الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن اجتمع ميت وجنب أو ميت وحائض انقطع دمها ، وهناك ماء يكفي أحدهما ، فإن كان لأحدهما كان صاحبه أحق به ; لأنه محتاج إليه لنفسه ، فلا يجوز له بذله لغيره ، فإن بذله للآخر وتيمم لم يصح تيممه ، وإن كان الماء لهما كانا فيه سواء . وإن كان الماء مباحا أو لغيرهما وأراد أن يجود به على أحدهما فالميت أولى ; لأنه خاتمة طهارته ، والجنب والحائض يرجعان إلى الماء فيغتسلان . وإن اجتمع ميت وحي على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ، ففيه وجهان . ( أحدهما ) : صاحب النجاسة أولى ; لأنه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل ، وهو التيمم فكان صاحب النجاسة أحق بالماء .

                                      ( والثاني ) : الميت أولى وهو ظاهر المذهب ; لأنه خاتمة طهارته ، وإن اجتمع حائض وجنب والماء يكفي أحدهما ، ففيه وجهان . قال أبو إسحاق رحمه الله : الجنب أولى ; لأن غسله منصوص عليه في القرآن ومن أصحابنا من قال : الحائض أولى ; [ ص: 316 ] لأنها تستبيح بالغسل ما يستبيح الجنب وزيادة وهو الوطء فكانت أولى ، وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث أولى ; لأن حدثه يرتفع به ولا يرتفع به حدث الجنب ، وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل عنه شيء ، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض بدنه ففيه ثلاثة أوجه .

                                      ( أحدها ) : الجنب أولى ; لأنه يستعمل جميع الماء بالإجماع ، وإذا دفعناه إلى المحدث بقي ماء مختلف في وجوب استعماله في الجنابة .

                                      ( والثاني ) : المحدث أولى ; لأن فيه تشريكا بينهم في الماء .

                                      ( والثالث ) : أنهما سواء ، فيدفع الماء إلى من شاء منهما ، لأنه يرفع حدث كل واحد منهما ، ويستعمله كل واحد منهما بالإجماع ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا اجتمع ميت ، وجنب ، وحائض ، ومحدث ، ومن على بدنه نجاسة ، وهناك ما يكفي أحدهم فإن كان لأحدهم فهو أحق به ، ولا يجوز له أن يبذله لطهارة غيره . قال إمام الحرمين وغيره : لأن الإيثار إنما يشرع في حظوظ النفوس لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات ، قال أصحابنا : ويستوون كلهم في تحريم البذل ، لما ذكرناه .

                                      هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور . وحكى الدارمي وابن الصباغ وغيرهما عن أبي إسحاق المروزي أنه قال : من أصحابنا من قال : فيه قول آخر أنه إن كان الماء للجنب أو الحائض أو المحدث لزمه أن يقدم الميت به على نفسه ويأخذ ثمنه من مال الميت . قال ابن الصباغ : وهذا لا يعرف للشافعي ، والصواب الأول ، وعليه التفريع ، فلو خالف صاحب الماء وبذله لغيره قال المحاملي في المجموع والصيدلاني : لا تصح هبته ، ولا يزول ملكه فيه ، كأنه محجور عليه فيه ، وذكر جماعات في صحة هبته وجهين ، وسنشرحهما مع ما يتعلق بهما في مسألة من أراق الماء سفها ، حيث ذكرها المصنف بعد هذا إن شاء الله تعالى . قال أصحابنا : فإذا صلى بالتيمم فإن كان الماء باقيا في يد الموهوب له لم يصح تيمم الباذل ، وعليه إعادة الصلاة . وإن كان الماء قد تلف ففي وجوب الإعادة الوجهان فيمن أراق الماء بعد دخول الوقت سفها أصحهما : لا تجب وسنشرحهما في موضعهما إن شاء الله تعالى مع فروعهما ، فهذا الذي ذكرته [ ص: 317 ] من التفصيل هو الذي قاله الأصحاب في الطريقين ، ولم يوضح المصنف المسألة بتفصيلها ، بل أطلق وجوب الإعادة .

                                      . وكلامه محمول على ما إذا تيمم والماء باق في يد الموهوب ، وقد أنكر بعضه عليه إطلاقه ولا يصح إنكاره ; لأن مراده ما ذكرته ، هذا كله فيمن وهب بعد دخول الوقت ، أما من وهب قبل الوقت فلا تحرم هبته وتصح صلاته بالتيمم ، ولا إعادة كما لو أراقه قبل الوقت . وإذا أوجبنا الإعادة مع بقاء الماء أو مع عدمه على أحد الوجهين ففي قدر ما تجب إعادته ثلاثة أوجه ، ستأتي هناك إن شاء الله تعالى ، ومعنى قول الأصحاب في هذا : صاحب الماء أحق به أي لا حق لغيره فيه .

                                      قال الأزهري : " أحق " في كلام العرب له معنيان .

                                      ( أحدهما ) : استيعاب الحق كله كقولك : فلان أحق بماله أي لا حق لأحد فيه غيره ، ( والثاني ) : على ترجيح الحق وإن كان للآخر فيه نصيب ، كقولك : فلان أحسن وجها من فلان ، لا تريد نفي الحسن عن الآخر ، بل تريد الترجيح ، قال : وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الأيم أحق بنفسها من وليها } أي : لا يفتات عليها فيزوجها بغير إذنها ، ولم ينف حق الولي ، فإنه هو الذي يعقد عليها وينظر لها والله أعلم .

                                      ( المسألة الثانية ) : إذا كان الماء لهم فهم فيه سواء ، ولا يجوز لأحدهم أن يبذل نصيبه لطهارة غيره إن كان نصيب الباذل يكفيه ، وإن كان لا يكفيه وقلنا : يجب استعماله لم يجز بذله وإلا فيجوز .

                                      ( الثالثة ) إذا كان الماء لأجنبي فأراد أن يجود به على أحوجهم أو أوصى بماء لأحوج الناس في الموضع الفلاني أو وكل من يصرفه إلى أحوجهم فأيهم أحق ؟ فيه التفصيل الذي ذكره المصنف وسنشرحه إن شاء الله تعالى ، هكذا صورها إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما ، وصورها المصنف وجمهور الأصحاب في الطريقتين فيما إذا وصل هؤلاء المحتاجون إلى ماء مباح ، وذكروا فيها التفاصيل المذكورة ، وأنكر إمام الحرمين هذا عليهم وقال : هذا عندي غلط ظاهر ، فإن الماء المباح إذا ازدحم عليه قوم وجب أن يستووا في تملكه ، ولا يتوقف المالك على الحاجة ، بل يجب القطع باستوائهم ويقسم الماء بينهم [ ص: 318 ] بالسوية ، ولا ينظر إلى أحداثهم وأحوالهم قال : ولا خفاء بما نبهنا عليه من هذا الزلل . قال الرافعي : ( لا منافاة بين كلام إمام الحرمين وكلام الأصحاب ; لأنهم أرادوا التقديم على سبيل الاستحباب وكأنهم يقولون : مجرد الوصول إلى الماء المباح لا يقتضي الملك ، وإنما يثبت الملك بالاستيلاء والإحراز فيستحب لغير الأحوج ترك الاستيلاء والإحراز إيثارا للأحوج ، والأصحاب يسلمون أنهم لو لم يفعلوا ذلك ، واستولوا عليه وازدحموا كان الأمر كما ذكره إمام الحرمين ، لكن يمكن أن ينازعهم فيما ذكروه من الاستحباب ويقول : هو متمكن من الطهارة بالماء فلا يجوز العدول إلى التيمم ، كما لو ملك الماء ) . هذا كلام الرافعي ، فإذا ثبت دفعه إلى الأحوج ففيه صور .

                                      ( إحداها ) إذا حضر ميت مع جنب أو حائض أو محدث ، فهو أحق منهم لعلتين .

                                      ( إحداهما ) : التي ذكرها الشافعي والمصنف والأصحاب أنه خاتمة أمره فخص بأكمل الطهارتين والأحياء سيجدون الماء .

                                      ( والثانية ) : أن القصد من غسل الميت تنظيفه ، ولا يحصل بالتراب ، والقصد من طهارة الأحياء استباحة الصلاة وذلك يحصل بالتيمم .

                                      وقال أبو يوسف : الحي أحق من الميت ، وهو رواية عن مالك وأحمد قال أصحابنا : ولا يفتقر استحقاق الميت وتخصيصه إلى قبول وارث ونحوه ، كما لو تطوع إنسان بتكفين ميت ، فإنه لا يفتقر إلى قبول ، وحكى الدارمي والرافعي وجها في اشتراط قبول هبة الماء للميت وليس بشيء .

                                      ( الثانية ) : إذا حضر ميت ومن عليه نجاسة ، فإن كان على الميت نجاسة ، فهو أحق بلا خلاف ، وإلا فوجهان مشهوران . الصحيح منهما عند الأصحاب : أن الميت أحق . قال أصحابنا : هما مبنيان على العلتين في الميت إن قلنا بالأولى فهو أحق ، وإن قلنا بالثانية فالنجس أحق ; لأنه لا يسقط فرضه بالتيمم وتحصل طهارة الميت بالتيمم ، ولو حضر ميتان ، والماء يكفي أحدهما فإن كان الماء موجودا قبل موتهما فالأول أحق ، وإن وجد بعد موتهما أو ماتا معا فأفضلهما أحق به ، فإن استويا أقرع بينهما ، نقله الرافعي .

                                      [ ص: 319 ] الثالثة ) : لو حضر من عليه نجاسة مع جنب وحائض ومحدث فهو أحق منهم بلا خلاف ; لأنه لا بدل لطهارته .

                                      ( الرابعة ) حضر جنب وحائض فثلاثة أوجه مشهورة ( أصحها ) عند الأصحاب : الحائض أحق لغلظ حدثها . وقول القائل الآخر : إن غسل الجنب منصوص عليه في القرآن لا حجة فيه ، فإن غسلها ثابت بالأحاديث الصحيحة والإجماع .

                                      ( والوجه الثاني ) : الجنب أحق ; لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في صحة تيمم الجنب دون الحائض ، فقدم لتصح طهارتهما بالإجماع ، هكذا احتج له القاضي حسين والصيدلاني ، قال إمام الحرمين : هذا ضعيف جدا ، ولم يصح عن الصحابة في تيمم الحائض شيء .

                                      ( والثالث ) : يستويان حكاه الدارمي عن ابن القطان ; فعلى هذا قال الأكثرون يقرع بينهما ، وممن صرح بهذا القفال والقاضي حسين والمتولي والبغوي والروياني وآخرون ، وقال إمام الحرمين وغيره : فيه تفصيل اختصره الرافعي فقال : إن طلب أحدهما القرعة والآخر القسمة فالقرعة أولى في أصح الوجهين والقسمة في الثاني . هذا إن أوجبنا استعمال الماء الناقص عن الكفاية وإلا تعينت القرعة ، وإن اتفقا على القسمة جاز إن أوجبنا استعمال الناقص وإلا فلا ; لأنه تضييع .

                                      ( الخامسة ) : حضر جنب ومحدث ، فإن كان الماء يكفي الوضوء دون الغسل ، فالمحدث أحق إن لم نوجب استعمال الناقص ، وإن أوجبناه فثلاثة أوجه .

                                      ( أصحها ) : المحدث أحق ; لأنه يرتفع به حدثه بكماله .

                                      ( والثاني ) : الجنب أحق لغلظ حدثه .

                                      ( والثالث ) : يستويان ويجيء فيه ما سبق من الإقراع والقسمة ، وقول المصنف : " فيدفع إلى من شاء منهما " المراد به إذا كان صاحب الماء يجود به على المحتاج ، وأما الوكيل والوصي والحاكم في المباح فيقرعون بينهما على الأصح ، ويقسمون على الوجه الآخر ولا تخيير ، وإن لم يكن الماء كافيا لواحد منهما فالجنب أولى إن أوجبنا استعمال الناقص ، وإلا فكالمعدوم ، وإن كان كافيا لكل واحد منهما نظر إن فضل عن الوضوء منه شيء ولم يفضل عن الغسل ، فالجنب أولى إن لم نوجب استعمال الناقص ; لأنه إذا استعمله المحدث يضيع الباقي ، وإن أوجبنا [ ص: 320 ] استعمال الناقص ففيه الأوجه الثلاثة المذكورة في الكتاب ، أصحها : الجنب أحق .

                                      والثاني : المحدث . والثالث : هما سواء . وإن لم يفضل من واحد منهما شيء ، أو فضل عن كل واحد منهما شيء فالجنب أحق ، وفي الحاوي - وجه - أنه إذا كان لا يفضل عن واحد منهما شيء فهما سواء ، والصحيح الأول ، وإن كان يكفي الغسل ولا يكفي الوضوء إن تصور ذلك فالجنب أحق . قال الرافعي : ( ويتصور ذلك بأن يكون المغتسل نضو الخلق فاقد الأعضاء ، والمتوضئ ضخم الأعضاء ) وإذا استعمل الماء - في هذه المسائل - غير من قلنا : إنه أحق فقد أساء ، وطهارته صحيحة والله أعلم



                                      ( فرع ) قال الشافعي في مختصر المزني رحمهما الله : لو كان مع الميت ماء ، فخافت رفقته العطش شربوه ويمموه وأدوا ثمنه في ميراثه ، واتفق أصحابنا على أنه يحل لهم شربه وعليهم ضمانه بقيمته يوم الشرب ، كما قلنا في غيره من المتلفات . قال القاضي أبو الطيب وغيره : وسمى الشافعي القيمة هنا ثمنا مجازا ، وإلا فحقيقة الثمن ما كان في عقد ، ولكن قد سمت العرب القيمة ثمنا . قلت : قد قال أهل اللغة مثل هذا ، فقال الأزهري في تهذيب اللغة : قال الليث : ثمن كل شيء قيمته ، وقال الهروي في الغريبين : الثمن قيمة الشيء . قال أصحابنا : وإنما أوجبنا القيمة ولم نوجب المثل ، وإن كان الماء مثليا ; لأن المسألة مفروضة فيما إذا كانوا في برية للماء فيها قيمة ، ثم رجعوا إلى بلدهم ، ولا قيمة للماء فيه ، وأراد الوارث تغريمهم في البلد فلو ردوا الماء لكان إسقاطا للضمان .

                                      هذا هو المذهب الصحيح المقطوع به في طرق الأصحاب ، وحكى صاحب البحر والرافعي وجها : أن مراد الشافعي بالثمن المثل ، وأنه يرد مثل الماء لا قيمته وهذا شاذ والصواب الأول .

                                      وأما إذا غرموا في موضع الشرب فإنهم يغرمون مثل الماء بلا خلاف ، قال صاحبا العدة والبحر : وكذا لو غرموا في موضع آخر للماء فيه قيمة فلهم [ ص: 321 ] أداء مثل الماء ، وإن كان أقل من قيمته يوم الإتلاف كمن أتلف حنطة غرم مثلها ، وإن كانت قيمتها يوم الغرم أقل . ولو غرموا القيمة ثم اجتمعوا هم والوارث في موضع للماء فيه قيمة ، فهل له رد القيمة والمطالبة بمثل الماء ؟ وجهان ، كالوجهين فيمن أتلف مثليا فتعذر المثل فغرم القيمة ثم وجد المثل ، هل للمالك أن يرد القيمة ويطالب بالمثل ؟ هكذا قاله القاضي حسين والفوراني وصاحب العدة وآخرون وسنوضح المسألة في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى .

                                      هذا كله إذا احتاج الأحياء إلى ماء الميت للعطش ، فأما إذا لم يحتاجوا إليه للعطش بل للطهارة ، فإنهم يغسلونه منه بقدر حاجته ، وما بقي حفظوه للورثة ، ويحرم عليهم الوضوء به بل يتيممون ، فإن توضئوا به أثموا وضمنوه على ما سبق والله أعلم




                                      الخدمات العلمية