الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( ويحرم الوطء في الفرج وقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فإن وطئها مع العلم بالتحريم ففيه قولان . قال في القديم : إن كان في أول الدم لزمه أن يتصدق بدينار ، وإن كان في آخره لزمه أن يتصدق بنصف دينار ، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض : { يتصدق بدينار أو بنصف دينار } وقال في الجديد : لا يجب عليه الكفارة ; لأنه وطء محرم للأذى ، فلم تتعلق به الكفارة كالوطء في الدبر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أجمع المسلمون على تحريم وطء الحائض للآية الكريمة والأحاديث الصحيحة . قال المحاملي في المجموع : قال الشافعي رحمه الله : من فعل ذلك فقد أتى كبيرة . قال أصحابنا وغيرهم : من استحل وطء [ ص: 390 ] الحائض حكم بكفره . قالوا : ومن فعله جاهلا وجود الحيض أو تحريمه ، أو ناسيا أو مكرها ، فلا إثم عليه ولا كفارة ، لحديث ابن عباس : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } حديث حسن ، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما . وحكى الرافعي عن بعض الأصحاب أنه يجيء على القديم قول : أنه يجب على الناسي كفارة كالعامد . وهذا ليس بشيء . ، وأما إذا وطئها عالما بالحيض وتحريمه مختارا ففيه قولان ، الصحيح الجديد : لا يلزمه كفارة ، بل يعزر ويستغفر الله تعالى ويتوب ، ويستحب أن يكفر الكفارة التي يوجبها القديم ، والثاني : وهو القديم يلزمه الكفارة . وذكر المصنف دليلهما ، والكفارة الواجبة في القديم دينار إن كان الجماع في إقبال الدم ، ونصف دينار إن كان في إدباره ، والمراد بإقبال الدم زمن قوته واشتداده ، وبإدباره ضعفه وقربه من الانقطاع ، هذا هو المشهور الذي قطع به الجمهور .

                                      وحكى الفوراني وإمام الحرمين وجها عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني : أن إقباله ما لم ينقطع وإدباره ما بعد انقطاعه وقبل اغتسالها ، وبهذا قطع القاضي أبو الطيب في تعليقه فعلى قول الجمهور : لو وطئ بعد الانقطاع وقبل الاغتسال لزمه نصف دينار ، قاله البغوي وغيره ، واستدلوا لهذا القول القديم بحديث ابن عباس المذكور ، وحملوا قوله بدينار أو بنصف دينار على التقسيم ، وأن الدينار في الإقبال والنصف في الإدبار .

                                      وحكى المتولي والرافعي : قولا قديما شاذا أن الكفارة الواجبة عتق رقبة بكل حال ; لأنه روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا شاذ مردود . وقال صاحب الحاوي : قال الشافعي في القديم : إن صح حديث ابن عباس قلت به . قال : فكان أبو حامد الإسفراييني وجمهور البغداديين يجعلونه قولا قديما ، وكان أبو حامد المروزي وجمهور البصريين لا يجعلونه قولا قديما ولا يحكونه مذهبا للشافعي ; لأنه علق الحكم على صحة الحديث ولم يصح ، وكان ابن سريج يقول : لو صح الحديث لكان محمولا في القديم على الاستحباب لا على الإيجاب .

                                      هذا كلام صاحب الحاوي . وقال إمام الحرمين : من أصحابنا من أوجب الكفارة ، وهو بعيد غير [ ص: 391 ] معدود من المذهب بل هي مستحبة . قلت : واتفق المحدثون على ضعف حديث ابن عباس هذا واضطرابه ، وروي موقوفا ، وروي مرسلا وألوانا كثيرة . وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، ولا يجعله ذلك صحيحا ، وذكره الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين ، وقال : هو حديث صحيح ، وهذا الذي قاله الحاكم خلاف قول أئمة الحديث ، والحاكم معروف عندهم بالتساهل في التصحيح .

                                      وقد قال الشافعي في أحكام القرآن : هذا حديث لا يثبت مثله ، وقد جمع البيهقي طرقه وبين ضعفها بيانا شافيا ، وهو إمام حافظ متفق على إتقانه وتحقيقه ، فالصواب : أنه لا يلزمه شيء ، والله أعلم .

                                      ومن أوجب دينارا أو نصفه فهو على الزوج خاصة ، وهو مثقال الإسلام المعروف من الذهب الخالص ويصرف إلى الفقراء والمساكين . قال الرافعي : ويجوز صرفه إلى فقير واحد والله أعلم .

                                      وأما قول المصنف : فإن وطئها مع العلم بالتحريم ، فكان ينبغي أن يضم إليه : والعلم بالحيض والاختيار . وقوله : لأنه وطء محرم للأذى احترازا من الوطء في الإحرام ونهار رمضان .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن وطئ في الحيض عامدا عالما . قد ذكرنا أن المشهور في مذهبنا أنه لا كفارة عليه ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وأحمد في رواية ، وحكاه أبو سليمان الخطابي عن أكثر العلماء ، وحكاه ابن المنذر عن عطاء وابن أبي مليكة والشعبي والنخعي ومكحول والزهري وأيوب السختياني وأبي الزناد وربيعة وحماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري والليث بن سعد .

                                      . وقالت طائفة من العلماء : يجب الدينار ونصفه على التفصيل المتقدم ، واختلاف منهم في اعتبار الحال حكاه ابن المنذر عن ابن عباس وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وعن سعيد بن جبير أن عليه عتق رقبة ، وعن الحسن البصري عليه ما على المجامع في نهار رمضان ، هذا هو المشهور عن الحسن ، وحكى ابن جرير عنه قال : يعتق رقبة أو يهدي بدنة أو يطعم عشرين صاعا ، ومعتمدهم حديث ابن عباس ، وهو ضعيف باتفاق المحدثين فالصواب : أن لا كفارة عليه والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية