الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 491 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 491 ] ( الشرح ) أما فرائضها فهي على ما ذكرنا إلا أن نية الخروج من الصلاة فيها خلاف سبق ، وذكرنا هناك أن الأصح أنها سنة وليست بواجبة وضم ابن القاص والقفال إلى الفروض استقبال القبلة وهو ضعيف ، بل الصحيح الذي عليه الجمهور أن الاستقبال شرط لا فرض ، وذكر جماعة أن نية الصلاة شرط لا فرض ، والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها فرض ، وقد سبقت المسألة في موضعها مبسوطة وذكر الغزالي في البسيط وجهين في أن السجدة الثانية ركن مستقل كالركوع أم ركن متكرر كالركوع في الركعة الثانية ، قال : والصحيح الأول لأنه يفصل بينها وبين السجدة الأولى ركن ، قال : وهذا الخلاف إنما هو في العبارة .



                                      وأما السنن فمنها هذه الخمس والثلاثون التي ذكرها وبقي منها سنن لم يذكرها المصنف هنا . وقد ذكر هو كثيرا في موضعه فكأنه استغنى بذاك عن ذكره هنا ، وكان ينبغي أن لا يستغني به كما لم يستغن في هذه الخمس والثلاثين ، وإن كانت قد سبقت في موضعها ; لأن مراده هنا حصرها وضبطها بالعدد ، فمما تركه تفريق أصابع يديه إذا رفعها ، وتفريقها على الركبة في الركوع ، وضمها إلى القبلة في السجود ، وتوجيه أصابع رجليه إلى القبلة في السجود ، وجعل يديه حذو منكبيه في السجود والاعتماد عليها في السجود ، والدعاء في السجود وجعل اليد اليمنى على اليسرى فوق السرة والجهر بالتأمين والالتفات من التسليمتين يمينا وشمالا وغيرها مما سبق ، وكثير من هذه المذكورات يقال استغنى لكونه وصفا لشيء ذكره هنا ، واستغنى بذكر الموصوف . والله أعلم .

                                      وقول ( التسميع والتحميد في الرفع من الركوع ) كان ينبغي أن يقول التسميع في الرفع والتحميد في الاعتدال منه . ; لأن التحميد لا يشرع في الرفع إنما يشرع إذا اعتدل ، وكأنه اختصر واستغنى بذكره على وجهه في موضعه



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : للصلاة أركان وأبعاض وهيئات وشروط ، فالأركان هي الفروض التي ذكرها المصنف وتكلمنا عليها ، والأبعاض ستة ( أحدها ) القنوت في الصبح وفي الوتر في النصف الثاني من شهر رمضان ( والثاني ) القيام للقنوت ، ( والثالث ) التشهد الأول ( والرابع ) الجلوس له ( والخامس ) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول إذا قلنا [ ص: 492 ] هي سنة ( والسادس ) الجلوس للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهدين إذا قلنا هي سنة فيهما ، وقد سبق بيان كل ذلك في موضعه . وأما الهيئات وهي السنة التي ليست أبعاضا فكل ما يشرع في الصلاة غير الأركان والأبعاض ، وأما الشروط فخمسة : الطهارة عن الحدث ، والطهارة عن النجس واستقبال القبلة وستر العورة ومعرفته الوقت يقينا أو ظنا بمستند ، وضم الفوراني والغزالي إلى الشروط ترك الأفعال في الصلاة وترك الكلام وترك الأكل . والصواب أن هذه ليست بشروط وإنما هي مبطلات الصلاة ، كقطع النية وغير ذلك ، ولا تسمى شروطا في اصطلاح أهل الأصول ولا في اصطلاح الفقهاء وإن أطلقوا عليها في موضع اسم الشرط كان مجازا لمشاركتها الشرط في عدم صحة الصلاة عند اختلاله ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : من ترك ركنا أو شرطا لم تصح صلاته إلا في مواضع مخصوصة بعذر في بعض الشروط ، كفاقد السترة ، وإن ترك غيرهما صحت وفاته الفضيلة ، سواء تركه عمدا أو سهوا ، لكن إن كان المتروك من الأبعاض سجد للسهو وإلا فلا . هذا مختصر القول في هذا ، وهو مبسوط في مواضعه وبالله التوفيق .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بصفة الصلاة .

                                      ( أحدها ) يستحب دخوله فيها بنشاط وإقبال عليها وأن يتدبر القراءة والأذكار ويرتلهما وكذلك الدعاء ، ويراقب الله تعالى فيها ويمتنع من الفكر في غير هذا حتى يفرغ منها ويستحب ما أمكنه من الخشوع والخضوع بظاهره وباطنه قال الله تعالى { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } روى البيهقي بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير هذه الآية قال : الخشوع في القلب أن تلين جانبك للمرء المسلم ، وأن لا تلتفت في صلاتك . وعن جماعة من السلف : الخشوع السكون فيها وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة } رواه مسلم . الخيل الشمس ذات التوثب والنفار . وعن عقبة [ ص: 493 ] بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة } رواه مسلم ، وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل ذكر فضل الوضوء ، وفي آخره { إن قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل ، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئة يوم ولدته أمه } رواه مسلم وعن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله } رواه مسلم . وعن أبي اليسر - بفتح المثناة تحت والسين المهملة - واسمه كعب بن عمرو وهو آخر من توفي من أهل بدر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { منكم من يصلي الصلاة كاملة ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع والخمس حتى بلغ العشر } رواه النسائي بإسناد صحيح وروى النسائي أيضا نحوه أو مثله عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده أيضا صحيح . وقد ذكر البيهقي بإسناده الصحيح عن مجاهد قال : " كان ابن الزبير رضي الله عنه إذا قام في الصلاة كأنه عود ، وحدث أن أبا بكر رضي الله عنه قال كذلك ، قال فكان يقال : ذلك الخشوع في الصلاة والأحاديث والآثار في المسألة كثيرة مشهورة والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) قال الشافعي رحمه الله في الأم : أرى في كل حال للإمام أن يرتل التشهد والتسبيح والقراءة أو يزيد فيها شيئا بقدر ما يرى أن من وراءه ممن يثقل لسانه قد بلغ أن يؤدي ما عليه ، وكذلك أرى له في الخفض والرفع أن يتمكن ليدركه الكبير والضعيف والثقيل ، وإن لم يفعل وفعل بأخف الأشياء كرهت ذلك له ولا سجود للسهو عليه ، هذا نصه واتفق الأصحاب عليه ، وهذه المسألة بباب صلاة الجماعة أليق ، لكن لها تعلق بهذا الباب ، وهنا ذكرها الشافعي رحمه الله وسنعيدها مبسوطة بفروعها هناك إن شاء الله تعالى



                                      [ ص: 494 ] الثالثة ) قال صاحب التهذيب : يشترط لصحة الصلاة العلم بأنها فرض ، ومعرفة أعمالها قال : فإن جهل فرضية أصل الصلاة أو علم أن بعض الصلاة فريضة ولم يعلم فريضة الصلاة التي شرع فيها لم تصح صلاته ، وكذا إذا لم يعرف فرضية الوضوء ، أما إذا علم فرضية الصلاة ولم يعلم أركانها فله ثلاثة أحوال :

                                      ( أحدها ) أن يعتقد جميع أفعالها سنة ( والثاني ) أن يعتقد بعض أفعالها فرضا وبعضها سنة ولا يميز الفرض من السنة فلا تصح صلاته في هذين الحالين بلا خلاف ، هكذا صرح به القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي ( الثالث ) أن يعتقد جميع أفعالها فرضا فوجهان حكاهما القاضي حسين والبغوي :

                                      ( أحدهما ) لا تصح صلاته لأنه ترك معرفة ذلك وهي واجبة ( وأصحهما ) تصح وبه قطع المتولي ; لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض وذلك لا يؤثر . قال البغوي فإن لم نصحح صلاته ففي صحة وضوئه في هذه الحالة وجهان ، هكذا ذكر هؤلاء هذه المسائل ولم يفرقوا بين العامي وغيره وقال الغزالي في الفتاوى : العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها تصح صلاته بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض ، فإن نوى التنفل به لم يعتد به ، ولو غفل عن التفصيل فنية الجملة في الابتداء كافية . هذا كلام الغزالي وهو الصحيح الذي يقتضيه ظاهر أحوال الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم ، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزم الأعراب وغيرهم هذا التمييز ، ولا أمر بإعادة صلاة من لا يعلم هذا والله أعلم .

                                      قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : ويلزم المكلف أن يتعلم القراءة والتشهد وتكبيرة الإحرام وصفة الصلاة كلها ، فإن لم يتعلم فحكمه ما سبق فيمن لا يحسن تكبيرة الإحرام وسبق تفصيله ، ونص الشافعي في الأم على أصل هذه القاعدة .



                                      ( الرابعة ) في التنبيه على حفظ أشياء سبقت مبسوطة ، منها أن رفع اليدين مستحب في ثلاثة مواضع بالاتفاق عندنا ، عند الإحرام والركوع والرفع منه ، وكذا في القيام من التشهد الأول على المختار ، وتكون الأصابع مفرقة فيها كلها وللأصابع أحوال في الصلاة سبق بيانها في فصل تكبيرة الإحرام ، وسبق أن في الصلاة الرباعية اثنتين وعشرين تكبيرة وفي الثلاثية سبع عشرة وفي الثنائية إحدى عشرة ، وأن في الصلاة التي تزيد على ركعتين [ ص: 495 ] أربع جلسات الجلسة بين سجدتين ، وللاستراحة وللتشهدين يتورك في الآخرة ويفترش في الباقي وأنه يتصور في المغرب أربع تشهدات في حق المسبوق .



                                      ( الخامسة ) قال الشافعي رحمه الله في المختصر : ولا فرق بين الرجال والنساء في عمل الصلاة ، إلا أن المرأة يستحب لها أن تضم بعضها إلى بعض ، وأن تلصق بطنها بفخذيها في السجود كأستر ما يكون ، وأحب ذلك لها في الركوع وفي جميع الصلاة ، وأن تكثف جلبابها وتجافيه راكعة وساجدة لئلا تصفها ثيابها ، وأن تخفض صوتها . وإن نابها شيء في صلاتها صفقت ، هذا نصه .

                                      قال أصحابنا : المرأة كالرجل في أركان الصلاة وشروطها وأبعاضها وأما الهيئات المسنونات فهي كالرجل في معظمها وتخالفه فيما ذكره الشافعي ويخالف النساء الرجال في صلاة الجماعة في أشياء :

                                      ( أحدها ) لا تتأكد في حقهن كتأكدها في الرجال ( الثاني ) تقف إمامتهن وسطهن ( الثالث ) تقف واحدتهن خلف الرجل لا بجنبه بخلاف الرجل ( الرابع ) إذا صلين صفوفا مع الرجال فآخر صفوفهن أفضل من أولها وستأتي هذه المسائل بدلائلها وفروعها مبسوطة في صلاة الجماعة وموقف الإمام والمأموم إن شاء الله تعالى وأما صفة قعودها في صلاتها فكصفة قعود الرجل في جميع أحوالها وقال صاحب الحاوي : إذا صلت قاعدة جلست متربعة وهذا شاذ مخالف لنص الشافعي الذي ذكرناه ولما قاله الأصحاب أنها كالرجل إلا فيما استثناه الشافعي واعلم أن الشافعي رحمه الله نص هنا على خفض صوتها ، وقد سبق فيه تفصيل وخلاف في فصل القراءة وبالله التوفيق .



                                      باب صلاة التطوع اختلف أصحابنا في حد التطوع والنافلة والسنة على ثلاثة أوجه :

                                      ( أحدها ) أن تطوع الصلاة هو ما لم يرد فيه نقل بخصوصيته بل يفضله الإنسان ابتداء ، والذاهبون إلى هذا قالوا : ما عدا الفرائض ثلاثة أقسام ( سنن ) وهي التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ومستحبات ) وهي التي فعلها أحيانا ولم يواظب عليها ( وتطوعات ) وهي التي ذكرنا أولا . [ ص: 496 ] والوجه الثاني : أن النفل والتطوع لفظان مترادفان معناهما واحد ، وهما ما سوى الفرائض . والوجه الثالث : أن السنة والنفل والتطوع والمندوب والمرغب فيه والمستحب ألفاظ مترادفة وهي ما سوى الواجبات . قال العلماء : التطوع في الأصل فعل الطاعة ، وصار في الشرع مخصوصا بطاعة غير واجبة .




                                      الخدمات العلمية