الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( وإن عمل عملا ليس من جنسها فإن كان قليلا مثل إن دفع مارا بين يديه أو ضرب حية أو عقربا أو خلع نعليه أو أصلح رداءه أو حمل شيئا أو سلم عليه رجل فرد عليه بالإشارة وما أشبه ذلك - لم تبطل صلاته ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفع المار بين يديه ، وأمر بقتل الأسودين الحية والعقرب في الصلاة ، وخلع نعليه وحمل أمامة بنت أبي العاص في الصلاة فكان إذا سجد وضعها فإذا قام رفعها وسلم عليه الأنصار فرد عليهم بالإشارة في الصلاة ، ولأن المصلي لا يخلو من عمل قليل فلم تبطل صلاته بذلك ، وإن كان عملا كثيرا بأن مشى خطوات متتابعات أو ضرب ضربات متواليات بطلت صلاته ; لأنه لا تدعو إليه الحاجة في الغالب .

                                      وإن مشى خطوتين أو ضرب ضربتين ففيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : لا تبطل صلاته ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه ووضعهما إلى جانبه وهذان فعلان متواليان ( والثاني ) : ( تبطل ; لأنه ) عمل مكرر فهو كالثلاث ، وإن عمل عملا كثيرا متفرقا لم تبطل لحديث أمامة بنت أبي العاص - رضي الله عنهما - فإنه تكرر منه الحمل والوضع ولكنه لما تفرق لم يقطع الصلاة ، ولا فرق في العمل بين العمد والسهو ; لأنه فعل بخلاف الكلام فإنه قول ، والفعل أقوى من القول .

                                      ولهذا ينفذ إحبال المجنون لكونه فعلا ، ولا ينفذ إعتاقه ; لأنه قول ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث الأمر بدفع المار رواه البخاري ومسلم من رواية أبي سعيد الخدري ، وقد سبق بيانه في آخر باب استقبال القبلة ; وذكرناه هناك من رواية غير أبي سعيد أيضا .

                                      وأما الحديث الثاني فروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص: 25 ] صلى الله عليه وسلم { اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب } " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

                                      وأما حديث خلع النعل فصحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة من رواية أبي سعيد وقد سبق بيانه في باب طهارة البدن .

                                      وأما حديث حمل أمامة فرواه البخاري ومسلم وسبق بيانه في باب طهارة البدن أيضا .

                                      وأما حديث تسليم الأنصار والرد عليهم بالإشارة ، فرواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، ورواية ابن عمر رضي الله عنه ( أما حكم المسألة ) فمختصر ما قاله أصحابنا أن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إن كان كثيرا أبطلها بلا خلاف ، وإن كان قليلا لم يبطلها بلا خلاف ، هذا هو الضابط ، ثم اختلفوا في ضبط القليل والكثير على أربعة أوجه : ( أحدها ) : القليل ما لا يسع زمانه فعل كل ركعة ، والكثير ما يسعها .

                                      حكاه الرافعي وهو ضعيف أو غلط .

                                      ( والثاني ) : كل عمل لا يحتاج إلى يديه جميعا كرفع عمامة ، وحل أشرطة سراويل ونحوهما - قليل ، وما احتاج كتكوير العمامة ، وعقد الإزار والسراويل كثير حكاه الرافعي .

                                      ( والثالث ) : القليل ما لا يظن الناظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة ، والكثير ما يظن أنه ليس فيها وضعفوه بأن من رآه يحمل صبيا أو يقتل حية أو عقربا ونحو ذلك يظن أنه ليس في صلاة ، وهذا القدر لا يبطلها بلا خلاف .

                                      ( والرابع ) : وهو الصحيح المشهور - وبه قطع المصنف والجمهور - أن الرجوع فيه إلى العادة فلا يضر ما يعده الناس قليلا كالإشارة برد السلام ، وخلع النعل ورفع العمامة ووضعها ، ولبس ثوب خفيف ونزعه ، وحمل صغير ووضعه ودفع مار ودلك البصاق في ثوبه ، وأشباه هذا .

                                      وأما ما عده الناس كثيرا كخطوات كثيرة متوالية ، وفعلات متتابعة فتبطل [ ص: 26 ] الصلاة ، قال أصحابنا : على هذا ، الفعلة الواحدة كالخطوة والضربة قليل بلا خلاف والثلاث كثير بلا خلاف ، وفي الاثنين وجهان حكاهما المصنف والأصحاب .

                                      ( أصحهما ) : قليل .

                                      وبه قطع الشيخ أبو حامد ( والثاني ) : كثير ، ثم اتفق الأصحاب على أن الكثير إنما يبطل إذا توالى ، فإن تفرق بأن خطا خطوة ثم سكت زمنا ، ثم خطا أخرى أو خطوتين ثم خطوتين بينهما زمن - إذا قلنا : لا يضر الخطوتان وتكرر ذلك مرات كثيرة حتى بلغ مائة خطوة فأكثر - يضر بلا خلاف ، وكذلك حكم الضربات المتفرقة وغيرها .

                                      قال أصحابنا : وحد التفريق أن يعد الثاني منقطعا عن الأول ، وقال البغوي : عندي أن يكون بينهما ركعة لحديث أمامة بنت أبي العاص ، وهذا غريب ضعيف ، ولا دلالة في الحديث ; لأنه ليس فيه نهي عن فعل ثان في دون ذلك الزمان .

                                      قال أصحابنا : والمراد بقولنا : لا تبطل بالفعلة الواحدة ما لم يتفاحش .

                                      فإن تفاحشت وأفرطت كالوثبة الفاحشة بطلت صلاته بلا خلاف ، وكذا قولهم : الثلاث المتوالية تبطل أرادوا الخطوات والضربات ونحوها ، فأما الحركات الخفيفة كتحريك الأصابع في سبحة أو حكة أو حل وعقد ففيها وجهان حكاهما الخراسانيون ( أحدهما ) : أنها كالخطوات فتبطل الصلاة بكثيرها ( والثاني ) : وهو الصحيح المشهور وبه قطع جماعة لا تبطل وإن كثرت متوالية لكن يكره ، وقد نص الشافعي - رحمه الله - : أنه لو كان يعد الآيات بيده عقدا لم تبطل صلاته ، لكن الأولى تركه كما سنوضحه قريبا إن شاء الله - تعالى ، هذا كله في الفعل عمدا ، فأما فعل الناسي في الصلاة إذا كثر ففيه طريقان .

                                      ( أشهرهما ) وبه قطع المصنف والجمهور : تبطل الصلاة وجها واحدا ; لما ذكره المصنف ( والثاني ) : فيه وجهان ككلام الناسي ، حكاه صاحب التتمة وقال : الأصح أنه لا تبطل للحديث الصحيح في قصة ذي اليدين فإنه قال فيه حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم من ركعتين في الظهر والعصر : ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد وخرج سرعان الناس ثم عاد فصلى ركعتين ، وهذا اللفظ في الصحيحين

                                      [ ص: 27 ] وفي رواية للبخاري " فخرجت السرعان من أبواب المسجد فتقدم فصلى ، ما ترك " وفي رواية أبي داود " فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم سلم " وإسنادها صحيح

                                      وفي رواية لمسلم من حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول فقال : يا رسول الله فذكر له صنيعه ، وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال أصدق هذا ؟ قالوا : نعم ، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم } " هذا لفظ مسلم ، وفي رواية له : " ثم قام فدخل الحجرة " وذكر نحو الأولى ، هذا كله في غير صلاة شدة الخوف أما فيها فيحتمل الضرب والركض والعدو للحاجة وفيه تفصيل نوضحه في بابه إن شاء الله .

                                      قال أصحابنا : والفعل القليل الذي لا يبطل الصلاة مكروه إلا في مواضع : ( أحدها ) : أن يفعله ناسيا ( الثاني ) : أن يفعله لحاجة مقصودة ( الثالث ) : أن يكون مندوبا إليه كقتل الحية والعقرب ونحوهما ، وكدفع المار بين يديه والصائل عليه ونحو ذلك .



                                      ( فرع ) لو قرأ القرآن من المصحف لم تبطل صلاته سواء كان يحفظه أم لا بل يجب عليه ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة كما سبق ، ولو قلب أوراقه أحيانا في صلاته لم تبطل ، ولو نظر في مكتوب غير القرآن وردد ما فيه في نفسه لم تبطل صلاته وإن طال ، لكن يكره ، نص عليه الشافعي في الإملاء وأطبق عليه الأصحاب .

                                      وحكى الرافعي وجها أن حديث النفس إذا طال أبطل الصلاة وهو شاذ ، والمشهور الجزم بصحتها .

                                      ونقله الشيخ أبو حامد عن نصه في الإملاء وهذا الذي ذكرناه من أن القراءة في المصحف لا تبطل الصلاة مذهبنا ومذهب مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد ، وقال أبو حنيفة : تبطل .

                                      قال أبو بكر الرازي : أراد إذا لم يحفظ القرآن وقرأ كثيرا في المصحف ، فأما إن كان يحفظه أو لا يحفظه وقرأ يسيرا كالآية ونحوها فلا تبطل .

                                      واحتج له بأنه يحتاج في ذلك إلى فكر ونظر ، وذلك عمل كثير ، وكما لو تلقن من [ ص: 28 ] غيره في الصلاة واحتج أصحابنا بأنه أتى بالقراءة ، وأما الفكر والنظر فلا تبطل الصلاة بالاتفاق إذا كان في غير المصحف ، ففيه أولى ، وأما التلقين في الصلاة فلا يبطلها عندنا بلا خلاف .




                                      الخدمات العلمية