الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة : ( والمبيت بمنى )

السنة للحاج : أن لا يبيت ليالي منى إلا بها ; لأن الله سبحانه قال : ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ومعنى التعجل : هو الإفاضة من منى ، فعلم أنه قبل التعجل يكون مقيما بها ، فلو [ ص: 642 ] لم يبت بها ليلا - وليس عليه أن يقيم بها نهارا - : لم يكن مقيما بها ، ولم يكن فرق بين إتيانه منى لرمي الجمار ، وإتيانه مكة لطواف الإفاضة والوداع .

والآية : دليل على أن عليه أن يقيم في الموضع الذي شرع فيه ذكر الله ، وجعل ذلك المكان والزمان عيدا ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعلوا ذلك ; ولأن العباس " استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له " متفق عليه .

فاستئذان العباس : دليل على أنهم كانوا ممنوعين من المبيت بها ، وإذنه له من أجل السقاية : دليل على أنه لا يؤذن في ترك المبيت بغير عذر .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام " .

والعيد : هو المجتمع للعبادة ; فيوم عرفة ويوم النحر يجتمعون بعرفة ومزدلفة , ومنى : وأيام منى ، لا بد أن يجتمعوا ، وهم لا يجتمعون نهارا لأجل مصالحهم ، فإنهم يرمون الجمار متفرقين ، فلا بد من الاجتماع ليلا .

وعن ابن عمر قال : " لا يبيتن أحد من الحاج من وراء جمرة العقبة ، وكان يبعث إلى من وراء العقبة ، فيدخلون منى " رواه مالك وأحمد وهذا لفظه .

وعن نافع عن أسلم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : " لا يبيتن أحد من الحاج وراء جمرة العقبة ، وكان يرسل رجالا فلا يجدون أحدا شذ من [ ص: 643 ] منى إلا أدخل " .

وعن ابن عمر قال : " لا يبيتن أحد من وراء جمرة العقبة ليالي منى " رواهما أحمد ... فإن ترك المبيت بمنى : فقال أبو بكر - في الشافي - : روي عنه عليه الدم ، وروي : يتصدق بشيء ، وروي عنه : لا شيء عليه ، وبهذا أقول .

فهذه ثلاث روايات ; إحداهن : لا شيء عليه - قال في رواية المروذي - : من بات بمكة ليالي منى يتصدق بشيء وإن بات من غير عذر أرجو أن لا يكون عليه شيء .

وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أرخص لأهل السقاية في ترك المبيت بها ، وللرعاة . كما أرخص للضعفة في الإفاضة من جمع بليل ، ولو كان واجبا ، لم يسقط إلا لضرورة ، كطواف الوداع .

ولأن ابن عباس قال : " إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت " رواه أحمد في رواية حرب .

[ ص: 644 ] ولأنه أحد المبيتين بمنى ، فلم يجب كالمبيت بها ليلة عرفة عشية التروية .

والثانية : قال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال : ولا يبيت أحد ليالي منى من وراء العقبة ، ومن زار البيت رجع من ساعته ، ولا يبيت آخر الليالي إلا بمنى ; لأن عمر - رضي الله عنه - : منع من ذلك ، فمن بات فعليه دم وهذا قول ..... القاضي وأصحابه ، لأنه واجب كما تقدم ، ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم ، كما لو ترك المبيت بمزدلفة . قال القاضي - في خلافه - فإنها تجب رواية واحدة .

والثانية : يتصدق بشيء وهو أكثر عنه .

قال - في رواية ابن منصور - : من بات دون منى ليلة يطعم شيئا .

قال - في رواية حرب - في الرجل يبيت وراء العقبة ليالي منى : يتصدق بشيء . [ ص: 645 ] قال ابن جريج عن عطاء : " يتصدق بدرهم " .

ومغيرة عن شعبة قال أبو عبد الله : " الدم شديد " .

ويحيى عن سفيان : " ليس عليه شيء " ، وكان سفيان يرخص .

وقال ابن عباس : " إذا رميت جمرة العقبة فبت حيث شئت " .

وقال - في رواية الأثرم - فيمن جاء للزيارة فبات بمكة يعجبني أن يطعم شيئا ، وخففه بعضهم يقول : " ليس عليه شيء " ، وإبراهيم قال : " عليه دم " وضحك وقال : " الدم شديد " ، وكذلك نقل ابن أبي عبدة .

وقال - في رواية أبي طالب وابن إبراهيم - " لا يبيت أحد بمكة ليالي منى فمن غلبته عينه فليتصدق بدرهم ، أو بنصف درهم " ، كذا قال عطاء ، ولا يبيت عامدا . [ ص: 646 ] فقد أمره أن يتصدق بشيء ولم يقدره ، وقال مرة : درهم أو نصف درهم ; لأنه أقل ما يتصدق به من النقود ، وإن تصدق بطعام ....

وذلك لأن الإذن في ترك هذا المبيت لحاجة غير ضرورية تدل على أنه ليس من المناسك المؤكدة ، فإن المناسك المؤكدة ، لا يرخص في تركها لأحد . ولو قيل : تقدر به .

ولو ترك المبيت ليلة واحدة ، أو ليلتين ، فقال القاضي - في خلافه وابن عقيل : ليس عليه دم رواية واحدة ، بخلاف ترك المبيت بمزدلفة ، فإنها نسك واحد ، فإذا تركه لزمه الدم ، وليالي منى جميعها نسك واحد ، فلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها ، كما لو ترك حصاة ، أو حصاتين .

واستشهدوا على ذلك بما تقدم عنه : أنه استكثر الدم في ترك ليلة واحدة وأمره أن يتصدق بشيء ، وخرجاها على ثلاث روايات :

إحداهن : يتصدق بدرهم ، أو نصف درهم ، وهو المنصوص عنه هنا .

والثانية : في ليلة مد ، وفي ليلتين مدان .

والثالثة : في ليلة قبضة من طعام ، وفي ليلتين قبضتان ، وهاتان مخرجتان من حلق شعرة ، أو شعرتين .

وأما أبو الخطاب : فإنه جعل في ترك المبيت ليالي منى الدم قولا واحدا [ ص: 647 ] وذكر في ترك ليلة ، أو ليلتين أربع روايات .

إحداهن : عليه دم .

والثانية : يتصدق بدرهم ، أو نصف درهم .

والثالثة : مد من طعام .

والرابعة : لا شيء عليه .

ومن سلك هذه الطريقة : حمل كلام أحمد في الأمر بالصدقة ، وفي كونه لا شيء عليه على الليلة والليلتين ، وأصحاب هاتين الطريقتين : يسوون بين ثلاث حصيات ، وترك ثلاث ليال ، وحلق ثلاث شعرات ، ويجعلون عدد الليالي كعدد الحصى والشعر ، قالوا : لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يجب في جميعه دم ، وفي بعضه صدقة ، فلذلك سوينا بينهما . لكن منصوص أحمد في أن من بات ليالي منى من وراء العقبة ، يتصدق بشيء ، أو لا شيء عليه تبطل هذه الطريقة .

والطريقة المنصوصة عن أحمد : أن في الليلة ، والليالي الثلاث ، ثلاث روايات كما تقدم لفظه فيهن ، إحداهن : عليه دم ، والثانية : عليه صدقة ، والثالثة : لا شيء عليه ، وغير مستنكر إيجاب الدم في جملة وإيجابها في بعضها ، فإن رمي الجمار كلها فيها دم ، وفي الجمرة الواحدة - أيضا - دم ، بل المنصوص عنه : أنه إذا ترك مزدلفة ومنى ورمي الجمار وطواف الوداع ، كفاه دم .

وكذلك لا فرق بين أن يحرم دون الميقات بمسافة قليلة ، أو كثيرة ولا فرق بين أن يخرج من عرفات قبل المغيب بزمن طويل ، أو طويل ... ، وإلحاق هذه [ ص: 648 ] بالحصى ، وبحلق الشعر : لا يصح ; لأن ذاك قد ثبت بالنص والإجماع أن في جميعه دما ، وهنا الخلاف في أصل وجوبه .

فصل : وقدر المبيت الواجب بمنى ....

التالي السابق


الخدمات العلمية