الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإذا فرغ من التشهد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرض في هذا الجلوس لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقبل الله صلاة إلا بطهور ، وبالصلاة علي } والأفضل أن يقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، لما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ، والواجب من ذلك [ أن يقول ] : اللهم صل على محمد وفي الصلاة على آله وجهان :

                                      ( أحدهما ) يجب لما روى أبو حميد قال : { قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما باركت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد } والمذهب أنها لا تجب للإجماع ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الذي أراه تقديم الأحاديث الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : قد علمنا أو عرفنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد } رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ ، وفي رواية لأبي داود " كما صليت على إبراهيم - وكما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم " وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه { أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه [ ص: 446 ] وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد } رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال { قلنا : يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد عبدك ورسولك ، كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وآل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم } رواه البخاري في صحيحه في وسط كتاب الدعوات بهذه الأحرف ، وقد رأيت بعض الحفاظ المتأخرين الكبار عزاه إلى البخاري في غير هذا الموضع ، وفيه التصريح بقوله : كما صليت على إبراهيم وهي لما يده حيية .

                                      وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه قال : { أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله عز وجل أن نصلي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلي عليك ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم } رواه مسلم بهذا اللفظ وفي رواية { كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ؟ قال : قولوا : اللهم صل على محمد النبي الأمي ، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد النبي الأمي ، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد } رواها أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء ، والحاكم أبو عبد الله في صحيحيهما والدارقطني والبيهقي ، واحتجوا بها . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح .

                                      وفي هذه الرواية فائدتان ( إحداهما ) قوله : إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا ( والثانية ) قوله كما صليت على إبراهيم ; لأن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها ذكر إبراهيم إنما فيها كما صليت على آل إبراهيم . وعن [ ص: 447 ] فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : { سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم عجل هذا ، ثم دعاه فقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله والثناء عليه ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأبو حاتم بن حبان - بكسر الحاء - وأبو عبد الله الحاكم في صحيحيهما وغيرهما . قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط مسلم ، وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرناه .

                                      وأما كعب بن عجرة - بضم العين وإسكان الجيم وبالراء - فهو أبو محمد ويقال أبو عبد الله ، ويقال أبو إسحاق بن عجرة الأنصاري السالمي ، شهد بيعة الرضوان توفي بالمدينة سنة اثنتين ، وقيل ثلاث وقيل إحدى وخمسين ، وهو ابن خمس وسبعين سنة وقيل غير ذلك ، وقوله " حميد مجيد " قال أهل اللغة والمعاني والمفسرون : الحميد بمعنى المحمود ، وهو الذي تحمد أفعاله ، والمجيد الماجد وهو من كمل في الشرف والكرم والصفات المحمودة .

                                      ( أما أحكام المسألة ) فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فرض بلا خلاف عندنا إلا ما سأذكره عن ابن المنذر إن شاء الله تعالى فإنه من أصحابنا . وفي وجوبها على الآل وجهان ، وحكاهما إمام الحرمين والغزالي قولين ، والمشهور وجهان ( الصحيح ) المنصوص ، وبه قطع جمهور الأصحاب أنها لا تجب ( والثاني ) تجب ولم يبين الجمهور قائله من أصحابنا ، وقد بينه أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع ، وأبو الفتح سليم الرازي في تقريبه وصاحبه الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي في تهذيبه وصاحب العدة فقالوا : هو قول التربجي من أصحابنا - بمثناة من فوق مضمومة ثم باء موحدة مضمومة ثم جيم - واحتج له بحديث أبي حميد وليس فيه ذكر الآل ، وكان ينبغي أن يحتج بما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة المصرحة بالصلاة على الآل ، ولعل المصنف أراد بالآل الأهل وهم الأزواج والذرية المذكورة في الحديث ، وهو أحد المذاهب في ذلك كما سأذكره في فرع مستقل إن شاء الله تعالى . [ ص: 448 ] قال المصنف رحمه الله وغيره " وهذا الوجه مردود بإجماع الأمة " قيل قائله : إن الصلاة على الآل لا تجب .

                                      قال الشافعي والأصحاب : والأفضل في صفة الصلاة أن يقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلى آخر ما ذكره المصنف وينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة السابقة فيقول : اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .



                                      وأما أقل الصلاة فقال الشافعي والأصحاب : هو أن يقول اللهم صل على محمد فلو قال صلى الله على محمد فوجهان حكاهما صاحب الحاوي . قال : وهما كالوجهين في قوله عليكم السلام ، والصحيح أنه يجزئه ، وبه قطع صاحب التهذيب ، وفي هذا دليل على أنه لو قال : اللهم صل على النبي أو على أحمد أجزأه . وكذا قطع الرافعي بأنه لو قال صلى الله على رسوله أجزأه ، قال : وفي وجه يكفي أن يقول صلى الله عليه ، والكناية ترجع إلى قوله في التشهد : وأشهد أن محمدا رسول الله قال : وهذا نظر إلى المعنى وقال القاضي حسين في تعليقه : لا يجزئه أن يقول اللهم صل على أحمد أو النبي ، بل تسمية محمد صلى الله عليه وسلم واجبة . قال البغوي وغيره : وأقل الصلاة على الآل اللهم صل على محمد وآله ، ويشترط أن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من التشهد ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في بيان آل النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بالصلاة عليهم وفيهم ثلاثة أوجه لأصحابنا ( الصحيح ) في المذهب أنهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وهو الذي نص عليه الشافعي في حرملة ، ونقله عنه الأزهري والبيهقي وقطع به جمهور الأصحاب ( والثاني ) أنهم عترته الذين ينسبون إليه صلى الله عليه وسلم وهم أولاد فاطمة رضي الله عنها ونسلهم أبدا ، حكاه الأزهري وآخرون ( والثالث ) أنهم كل المسلمين التابعين له صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه عن بعض أصحابنا ، واختاره الأزهري وآخرون ، وهو قول سفيان الثوري وغيره من المتقدمين ، رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله الصحابي وسفيان الثوري وغيرهما . [ ص: 449 ] واحتج القائلون بهذا بقول الله تعالى { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } والمراد جميع أتباعه كلهم . قال البيهقي : ويحتج لهم بقول الله تعالى لنوح صلى الله عليه وسلم : { احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك } و قال { إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال : يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } فأخرجه بالشرك عن أن يكون من أهل نوح .

                                      قال البيهقي : وقد أجاب الشافعي عن هذا فقال : الذي نذهب إليه أن معنى الآية أنه ليس من أهلك الذين أمرناك بحملهم ; لأنه تعالى قال : {وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم } فأعلمه أنه أمره أن لا يحمل من أهله من يسبق عليه القول من أهل معصيته بقوله تعالى { إنه عمل غير صالح } وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : { جئت أطلب عليا رضي الله عنه فلم أجده ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه فاجلس ، قال : فجاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلا فدخلت معهما ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنا وحسينا ، فأجلس كل واحد منهما على فخذه ، وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ، ثم لف عليهم ثوبه ، وأنه منتبز ، فقال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم أهلي حق ، قال واثلة : قلت : يا رسول الله وأنا من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي ، قال واثلة : إنها لمن أرجى ما أرجوه } قال البيهقي : هذا إسناد صحيح ، قال وهو إلى تخصيص واثلة بذلك أقرب من تعميم الأمة كلها به وكأنه جعل واثلة في حكم الأهل تشبيها بمن يستحق هذا الاسم لا تحقيقا .

                                      وأما ما رواه أبو هرمزة نافع السلمي عن أنس عن النبي : صلى الله عليه وسلم { أنه سئل : من آل محمد ؟ فقال : كل تقي } ، فقال البيهقي : هذا ضعيف ، لا يحل الاحتجاج به ; لأن أبا هرمزة كذبه يحيى بن معين وضعفه أحمد وغيره من الحفاظ ، واحتج الشافعي ثم البيهقي والأصحاب لمذهب [ ص: 450 ] الشافعي أن الآل هم بنو هاشم وبنو المطلب ، بقوله صلى الله عليه وسلم { إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } رواه مسلم . .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير قد ذكرنا أن مذهبنا أنها فرض فيه ، ونقله أصحابنا عن عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما ، ونقله الشيخ أبو حامد عن ابن مسعود وأبي مسعود البدري رضي الله عنهما ، ورواه البيهقي وغيره عن الشعبي وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقال مالك وأبو حنيفة وأكثر العلماء : هي مستحبة لا واجبة ، وحكاه ابن المنذر عن مالك وأهل المدينة ، وعن الثوري وأهل الكوفة وأهل الرأي وجملة من أهل العلم . قال ابن المنذر وبه أقول .

                                      وقال إسحاق : إن تركها عمدا لم تصح صلاته ، وإن تركها سهوا رجوت أن تجزئه . واحتج لهم بحديث " المسيء صلاته " وبحديث ابن مسعود في التشهد ثم قال في آخره : فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك . واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { صلوا عليه وسلموا تسليما } قال الشافعي رحمه الله تعالى : أوجب الله تعالى بهذه الآية الصلاة وأولى الأحوال بها حال الصلاة ، قال أصحابنا : الآية تقتضي وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقد أجمع العلماء أنها لا تجب في غير الصلاة قال الكرخي : محجوج بالإجماع قبله واحتجوا أيضا بالأحاديث الصحيحة السابقة ، وأجابوا عن حديث " المسيء صلاته بأنه محمول على أنه كان يعلم التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحتج إلى ذكرهما كما لم يذكر الجلوس وقد أجمعنا على وجوبه وإنما تركت النية للعلم بها ، والجواب عن حديث ابن مسعود أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الحفاظ ، وسيأتي إيضاح إدراجها وقول الحفاظ فيه في مسألة الخلاف في وجوب السلام إن شاء الله تعالى .




                                      الخدمات العلمية