكا من أعمال الحج لم يجب بفعله حال الإحرام دم كسائر المناسك من الطوافين والوقوفين والرمي ، وسبب هذا : أن الحلق هو من جملة إلقاء التفث ، وإزالة الشعث والغبار ونوع من الترفه ، وذلك بالمباحات أشبه منه بالعبادات ، وأصحاب هذا القول ربما استحبوا الحلاق من حيث هو نظافة للطواف كما يستحب الحلق والتقليم [ ص: 541 ] والاغتسال لا لأمر يختص النسك ، وعلى هذا القول لا فرق بين حلق الرأس وحلق العانة .

واعلم أن هذا القول غلط على المذهب ليس عن أحمد ما يدل على هذا بل كلامه كله دليل على أن الحلق من المناسك ، وإنما توهم ذلك من توهمه حيث لم يوقف التحلل عليه ، أو حيث لم يقيد النسك بالوطء قبله ، وهذه الأحكام لها مأخذ آخر ، ثم هو خطأ في الشريعة كما سيذكره .

الطريقة الثانية : أن الحلق أو التقصير نسك يثاب على فعله ويعاقب على تركه من غير تردد ; لكن هل يتوقف التحلل الأول عليه ؟ على روايتين ، فإن قيل : يتوقف التحلل عليه فهو كالرمي والسلام في الصلاة ، وإن لم يتوقف التحلل عليه فهو كالمبيت بمنى وكرمي الجمار أيام منى ، وكسجود السهو بعد الصلاة وهذه طريقة القاضي في خلافه وطريقة ... .

وهذه الطريقة أجود من التي قبلها ; لأن الرواية إنما اختلفت عن أحمد في وجوب الدم على من وطئ في العمرة قبل الحلاق ولم يختلف عنه أنه مسيء بذلك ، واختلف عنه ... .

[ ص: 542 ] الطريقة الثالثة : أنه نسك مؤكد وتاركه مسيء بغير تردد ; لكن هل هو واجب بحيث إذا فات بفساد العبادة يجب عليه دم أو يعاقب على تركه ؟ على روايتين .

وإذا قلنا : هو واجب فهل يتحلل بدونه ؟ على روايتين .

وهذه الطريقة أجود الطرق ، وهي مقتضى ما سلكه المتقدمون من أصحابنا ، ولا يختلف أصحابنا في اختيار كونه نسكا ، وذلك لأن الله سبحانه قال : ( ثم ليقضوا تفثهم ) وهذه اللام لام الأمر على قراءة ... .

وأيضا : فإنه سبحانه قال : ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين ) فجعل الحلق والتقصير شعار النسك وعلامته ، وعبر عن النسك بالحلق والتقصير ، وذلك يقتضي كونه جزءا منه وبعضا له لوجوه ; أحدها : أن العبادة إذا سميت بما يفعل فيها دل على أنه واجب فيها كقوله : ( وقرآن الفجر ) وقوله : ( قم الليل ) و [ ص: 543 ] ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) و ( واركعي مع الراكعين ) ( وكن من الساجدين ) ( وسبح بحمد ربك ) .

ويقال : صليت ركعتين وسجدتين ، وكذلك في الأعيان يعبر عن الشيء ببعض أجزائه كما قال : ( فتحرير رقبة ) ويقال : عنده عشرة رؤوس وعشر رقاب .

الثاني : أن الحلق والتقصير إذا كان من لوازم النسك وهو أمر ظاهر باق أثره في المناسك ، كان وجود النسك وجودا له ، فجاز أن يقصد النسك بلفظه للزومه إياه ، أما إذا وجد معه تارة وفارقه أخرى بحسب اختيار الإنسان ، كان بمنزلة الركوب والمشي لا يحسن التعبير به عنه ، ولا يفهم منه .

الثالث : ... .

ويشبه - والله أعلم - إنما ذكر الحلاق والتقصير دون الطواف والسعي ; لأنهما صفتان لبدن الإنسان ينتقلان بانتقاله .

والمراد بالدخول : الكون ; فكأنه قال : لتكونن بالمسجد الحرام ولتمكثن به حالقين ومقصرين ، وفيه أيضا تنبيه على تمام النسك ; لأن الحلق والتقصير إنما يكون بعد التمام ; لئلا يخافوا أن يصدوا عن إتمام العمرة كما صدوا عن إتمامها عام أول .

[ ص: 544 ] وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق هو وجميع أصحابه ، وهو من الأعمال التي تناقلتها الأمة خلفا عن سلف قولا وفعلا ، فلو لم يكن ذلك عبادة ونسكا لله وطاعة لم يحافظوا عليه هذه المحافظة .

وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا ... .

وأيضا فإن الحلق أمر لا يشرع لغير الحج ، بل هو إما مكروه أو مباح ، وكل أمر شرع في الحج ولم يشرع في غيره فإنه يكون نسكا كالرمي والسعي والوقوف ، وعكسه التقليم ونتف الإبط ولبس الثياب ، فإنه مشروع قبل الإحرام ، ففعله عودا إلى الحال الأولى .

أما حلق الرأس فإنه لا يشرع قبل الإحرام بحال .

وأيضا : فحلق الرأس ليس من النظافة المأمور بها كالتقليم وأخذ الشارب ، ولا الزينة المندوب إليها كلبس الثياب ، فلو لم يكن نسكا لكان عبثا محضا ; إذ لا فائدة فيه أصلا ... .

وأيضا فإنه لو كان المقصود إزالة وسخ لما اكتفى بمجرد التقصير ، فالاكتفاء به دليل على أن المقصود وضع شيء من شعره لله تعالى .

[ ص: 545 ] وأيضا فإن الحلق يجمع صفات منها : أنه تحلل من الإحرام ; لأنه كان محظورا قبل هذا ، والتحلل من العبادة عبادة كالسلام .

ومنها أن وضع النواصي نوع من الذل والخضوع ؛ ولهذا كانت العرب إذا أرادت المن على الأسير ، جزت ناصيته وأرسلته ، وأعمال الحج مبناها على الخضوع والذل .

ومنها أنه قد يكون فيه ترفه بإلقاء وسخ الرأس وشعثه وقمله ، لكن هذا القدر يمكن إزالته بالترجل ، فلو فرض أنه من أنواع المباحات ببعض صفاته لم يمنع أن يكون من نوع العبادات بباقي الصفات . . .

التالي السابق


الخدمات العلمية