الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يقرأ فاتحة الكتاب وهو فرض من فروض الصلاة لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب } )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عبادة رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم - رحمهما الله - وقراءة الفاتحة للقادر عليها فرض من فروض الصلاة وركن من أركانها ومتعينة لا يقوم مقامها ترجمتها بغير العربية ولا قراءة غيرها من القرآن ، ويستوي في تعينها جميع الصلوات فرضها ونفلها ، جهرها وسرها ، والرجل والمرأة ، والمسافر والصبي ، والقائم والقاعد والمضطجع ، وفي حال شدة الخوف وغيرها ، سواء في تعينها الإمام والمأموم والمنفرد . وفي المأموم قول ضعيف أنها لا تجب عليه في الصلاة الجهرية ، وسنوضحه قريبا - إن شاء الله تعالى - وتسقط الفاتحة عن المسبوق ويتحملها عنه الإمام بشرط أن تلك الركعة محسوبة للإمام احترازا عن الإمام المحدث ، والذي قام لخامسة ناسيا ، وسنوضح ذلك كله في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن قراءة الفاتحة متعينة في كل صلاة ، وهذا عام في الفرض والنفل كما ذكرناه ، وهل نسميها في النافلة واجبة أم شرطا ؟ فيه ثلاثة أوجه سبق بيانها في مواضع أصحها ركن والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في القراءة في الصلاة : مذهبنا أن الفاتحة متعينة لا تصح صلاة القادر عليها إلا بها ، وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، وقد حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري [ ص: 284 ] وخوات بن جبير والزهري وابن عون والأوزاعي ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وحكاه أصحابنا عن الثوري وداود وقال أبو حنيفة لا تتعين الفاتحة لكن تستحب ، وفي رواية عنه تجب ولا تشترط ، ولو قرأ غيرها من القرآن أجزأه ، وفي قدر الواجب ثلاث روايات عنه ( إحداها ) آية تامة ( والثانية ) ما يتناول الاسم قال الرازي وهذا هو الصحيح عندهم ( والثالثة ) ثلاث آيات قصار أو آية طويلة وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد واحتج لأبي حنيفة بقول الله تعالى { فاقرءوا ما تيسر منه } وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن } رواه البخاري ومسلم ، وبحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها } وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب } قالوا : فدل على أن غيرها يقوم مقامها ، قالوا : ولأن سور القرآن في الحرمة سواء بدليل تحريم قراءة الجميع على الجنب وتحريم مس المحدث المصحف .

                                      واحتج أصحابنا بحديث عبادة بن الصامت المذكور في الكتاب : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } رواه البخاري ومسلم . فإن قالوا : معناه لا صلاة كاملة قلنا : هذا خلاف الحقيقة وخلاف الظاهر والسابق إلى الفهم فلا يقبل . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج يقولها ثلاثا ، أي غير تمام فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : أثنى علي عبدي وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلي عبدي - فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم [ ص: 285 ] صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل } رواه مسلم

                                      وعن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب } رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح حسن ورجاله ثقات كلهم

                                      . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب } رواه بهذا اللفظ ابن خزيمة وأبو حاتم وابن حبان بكسر الحاء في صحيحيهما بإسناد صحيح . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر } رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وفي المسألة أحاديث كثيرة صحيحة والجواب عن الآية التي احتجوا بها أنها وردت في قيام الليل لا في قدر القراءة ، وعن الحديث أن الفاتحة تتيسر فيحمل عليها جمعا بين الأدلة أو يحمل على من يحسنها ، وعن حديث أبي هريرة { لا صلاة إلا بقرآن } أنه حديث ضعيف رواه أبو داود بإسناد ضعيف .

                                      وجواب آخر وهو أن معنى هذا الحديث لو صح أن أقل ما يجزي فاتحة الكتاب ، كما يقال : صم ولو ثلاثة أيام من الشهر ، أي أكثر من الصوم ، فإن نقصت فلا تنقص عن ثلاثة أيام . وعن قولهم : إن سور القرآن سواء في الحرمة أنه لا يلزم منه استواؤها في الإجزاء في الصلاة ، لا سيما وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في نفس الفاتحة فوجب المصير إليها هذا مختصر ما يتعلق بالمسألة من الدلائل لنا ولهم ، اقتصرت فيها على الصواب من الدلائل الصحيحة ، إذ لا فائدة في الإطناب في الواهيات ، وبالله التوفيق .



                                      ( فرع ) في مذاهبهم في أصل القراءة .

                                      مذهبنا ومذهب العلماء كافة وجوبها ، ولا تصح الصلاة إلا بها ، ولا خلاف فيه إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب ومتابعوه عن الحسن بن صالح وأبي بكر الأصم أنهما قالا : لا تجب القراءة بل هي مستحبة . واحتج لهما بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " صلى المغرب فلم يقرأ فقيل له فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ قالوا : حسنا قال : فلا بأس " رواه الشافعي في الأم وغيره وعن الحارث الأعور " أن رجلا قال لعلي رضي الله عنه : إني صليت ولم أقرأ ، قال : أتممت الركوع [ ص: 286 ] والسجود ؟ قال : نعم ، قال تمت صلاتك " رواه الشافعي . وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ( القراءة سنة ) رواه البيهقي واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة في الفرع قبله ولا معارض لها ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا صلاة إلا بقراءة } رواه مسلم

                                      وأما الأثر عن عمر رضي الله عنه فجوابه من ثلاثة أوجه :

                                      ( أحدها ) أنه ضعيف ; لأن أبا سلمة ومحمد بن علي لم يدركا عمر :

                                      ( والثاني ) أنه محمول على أنه أسر بالقراءة :

                                      ( والثالث ) أن البيهقي رواه من طريقين موصولين عن عمر رضي الله عنه أنه صلى المغرب ولم يقرأ فأعاد ، قال البيهقي : وهذه الرواية موصولة موافقة للسنة في وجوب القراءة ، وللقياس في أن الأركان لا تسقط بالنسيان وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فضعيف أيضا ; لأن الحارث الأعور متفق على ضعفه وترك الاحتجاج به ، وأما الأثر عن زيد فقال البيهقي وغيره : مراده أن القراءة لا تجوز إلا على حسب ما في المصحف فلا تجوز مخالفته وإن كان على مقاييس العربية ، بل حروف القراءة سنة متبعة أي طريق يتبع ولا يغير والله أعلم .

                                      ( فرع ) لفاتحة الكتاب عشرة أسماء حكاها الإمام أبو إسحاق الثعلبي وغيره :

                                      ( أحدها ) فاتحة الكتاب ، وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسميتها بذلك ، قالوا : سميت به ; لأنه يفتتح بها المصحف والتعلم والقراءة في الصلاة ، وهي مفتتحة بالحمد الذي يفتتح به كل أمر ذي بال ، وقيل ; لأن الحمد فاتحة كل كتاب ( الثاني ) سورة الحمد ; لأن فيها الحمد ( الثالث ) و ( الرابع ) أم القرآن وأم الكتاب ; لأنها مقدمة في المصحف ، كما أن مكة أم القرى حيث دحيت الدنيا من تحتها ، وقيل : لأنها مجمع العلوم والخيرات كما سمي الدماغ أم الرأس ; لأنه مجمع الحواس والمنافع .

                                      قال ابن دريد : الأم في كلام العرب الراية ينصبها الأمير للعسكر يفزعون إليها في حياتهم وموتهم ، وقال الحسن بن الفضل : سميت بذلك ; لأنها إمام [ ص: 287 ] لجميع القرآن يقرأ في كل ركعة ، ويقدم على كل سورة كأم القرى لأهل الإسلام وقيل : سميت بذلك ; لأنها أعظم سورة في القرآن ، ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : { قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته } .

                                      ( الخامس ) الصلاة للحديث الصحيح في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي } " وهو صحيح كما سبق بيانه قريبا ( السادس ) السبع المثاني للحديث الصحيح الذي ذكرناه قريبا سميت بذلك ; لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة ( السابع ) الوافية - بالفاء - ; لأنها لا تنقص فيقرأ بعضها في ركعة ، وبعضها في أخرى بخلاف غيرها ( الثامن ) الكافية ; لأنها تكفي عن غيرها ولا يكفي عنها غيرها ( التاسع ) الأساس روي عن ابن عباس ( العاشر ) الشفاء فيه حديث مرفوع قال الماوردي في تفسيره : اختلفوا في جواز تسميتها أم الكتاب فجوزه الأكثرون ; لأن الكتاب تبع لها ومنعه الحسن وابن سيرين وزعما أن هذا اسم للوح المحفوظ فلا يسمى به غيره ( قلت ) هذا غلط ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { من قرأ بأم الكتاب أجزأت عنه } وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني . } .




                                      الخدمات العلمية