الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ثم يدعو بما أحب لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع عذاب النار ، وعذاب القبر ، وفتنة المحيا [ ص: 451 ] والممات ، وفتنة المسيح الدجال ، ثم يدعو لنفسه بما بدا له ، فإن كان إماما لم يطل الدعاء } ، والأفضل أن يدعو لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقول بين التشهد والتسليم : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم دون قوله ( ثم يدعو لنفسه بما بدا له ) والبيهقي والنسائي بهذه الزيادة بإسناد صحيح . وحديث علي رضي الله عنه رواه مسلم . قال أهل اللغة : العذاب كل ما يضني الإنسان ويشق عليه ، وأصله المنع وسمي عذابا ; لأنه يمنعه من المعاودة ، ويمنع غيره من مثل ما فعله ( وقوله ) فتنة المحيا والممات أي الحياة والموت ، والمسيح بفتح الميم وتخفيف السين وبالحاء المهملة ، وهو الصواب في ضبطه . وقيل أشياء أخر ضعيفة نبسطها في تهذيب اللغات . قال أبو عبيد وغيره : المسيح هو الممسوح العين ، وبه سمي الدجال ، وقال غيره : لمسحه الأرض فهو فعيل بمعنى فاعل وقيل المسيح الأعور وقال أبو العباس ثعلب : المسيح الكذاب والدجال من الدجل ، وهو التغطية سمي بذلك لتمويهه وتغطيته الحق بباطله وتجنبه له وقيل غير ذلك . وقوله : ( أنت المقدم وأنت المؤخر ) أي يقدم من لطف به إلى رحمته وطاعته بفضله ويؤخر من شاء عن ذلك بعدله .

                                      ( أما حكم المسألة ) فاتفق الشافعي والأصحاب على استحباب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقبل السلام ، قال الشافعي والأصحاب : وله أن يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا ، ولكن أمور الآخرة أفضل وله الدعاء بالدعوات المأثورة في هذا الموطن والمأثورة في غيره ، وله أن يدعو بغير المأثور ، وبما يريده من أمور الآخرة والدنيا ، وحكى إمام الحرمين عن والده الشيخ أبي محمد الجويني أنه كان يتردد في قول : اللهم ارزقني جارية صفتها كذا وكذا ويميل إلى منعه وأنه يبطل الصلاة ، والصواب الذي عليه جمهور الأصحاب أنه يجوز كل ذلك ولا تبطل الصلاة بشيء منه ، ودليله الأحاديث الصحيحة التي سنذكرها في فرع مفرد إن شاء [ ص: 452 ] الله تعالى منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { ثم ليتخير من الدعاء ما شاء } " ونحو ذلك من الأحاديث ، ولا فرق في استحباب هذا الدعاء بين الإمام والمأموم والمنفرد ، وهكذا نص عليه الشافعي في الأم ، وبه قطع الجمهور . وحكى الرافعي وجها أنه لا يستحب الدعاء للإمام وهذا غلط صريح مخالف للأحاديث الصحيحة ، ولنصوص الشافعي والأصحاب .

                                      قال الشافعي في الأم : أحب لكل مصل أن يزيد على التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الله عز وجل ودعاءه في الركعتين الأخيرتين وأرى أن يكون زيادة ذلك إن كان إماما أقل من قدر التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قليلا للتخفيف عمن خلفه ، وأرى أن يكون جلوسه وحده أكثر من ذلك ولا أكره ما أطال ما لم يخرجه ذلك إلى سهو أو يخاف به سهوا وإن لم يزد على التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كرهت ذلك ولا إعادة عليه ولا سجود سهو ، هذا نصه نقلته من الأم بحروفه وفيه فوائد ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في أدعية صحيحة بين التشهد والتسليم وفي غير ذلك من أحوال الصلاة منها : حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا صلى أحدكم ، فليقل : التحيات لله ، والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه ، فيدعو } رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم " ثم يتخير من المسألة ما شاء وفي رواية له " { ثم ليتخير من الدعاء } " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا فرغ أحدكم من التشهد فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر فتنة المسيح الدجال } " رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه وفي رواية لمسلم { إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال } . وفي رواية لمسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وعذاب [ ص: 453 ] النار ، وفتنة المحيا والممات ، وشر المسيح الدجال } وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي : صلى الله عليه وسلم { كان يدعو في الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم ، فقال له قائل : ما أكثر ما تستعيذ من المأثم والمغرم ؟ فقال : إن الرجل إذا غرم حدث ، فكذب ووعد فأخلف } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء ، كما يعلمهم السورة من القرآن يقول : قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات } رواه مسلم ثم قال : بلغني أن طاوسا قال لابنه دعوت به في صلاتك ؟ فقال : لا ، فقال أعد صلاتك . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم { قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : علمني دعاء أدعو به في صلاتي ، فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم } رواه البخاري ومسلم .

                                      ( قوله ) ظلما كثيرا - هو بالثاء المثلثة - في أكثر الروايات ، وفي بعض الروايات كبيرا بالباء الموحدة ، فينبغي أن يجمع بينهما فيقال كبيرا ، واحتج البخاري وخلائق من الأئمة بهذا الحديث في الدعاء بين التشهد والسلام .

                                      وعن أبي صالح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : كيف تقول في الصلاة ؟ قال : أتشهد وأقول : اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال النبي : صلى الله عليه وسلم حولهما ندندن } رواه أبو داود بإسناد صحيح . قال أهل اللغة : الدندنة كلام لا يفهم ، ومعنى حولهما ندندن أي حول سؤاليهما ( إحداهما ) سؤال طلب ( والثانية ) سؤال رهب والأحاديث في هذا كثيرة ، وفيما ذكرته كفاية وبالله التوفيق .



                                      ( فرع ) قد سبق في فصل تكبيرة الإحرام بيان حكم الدعاء بغير [ ص: 454 ] العربية فيما يجوز الدعاء به في الصلاة . مذهبنا أنه يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به خارج الصلاة من أمور الدين والدنيا وله : اللهم ارزقني كسبا طيبا وولدا ودارا وجارية حسناء يصفها ، واللهم خلص فلانا من السجن وأهلك فلانا وغير ذلك . ولا يبطل صلاته شيء من ذلك عندنا ، وبه قال مالك والثوري وأبو ثور وإسحاق .

                                      وقال أبو حنيفة وأحمد : لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة الموافقة للقرآن قال العبدري : وقال بعضهم : لا يجوز بما يطلب من آدمي ؟ وقال بعض أصحاب أحمد : إن دعا بما يقصد به اللذة وشبه كلام الآدمي كطلب جارية وكسب طيب بطلت صلاته .

                                      واحتج لهم بقوله صلى الله عليه وسلم { إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير ، وقراءة القرآن } رواه مسلم ، وبالقياس على رد السلام وتشميت العاطس .

                                      واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم { وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء } وفي الحديث الآخر { فأكثروا الدعاء } " وهما صحيحان سبق بيانهما فأطلق الأمر بالدعاء ولم يقيده فتناول كل ما يسمى دعاء ، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا في مواضع بأدعية مختلفة فدل على أنه لا حجر فيه . وفي الصحيحين في حديث ابن مسعود رضي الله عنه { عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر التشهد : ثم ليتخير من الدعاء ما أعجبه وأحبه إليه ، وما شاء } وفي رواية مسلم كما سبق في الفرع قبله ، وفي رواية أبي هريرة " ثم يدعو لنفسه ما بدا له " قال النسائي : وإسناده صحيح كما سبق . وعن أبي هريرة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في قنوته : اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة ومسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف } رواه البخاري ومسلم وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم " { اللهم العن رعلا وذكوان وعصية ، عصت الله ورسوله } " وهؤلاء قبائل من العرب ، والأحاديث بنحو ما ذكرناه كثيرة . والجواب عن حديثهم أن الدعاء لا يدخل في كلام الناس ، وعن [ ص: 455 ] التشميت ورد السلام أنهما من كلام الناس ; لأنهما خطاب لآدمي بخلاف ، الدعاء ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية