الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يزاد في التراب الذي أخرج من القبر ، فإن زادوا فلا بأس به ويشخص القبر من الأرض قدر شبر ، لما روى القاسم بن محمد قال : " دخلت على عائشة فقلت اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة " ويسطح القبر ، ويوضع عليه الحصا { لأن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم رضي الله عنه ووضع عليه حصباء من حصباء العرصة } وقال أبو علي الطبري رحمه الله : الأولى في زماننا أن يسنم لأن التسطيح من شعار الرافضة ، وهذا لا يصح ، لأن السنة قد صحت فيه فلا يضر موافقة الرافضة فيه ، ويرش عليه الماء لما روى جابر أن { النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم عليه السلام الماء } ولأنه إذا لم يرش عليه الماء زال أثره فلا يعرف ، ويستحب أن يجعل عند رأسه علامة من حجر أو غيره ، لأن { النبي صلى الله عليه وسلم دفن عثمان بن مظعون ووضع عند رأسه حجرا } ولأنه يعرف به فيزار ، ويكره أن يجصص القبر وأن يبنى عليه [ أو يقعد ] وأن يكتب عليه ، لما روى جابر قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه أو يقعد أو يكتب عليه } ولأن ذلك من الزينة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث القاسم صحيح رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح ، ورواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وقوله " لا مشرفة " أي مرتفعة ارتفاعا كثيرا ، وقوله " ولا لاطئة " هو بهمز آخره أي ولا لاصقة بالأرض ، يقال لطئ ولطأ بكسر الطاء وفتحها وآخره مهموز فيهما إذا لصق . وأما حديث قبر إبراهيم ورش الماء عليه ووضع الحصباء عليه ، فرواه الشافعي في الأم والبيهقي بإسناد ضعيف . وأما حديث عثمان بن مظعون ووضع الحجر عند رأسه فسبق بيانه في الفصل الأول من الدفن . وأما حديث جابر الأخير فرواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم ، لكن لفظ روايتهم { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه } وليس فيه ذكر يكتب ، ووقع في الترمذي بزيادة " يكتب عليه وأن يوطأ " وقال : حديث حسن صحيح [ ص: 264 ] ووقع في سنن أبي داود زيادة " وأن يزاد عليه " وإسنادها صحيح ، ووقع في أكثر النسخ المعتمدة من المهذب " وأن يعقد عليه " بتقديم العين على القاف وهو تصحيف ، فإن الروايات المشهورة في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي وسائر كتب الحديث المشهورة يقعد ، بتقديم القاف على العين من القعود الذي هو الجلوس ، والحصباء بالمد وبالباء الموحدة وهي الحصا الصغار ، والعرصة بإسكان الراء . قال ابن فارس : كل جونة منفتقة ليس فيها بناء فهي عرصة ، والشعار بكسر الشين العلامة ، والرافضة الطائفة المبتدعة ، سموا بذلك لرفضهم زيد بن علي رضي الله عنهما ، فلزم هذا الاسم كل من غلا منهم في مذهبه والله أعلم .

                                      ( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) قال الشافعي في المختصر : يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه ، قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : إنما قلنا يستحب أن لا يزاد لئلا يرتفع القبر ارتفاعا كثيرا . قال الشافعي : فإن زاد فلا بأس . قال أصحابنا : معناه أنه ليس بمكروه ، لكن المستحب تركه ، ويستدل لمنع الزيادة برواية أبي داود المذكورة قريبا ، وهي قوله : وأن يزاد عليه .



                                      ( الثانية ) يستحب أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر ، هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب واتفقوا عليه إلا أن صاحب التتمة استثنى فقال : إلا أن يكون دفنه في دار الحرب فيخفى قبره بحيث لا يظهر مخافة أن يتعرض له الكفار بعد خروج المسلمين .

                                      ( فإن قيل ) هذا الذي ذكرتموه مخالف لحديث { علي رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ندع قبرا مشرفا إلا سويته } ( فالجواب ) ما أجاب به أصحابنا قالوا : لم يرد التسوية بالأرض وإنما أراد تسطيحه ، جمعا بين الأحاديث .



                                      ( الثالثة ) تسطيح القبر وتسنيمه وأيهما أفضل ؟ فيه وجهان ( الصحيح ) التسطيح أفضل وهو نص الشافعي في الأم ومختصر المزني ، وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين وجماعات من المتأخرين ، منهم الماوردي والفوراني والبغوي [ ص: 265 ] وخلائق وصححه جمهور الباقين كما صححه المصنف ، وصرحوا بتضعيف التسنيم كما صرح به المصنف .

                                      ( والثاني ) التسنيم أفضل ، حكاه المصنف عن أبي علي الطبري ، والمشهور في كتب أصحابنا العراقيين والخراسانيين أنه قول أبي علي بن أبي هريرة . وممن حكاه عنه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والشاشي وخلائق من الأصحاب وممن رجح التسنيم من الخراسانيين الشيخ أبو محمد الجويني والغزالي والروياني والسرخسي ، وادعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب وليس كما قال ، بل أكثر الأصحاب على تفضيل التسطيح ، وهو نص الشافعي كما سبق ، وهو مذهب مالك وداود . وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد رحمهم الله : التسنيم أفضل ، ودليل المذهبين في الكتاب . ورد الجمهور على ابن أبي هريرة في دعواه أن التسنيم أفضل لكون التسطيح شعار الرافضة ، فلا يضر موافقة الرافضي لنا في ذلك ، ولو كانت موافقتهم لنا سببا لترك ما وافقوا فيه لتركنا واجبات وسننا كثيرة . " فإن قيل " صححتم التسطيح ، وقد ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن سفيان التمار قال " رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما " ( فالجواب ) ما أجاب به البيهقي رحمه الله قال : صحت رواية القاسم بن محمد السابقة المذكورة في الكتاب ، وصحت هذه الرواية ، فنقول : القبر غير عما كان ، فكان أول الأمر مسطحا كما قال القاسم ، ثم لما سقط الجدار في زمن الوليد بن عبد الملك ، وقيل : في زمن عمر بن عبد العزيز أصلح فجعل مسنما ، قال البيهقي : وحديث القاسم أصح ، وأولى أن يكون محفوظا ، والله أعلم .



                                      ( الرابعة ) يستحب أن يوضع على القبر حصباء ، وهو الحصا الصغار لما سبق وأن يرش عليه الماء لما ذكره المصنف . قال المتولي وآخرون : يكره أن يرش عليه ماء الورد ، وأن يطلى بالخلوف لأنه إضاعة مال .



                                      ( الخامسة ) السنة أن يجعل عند رأسه علامة شاخصة من حجر أو خشبة أو غيرهما هكذا قاله الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب إلا صاحب الحاوي فقال يستحب علامتان ( إحداهما ) عند رأسه ( والأخرى ) عند رجليه قال : لأن { النبي صلى الله عليه وسلم جعل حجرين كذلك على قبر عثمان [ ص: 266 ] بن مظعون } كذا قال ، والمعروف في روايات حديث عثمان حجر واحد والله أعلم .



                                      ( السادسة ) قال الشافعي والأصحاب : يكره أن يجصص القبر ، وأن يكتب عليه اسم صاحبه أو غير ذلك ، وأن يبنى عليه ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، وبه قال مالك وأحمد وداود وجماهير العلماء ، وقال أبو حنيفة : لا يكره ، دليلنا الحديث السابق ، قال أصحابنا رحمهم الله : ولا فرق في البناء بين أن يبني قبة أو بيتا أو غيرهما ، ثم ينظر - فإن كانت مقبرة مسبلة حرم عليه ذلك ; قال أصحابنا ويهدم هذا البناء بلا خلاف . قال الشافعي في الأم : ورأيت من الولاة من يهدم ما بني فيها ، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه ذلك ، ولأن في ذلك تضييقا على الناس ، قال أصحابنا : وإن كان القبر في ملكه جاز بناء ما شاء مع الكراهة ، ولا يهدم عليه ، قال أصحابنا : وسواء كان المكتوب على القبر في لوح عند رأسه كما جرت عادة بعض الناس أم في غيره ، فكله مكروه لعموم الحديث ، قال أصحابنا : وسواء في كراهة التجصيص للقبر في ملكه أو المقبرة المسبلة ، وأما تطيين القبر ، فقال إمام الحرمين والغزالي : يكره ونقل أبو عيسى الترمذي في جامعه أن الشافعي قال : لا بأس بتطيين القبر ، ولم يتعرض جمهور الأصحاب له ; فالصحيح أنه لا كراهة فيه ، كما نص عليه . ولم يرد فيه نهي .

                                      ( فرع ) : قال البغوي وغيره : يكره أن يضرب على القبر مظلة ، لأن عمر رضي الله عنه رأى مظلة على قبر فأمر برفعها وقال : دعوه يظله عمله .




                                      الخدمات العلمية