الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويتشهد وأفضل التشهد أن يقول : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة ، فيقول : قولوا : التحيات المباركات ، الصلوات الطيبات } وذكر نحو ما قلناه . وحكى أبو علي الطبري رحمه الله تعالى عن بعض أصحابنا أن الأفضل أن يقول : بسم الله وبالله التحيات لله ، لما روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خلاف المذهب . وذكر التسمية غير صحيح عند أصحاب الحديث . وأقل ما يجزي من ذلك خمس كلمات وهي : ( التحيات لله ، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، [ ص: 436 ] سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ) لأن هذا يأتي على معنى الجميع ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عباس رضي الله عنهما صحيح رواه مسلم ، وقد ثبت في التشهد أحاديث :

                                      ( أحدها ) حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال { كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : السلام على جبريل وميكائيل ، السلام على فلان وفلان فالتفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الله هو السلام ، فإذا صلى أحدكم فليقل : التحيات لله ، والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين - فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو } رواه البخاري ومسلم وفي رواية البخاري : { كنا نقول : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان وفلان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله } رواه مسلم ، وفي رواية له كما يعلمنا القرآن .

                                      وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا كان عند القعدة ، فليكن من أول قول أحدكم : التحيات لله ، الطيبات الصلوات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله } رواه النسائي ، وروى أبو داود نحوه من رواية ابن عمر وجابر وسمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عبد الرحمن بن عبد القاري - بتشديد الياء أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول " قولوا : التحيات لله الزاكيات لله الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى [ ص: 437 ] عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " رواه مالك في الموطأ وعن القاسم بن محمد أن عائشة رضي الله عنها : " كانت إذا تشهدت قالت : التحيات الطيبات الصلوات الزاكيات لله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " صحيح رواه مالك في الموطأ .

                                      فهذه الأحاديث الواردة في التشهد وكلها صحيحة ، وأشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود ثم حديث ابن عباس ، قال الشافعي والأصحاب : وبأيها تشهد أجزأه لكن تشهد ابن عباس أفضل ، وهذا معنى قول المصنف وأفضل التشهد أن يقول إلى آخره فقوله : أفضل التشهد دليل على جواز غيره ، وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد منها ، وممن نقل الإجماع القاضي أبو الطيب قال أصحابنا : إنما رجح الشافعي تشهد ابن مسعود لزيادة لفظة المباركات ، ولأنها موافقة لقول الله تعالى : { تحية من عند الله مباركة طيبة } ولقوله : كما يعلمنا السورة من القرآن ، ورجحه البيهقي قال بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لابن عباس وأقرانه من أحداث الصحابة ، فيكون متأخرا عن تشهد ابن مسعود وأضرابه .

                                      واختار أبو حنيفة والثوري وأحمد وأبو ثور تشهد ابن مسعود واختار مالك تشهد ابن عمر رضي الله عنهم ، وأما حديث جابر الذي في أوله باسم الله وبالله فرواه النسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم ولكنه ضعيف عند أهل الحديث كما نقله المصنف عنهم وكذا نقله البغوي ، وممن ضعفه البخاري والنسائي ، وروى التسمية البيهقي من طرق وضعفها ، ونقل تضعيفه عن البخاري وذكر الحاكم أبو عبد الله في المستدرك أن حديث جابر صحيح ولا يقبل ذلك منه ، فإن الذين ضعفوه أحمل من الحاكم وأتقن .

                                      ( وأما ألفاظ الفصل ) فسمي التشهد لما فيه من الشهادتين ، وقوله : التحيات جمع تحية ، قال الأزهري : قال الفراء : الملك ، وقيل البقاء الدائم ، وقيل : السلامة وتقديره السلامة من الآفات حكاها الأزهري ، وقيل : التحية الحيا والأول روي عن ابن مسعود وابن عباس وقاله ابن المنذر وآخرون ، [ ص: 438 ] قال ابن قتيبة : إنما قيل التحيات بالجمع ; لأنه كان لكل واحد من ملوكهم تحية يحيا بها فقيل لنا : قولوا : التحيات لله ، أي الألفاظ التي تدل على الملك مستحقة لله تعالى وحده . قال البغوي في شرح السنة : ; لأن شيئا مما كانوا يحيون به الملوك لا يصلح للثناء على الله تعالى ، وقوله : المباركات الصلوات الطيبات قالوا : تقديره والمباركات والصلوات والطيبات بالواو كما جاء في الأحاديث الباقية ، ولكن حذفت الواو وحذف واو العطف جائز .

                                      قوله ( الصلوات ) قيل المراد به العبادات قاله الأزهري ، وقيل : الرحمة ، وقيل : الأدعية حكاهما البغوي ، وقيل : المراد الصلوات الشرعية ، وقيل : الصلوات الخمس ، وبهذا قال ابن المنذر في الإشراف والبندنيجي وصاحب العدة والبيان ، قال صاحب المطالع : على هذا تقدير الصلوات لله منه أي هو المتفضل بها ، وقيل المعبود بها . قوله ( الطيبات ) قيل معناه الطيبات من الكلام الذي هو ثناء على الله تعالى وذكر له ، قاله الأزهري وآخرون ، وقال الخطابي : معناه ما طاب وحسن من الكلام فيصلح أن يثني به عليه ، ويدعى به دون ما لا يليق . وقال ابن المنذر وابن بطال وصاحب البيان : معناه الصالحة . قوله ( سلام عليك أيها النبي ) قال الأزهري : فيه قولان :

                                      ( أحدهما ) معناه اسم السلام أي اسم الله عليك :

                                      ( والثاني ) معناه سلم الله عليك تسليما وسلاما ، ومن سلم الله عليه سلم من الآفات كلها . قوله ( السلام علينا ) لم أر لأحد كلاما في الضمير في علينا ، وفاوضت فيه كبارا فحصل أن المراد الحاضرون من الإمام والمأمومين والملائكة وغيرهم وقوله ( وعلى عباد الله الصالحين ) العباد جمع عبد ، روينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري في رسالته قال : سمعت أبا علي الدقاق يقول : ليس شيء أشرف من العبودية ، ولا اسم أتم للمؤمن من الوصف بالعبودية ، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وكانت أشرف أوقاته { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } وقال تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } والصالحون جمع صالح .

                                      قال أبو إسحاق الزجاج وصاحب المطالع : هو القائم بما عليه من حقوق [ ص: 439 ] الله وحقوق عباده وقوله ( أشهد أن لا إله إلا الله ) معناه أعلم وأبين ، قوله : ( رسول الله ) قال الأزهري : الرسول هو الذي يتابع أخبار من بعثه ، وقال ، غيره : لتتابع الوحي إليه والله أعلم .

                                      وأما قول المصنف ( لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ) كذا وقع في المهذب ، وفيه محذوف تقديره عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن : بسم الله وبالله ، التحيات لله } إلى آخره ، وأما قوله ( لأن هذا يأتي على معنى الجميع ) فينازع فيه ; لأن لفظ التحيات لا يتضمن المباركات والصلوات والطيبات .

                                      ( أما حكم المسألة ) فأكمل التشهد عندنا تشهد ابن عباس بكماله ، ويقوم مقامه في الكلام تشهد ابن مسعود ثم تشهد ابن عمر رضي الله عنهم ، وقد بينا الجميع ، وحكى الرافعي وجها غريبا أن الأفضل أن يقول : " التحيات المباركات الزاكيات والصلوات لله " ليكون جامعا لها كلها . وقال جماعة من أصحابنا منهم أبو علي الطبري أن يقول في أوله : بسم الله وبالله التحيات لله إلى آخره ، وقطع الجمهور بأنه لا يستحب التسمية ، ولم يذكرها الشافعي لعدم ثبوت الحديث فيها . وحكى الشيخ أبو حامد التسمية عن علي بن أبي طالب وابن عمر رضي الله عنهم قال : ولم يقل بها غيرهما من الفقهاء .

                                      وأما أقل التشهد فقال الشافعي وأكثر الأصحاب : أقله " التحيات لله ، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقال جماعة : وأن محمدا رسوله كذا نقله الرافعي عن العراقيين والروياني وقال البغوي وأشهد أن محمدا رسوله ، قال : ونقله ابن كج والصيدلاني فأسقطا قوله وبركاته ، وقالا : وأشهد أن محمدا رسول الله ( قلت ) وكذا رأيت نص الشافعي في الأم كما نقله الصيدلاني وكذا نقله الشيخ أبو حامد في تعليقه عن الأم وقال ابن سريج أقله : " والتحيات لله سلام عليك أيها النبي ، سلام على عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله " وأسقط بعضهم في الحكاية عن ابن سريج لفظ السلام الثاني فقال والسلام عليك أيها النبي وعلى عباد الله الصالحين " وأسقط بعضهم الصالحين ، واختاره الإمام أبو عبد الله الحليمي من كبار أصحابنا المتقدمين ، والصحيح الأول ; لأنه تكرر [ ص: 440 ] في الأحاديث ولم يسقط في شيء من الروايات الصحيحة ، فيجب الإتيان به كله ، ولهذا قال الشافعي والأصحاب يتعين لفظة التحيات لثبوتها في جميع الروايات بخلاف المباركات وما بعدها ، ومما يدل لسقوط لفظة ( وأشهد ) رواية أبي موسى السابقة ، وأما إسقاط الصالحين فخطأ ; لأن الشرع لم يرد بالسلام على كل العباد هنا بل خص به الصالحين فيتعين أن يكون إسقاط علينا خطأ أيضا ; لأن المتكلم لا يدخل في الصالحين فلا يجوز حذفه .

                                      فالحاصل أن في قوله : ورحمة الله وبركاته ثلاثة أوجه ( أصحها ) وجوبهما ( والثاني ) حذفهما ( والثالث ) وجوب الأول دون الثاني وفي علينا الصالحين ثلاثة أوجه ( أصحها ) وجوبهما ( والثاني ) حذفهما ( والثالث ) وجوب الصالحين دون علينا ، وفي الشهادة الثانية ثلاثة أوجه :

                                      ( أحدها ) وأشهد أن محمدا رسول الله ( والثاني ) وهو الأصح وأن محمدا رسول الله ( والثالث ) وأن محمدا رسوله والله أعلم .

                                      ( فرع ) وقع في المهذب في التشهد ( سلام عليك أيها النبي ، سلام علينا ) بتنكير سلام في الموضعين وكذا هو في البويطي وكذا ذكره المصنف في التنبيه وآخرون وكذا جاء في بعض الأحاديث . وقال جماعات من الأصحاب : السلام عليك ، السلام علينا بالألف واللام فيهما ، وكذا جاء في أكثر الأحاديث وأكثر كلام الشافعي ووقع في مختصر المزني : السلام عليك أيها النبي ، سلام علينا ، بإثبات الألف واللام في الأول دون الثاني واتفق أصحابنا على أن جميع هذا جائز لكن الألف واللام أفضل لكثرته في الأحاديث وكلام الشافعي ولزيادته فيكون أحوط ، ولموافقته سلام التحلل من الصلاة والله أعلم




                                      الخدمات العلمية