الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 416 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ويستحب أن لا يركب من غير عذر ; لما روى أوس بن أوس رضي الله عنه [ عن أبيه ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث حسن رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد حسنة ، قال الترمذي : هو حديث حسن ، وراويه أوس بن أوس الثقفي ، وقال يحيى بن معين : هو أوس بن أبي أوس ، والصواب الأول ، وروي غسل بتخفيف السين ، وغسل بتشديدها ، روايتان مشهورتان ; والأرجح عند المحققين بالتخفيف ، فعلى رواية التشديد في معناه ثلاثة أوجه ( أحدها ) : غسل زوجته بأن جامعها فألجأها إلى الغسل ، واغتسل هو قالوا : ويستحب له الجماع في هذا اليوم ليأمن أن يرى في طريقه ما يشغل قلبه ( والثاني ) : أن المراد غسل أعضاءه في الوضوء ثلاثا ثلاثا ثم اغتسل للجمعة .

                                      ( والثالث ) : غسل ثيابه ورأسه ثم اغتسل للجمعة ، وعلى رواية التخفيف في معناه هذه الأوجه الثلاثة ( أحدها ) : الجماع قاله الأزهري ; قال ويقال : غسل امرأته إذا جامعها ( والثاني ) : غسل رأسه وثيابه ( والثالث ) : توضأ وذكر بعض الفقهاء عسل بالعين المهملة وتشديد السين أي جامع ، شبه لذة الجماع بالعسل ; وهذا غلط غير معروف في روايات الحديث وإنما هو تصحيف ، والمختار ما اختاره البيهقي وغيره من المحققين أنه بالتخفيف وأن معناه غسل رأسه ، ويؤيده رواية لأبي داود في هذا الحديث من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل .

                                      وروى أبو داود في سننه والبيهقي هذا التفسير عن مكحول وسعيد بن عبد العزيز .

                                      قال البيهقي : وهو بين في رواية أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أفرد الرأس بالذكر ; لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن والخطمي ونحوهما وكانوا يغسلونه أولا ثم يغتسلون .

                                      [ ص: 417 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم " وبكر وابتكر " فقال الأزهري : يجوز فيه بكر بالتخفيف والتشديد ، فمن خفف فمعناه خرج من بيته باكرا ، ومن شدد معناه أتى الصلاة لأول وقتها وبادر إليها ، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه ، وفي الحديث بكروا بصلاة المغرب أي صلوها لأول وقتها ، ويقال لأول الثمار باكورة ; لأنه جاء في أول وقت .

                                      قال : معنى ابتكر أدرك أول الخطبة ، كما يقال ابتكر بكرا إذا نكحها لأول إدراكها .

                                      هذا كلام الأزهري والمشهور بكر بالتشديد ; ومعناه بكر إلى صلاة الجمعة ; وقيل إلى الجامع ; وابتكر أدرك أول الخطبة .

                                      وقيل هما بمعنى جمع بينهما تأكيدا .

                                      حكاه الخطابي عن الأثرم صاحب أحمد ، قال ودليله تمام الحديث ; ومشى ولم يركب ومعناهما واحد قال الخطابي : قال بعضهم : بكر ، أدرك باكورة الخطبة أي أولها ، وابتكر قدم في أول الوقت .

                                      وقال ابن الأنباري : بكر تصدق قبل خروجه كما في الحديث " باكروا بالصدقة " وقيل : بكر راح في الساعة الأولى ، وابتكر فعل فعل المبتكرين من الصلاة والقراءة وسائر وجوه الطاعة وقيل معنى ابتكر : فعل فعل المبتكرين ، وهو الاشتغال بالصلاة والذكر حكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب .

                                      وأما قوله صلى الله عليه وسلم " ومشى ولم يركب " فقد قدمنا عن حكاية الخطابي عن الأثرم أنه للتأكيد ، وأنهما بمعنى ، والمختار أنه احتراز من شيئين : ( أحدهما ) : نفي توهم حمل المشي على المضي والذهاب ، وإن كان راكبا ( والثاني ) : نفي الركوب بالكلية ; لأنه لو اقتصر على مشى لاحتمل أن المراد وجود شيء من المشي ولو في بعض الطريق ، فنفى ذلك الاحتمال ، وبين أن المراد مشى جميع الطريق ، ولم يركب في شيء منها ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم " ودنا واستمع " فهما شيئان مختلفان .

                                      وقد يستمع ولا يدنو من الخطبة ، وقد يدنو ولا يستمع فندب إليهما جميعا .

                                      وقوله صلى الله عليه وسلم " ولم يلغ " معناه ولم يتكلم ; لأن الكلام حال الخطبة لغو ، وقال الأزهري : معناه استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها .

                                      ( أما حكم المسألة ) فاتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم على أنه يستحب لقاصد الجمعة أن يمشي وأن لا يركب في شيء من طريقه إلا لعذر كمرض ونحوه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية