الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال : المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كانت مبتدأة مميزة وهي التي بدأ بها الدم وعبر الخمسة عشر ودمها في بعض الأيام بصفة دم الحيض وهو المحتدم القانئ الذي يضرب إلى السواد ، وفي بعضها أحمر مشرق أو أصفر ، فإن حيضها أيام السواد بشرطين : ( أحدهما ) لا ينقص الأسود عن يوم وليلة .

                                      ( والثاني ) : ألا يزيد على أكثره ، والدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إني أستحاض أفأدع الصلاة ؟ فقال : صلى الله عليه وسلم إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق } " ; ولأنه خارج يوجب الغسل فجاز أن يرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني ، وإن رأت في الشهر الأول يوما وليلة دما أسود ثم أحمر أو أصفر أمسكت عن الصوم والصلاة ، لجواز أن لا تجاوز الخمسة عشر ، فيكون الجميع حيضا ، وفي الشهر الثاني يلزمها أن تغتسل عند تغير الدم وتصلي وتصوم ; لأنا علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة ، فإن رأت في الشهر الثالث السواد في ثلاثة أيام ثم أحمر أو أصفر ، وفي الشهر الرابع رأت السواد في أربعة أيام ثم أحمر أو أصفر كان حيضها في كل شهر الأسود ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث فاطمة رضي الله عنها صحيح رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي وغيرهم بلفظه هنا بأسانيد صحيحة من رواية فاطمة وأصله في البخاري ومسلم بغير هذا اللفظ من رواية عائشة رضي الله عنها ، وقوله صلى الله عليه وسلم " إنما هو عرق فهو - بكسر العين وإسكان الراء - أي : دم عرق وهذا العرق يسمى العاذل كما سبق في أول الباب . وقول إمام الحرمين والغزالي : عرق انقطع منكر فلا يعرف لفظة انقطع في الحديث ، وقوله : المحتدم هو بالحاء والدال المهملتين وهو اللذاع للبشرة بحدته ، مأخوذ من احتدام النهار وهو اشتداد حره ، وهكذا فسره أصحابنا في كتب الفقه ، والمشهور في كتب اللغة أن المحتدم الذي اشتدت [ ص: 429 ] حمرته حتى أسود والفعل منه احتدم ، وأما القانئ فبالقاف وآخره همزة على وزن القارئ ، قال أصحابنا : وهو الذي اشتدت حمرته فصار يضرب إلى السواد ، وقال أهل اللغة : هو الذي اشتدت حمرته ، والفعل منه قنأ يقنأ كقرأ يقرأ ، والمصدر القنوء كالرجوع ولا خلاف بين أهل اللغة في أن آخره مهموز ، ونبهت على هذا لأني رأيت من يغلط فيه ، قال إمام الحرمين وغيره : وليس المراد بالأسود في الحديث وفي كلام أصحابنا الأسود الحالك ، بل المراد ما تعلوه حمرة مجسدة كأنها سواد بسبب تراكم الحمرة ، وقد أشار المصنف في وصفه إلى هذا .

                                      ( أما حكم المسألة ) فمذهبنا أن المبتدأة المميزة ترد إلى التميز بلا خلاف عندنا ودليله ما ذكره المصنف ، قال أصحابنا : والمميزة هي التي ترى الدم على نوعين أو أنواع بعضها قوي ، وبعضها ضعيف ، أو بعضها أقوى من بعض فالقوي أو الأقوى حيض والباقي طهر ، وبماذا يعرف تغير القوة والضعف ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) : أن الاعتبار باللون وحده فالأسود قوي بالنسبة إلى الأحمر ، والأحمر قوي بالنسبة إلى الأشقر ، والأشقر أقوى من الأصفر والأكدر إذا جعلناهما حيضا . وبهذا الوجه قطع إمام الحرمين والغزالي وادعى الإمام أنه متفق عليه ، وقال : لو رأت خمسة سوادا مع الرائحة ، وخمسة سوادا بلا رائحة ، فهما دم واحد بالاتفاق ، ( والوجه الثاني ) : أن القوة تحصل بثلاث خصال : وهي اللون والرائحة الكريهة والثخانة ، فاللون معتبر كما سبق وما له رائحة كريهة أقوى مما لا رائحة له ، والثخين أقوى من الرقيق . قال الرافعي : هذا الوجه هو الذي قطع به العراقيون وغيرهم قال : وهو الأصح ألا ترى أن الشافعي رحمه الله قال في صفة دم الحيض : إنه محتدم ثخين له رائحة ، وورد في الحديث التعرض لغير اللون كما ورد التعرض للون ، فعلى هذا إن كان بعض دمها بإحدى الصفات الثلاث والبعض خاليا من جميعها فالقوي هو الموصوف بها ، وإن كان للبعض صفة وللبعض صفتان فالقوي ما له صفتان ، وإن كان للبعض صفتان وللبعض ثلاث فالقوي ما له ثلاث ، وإن كان للبعض صفة وللبعض صفة [ ص: 430 ] أخرى فالقوي السابق .

                                      هكذا ذكر هذا التفصيل صاحب التتمة قال الرافعي : وهو موضع تأمل وهذه صفة التمييز قال أصحابنا : وإنما يحكم بالتمييز بثلاثة شروط ألا ينقص القوي عن يوم وليلة ولا يزيد على خمسة عشر ولا ينقص الضعيف عن خمسة عشر ليمكن جعل القوي حيضا والضعيف طهرا . وأخل المصنف وأكثر العراقيين بهذا الشرط الثالث ولا بد منه ، فلو رأت نصف يوم أسود ثم أطبقت الحمرة فات الشرط الأول ، ولو رأت ستة عشر أسود ثم أحمر فات الشرط الثاني ، ولو رأت يوما وليلة أسود ثم أربعة عشر أحمر ثم عاد الأسود فات الشرط الثالث ، وتكون في هذه الصور الثلاث غير مميزة . قال الرافعي : وقول الأصحاب بشرط أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر متصلة وإلا فلو رأت يوما أسود ويومين أحمر ، وهكذا أبدا فجملة الضعيف في الشهر لم ينقص عن خمسة عشر لكن لما لم تكن متصلة لم يكن ذلك تمييزا وهذا الذي ذكرناه من أن شروط التمييز ثلاثة فقط هو الصحيح المشهور ، وبه قطع الجمهور . وذكر المتولي شرطا رابعا ، وهو أن لا يزيد مجموع الدمين القوي والضعيف على ثلاثين يوما فإن زاد سقط حكم التمييز ; لأن الثلاثين لا تخلو غالبا من حيض وطهر ، وذكر إمام الحرمين وغيره وجها أن الضعيف إن كان مع القوي الذي قبله تسعين يوما فما دونها عملنا بالتمييز وجعلنا دورها أبدا تسعين يوما ، وهذا الذي ذكره الإمام والمتولي شاذان ضعيفان . والمذهب أنه لا فرق بين قصر الزمان وطوله قال الرافعي : المذهب أنه لا فرق ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : فإذا رأت الأسود يوما وليلة أو أكثر ثم اتصل به أحمر قبل الخمسة عشر وجب عليها أن تمسك في مدة الأحمر عما تمسك عنه الحائض ، لاحتمال أن ينقطع الأحمر قبل مجاوزة المجموع خمسة عشر ، فيكون الجميع حيضا . فإن جاوز خمسة عشر عرفنا حينئذ أنها مستحاضة مميزة فيكون حيضها الأسود ، ويكون الأحمر طهرا بالشروط السابقة ، فعليها الغسل عقب الخمسة عشر وتصلي ، وتصوم وتقضي صلوات أيام الأحمر ، وقولهم : الأسود والأحمر ، تمثيل وإلا فالاعتبار بالقوي والضعيف كيف كان على ما سبق من صفاتهما . هذا حكم الشهر الأول فأما الشهر الثاني وما [ ص: 431 ] بعده فإذا انقلب الدم القوي إلى الضعيف لزمها أن تغتسل عند انقلابه ، وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها ولا ينتظر الخمسة عشر . قال أصحابنا : وهذا لا خلاف فيه ، قالوا : ولا يخرج على الخلاف في ثبوت العادة في قدر الحيض بمرة ; لأن الاستحاضة علة مزمنة فالظاهر دوامها ، ، وقد سبق بيان هذا في الفرع السابق ، فإن انقطع الضعيف في بعض الأدوار قبل مجاوزة الخمسة عشر يوما تبينا أن الضعيف مع القوي في هذا الدور كان حيضا فيلزمها قضاء الصوم والطواف والاعتكاف في الواجبات المفعولات في أيام الضعيف وهذا لا خلاف فيه . ولو رأت في الشهر الثالث الدم القوي ثلاثة أيام ثم ضعف وفي الشهر الرابع خمسة ثم ضعف وفي الخامس ستة ثم ضعف وكذا ما بعده فحيضها في كل شهر القوي ، ويكون الضعيف طهرا بشروطها وتغتسل وتصلي وتصوم أبدا عند انقلاب الدم إلى الضعيف ويأتيها زوجها ، ومتى انقطع الضعيف في شهر قبل مجاوزة خمسة عشر فالجميع حيض . قال صاحب التتمة والأصحاب : وسواء في هذا كله كان القوي في الشهر الثاني وما بعده بقدر القوي في الشهر الأول أو دونه أو أكثر منه في ذلك الزمان أو قبله أو بعده ; لأن الحكم بكونه حيضا ليس بسبب العادة ، بل المعتمد صفة الدم فمتى وجدت تعلق الحكم بها .




                                      الخدمات العلمية