الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 323 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا تجب الزكاة إلا في السائمة من الإبل والبقر والغنم ، لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب كتاب الصدقة ، وفيه : " في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها صدقة " ، وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون } ولأن العوامل والمعلوفة لا تقتنى للنماء فلم تجب فيها الزكاة ، كثياب البدن وأثاث الدار ، وإن كان عنده سائمة فعلفها نظرت - فإن كان قدرا يبقى الحيوان دونه - لم يؤثر ، لأن وجوده كعدمه ، وإن كان قدرا لا يبقى الحيوان دونه سقطت الزكاة لأنه لم يوجد تكامل النماء بالسوم . وإن كان عنده نصاب من السائمة فغصبه غاصب وعلفه ففيه طريقان : ( أحدهما ) أنه كالمغصوب الذي لم يعلفه الغاصب ، فيكون على قولين ، لأن فعل الغاصب لا حكم له بدليل أنه لو كان له ذهب فصاغه الغاصب حليا لم تسقط الزكاة عنه ، ( والثاني ) أنه تسقط الزكاة قولا واحدا وهو الصحيح ، لأنه لم يوجد شرط الزكاة وهو السوم في جميع الحول ، فصار كما لو ذبح الغاصب شيئا من النصاب ، ويخالف الصياغة ، فإن صياغة الغاصب محرمة فلم يكن لها حكم ، وعلفه غير محرم فثبت حكمه كعلف المالك . وإن كان عنده نصاب من المعلوفة فأسامها الغاصب ففيه طريقان : ( أحدهما ) أنها كالسائمة المغصوبة ، وفيها قولان لأن السوم قد وجد في حول كامل ولم يفقد إلا قصد المالك ، وقصده غير معتبر بدليل أنه لو كان له طعام فزرعه الغاصب وجب فيه العشر ، وإن لم يقصد المالك إلى زراعته ، ( والثاني ) لا تجب فيه الزكاة قولا واحدا لأنه لم يقصد إلى إسامته فلم تجب فيه الزكاة ، كما لو رتعت الماشية لنفسها ، ويخالف الطعام فإنه لا يعتبر في زراعته القصد ، ولهذا لو تبدد له طعام فنبت وجب فيه العشر والسوم يعتبر فيه القصد ، ولهذا لو رتعت الماشية لنفسها لم تجب فيها الزكاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه رواه البخاري ، وهو حديث طويل يشتمل على معظم أحكام زكاة المواشي ، ولفظ رواية البخاري { : وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة } " وفي رواية لأبي داود { وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة } وقد فرق المصنف هذا الحديث في الكتاب فذكر في كل موطن قطعة منه ، وكذا فرقه البخاري في صحيحه ، وقد سبق في مقدمة هذا الشرح أن مثل هذا التفريق جائز على المذهب الصحيح ، وهذا المفهوم الذي في التقييد بالسائمة حجة عندنا ، والسائمة هي التي ترعى وليست معلوفة ، والسوم الرعي ، ويقال : سامت الماشية تسوم سوما ، وأسمتها أي أخرجتها إلى المرعى . ولفظ [ ص: 324 ] السائمة يقع على الشاة الواحدة ، وعلى الشياه الكثيرة . وحديث بهز بن حكيم تقدم بيانه في آخر الباب الذي قبل هذا ، وكأن المصنف أراد بذكر حديث بهز بعد حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه بيان أن سائمة الإبل ورد فيها نص لأن الأول ليس فيه ذكر السوم في الإبل ، ثم إن البقر ملحقة بالغنم والإبل إذ لا فرق ، والله أعلم .

                                      ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) لا تجب الزكاة عندنا في الماشية إلا بشرط كونها سائمة . فإن علفت في معظم الحول ليلا ونهارا فلا زكاة بلا خلاف وإن علفت قدرا يسيرا بحيث لا يتمول ففيه خمسة أوجه : الأربعة الأولى حكاها إمام الحرمين وغيره ( أصحها ) وبه قطع المصنف والصيدلاني وكثيرون من الأصحاب : إن علفت قدرا تعيش بدونه وجبت الزكاة . وإن كان قدرا لا يبقى الحيوان دونه لم تجب . قالوا : والماشية تصبر اليومين ولا تصبر الثلاثة . هكذا ضبطه صاحب الشامل وآخرون . قال إمام الحرمين : ولا يبعد أن يلحق الضرر البين بالهلاك على هذا الوجه .

                                      ( والوجه الثاني ) من الخمسة إن علفت قدرا يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق الماشية فلا زكاة ، وإن كان حقيرا بالنسبة إليه وجبت ، وقيل : إن هذا الوجه رجع إليه أبو إسحاق المروزي بعد أن كان يعتبر الأغلب . قال الرافعي : فسر الرفق بدنها ونسلها وأصوافها وأوبارها . ويجوز أن يقال المراد رفق إسامتها .

                                      ( والوجه الثالث ) لا يؤثر العلف وتسقط به الزكاة إلا إذا زاد نصف السنة ، وهو محكي عن أبي علي بن أبي هريرة تخريجا من أحد القولين في المسقي بماء السماء ، والنضح على قول اعتبار الغالب ، وهذا مذهب أحمد . وقال إمام الحرمين : على هذا لو استويا ففيه تردد ، والظاهر السقوط ، والمشهور الجزم بالسقوط على هذا الوجه إذا تساويا ، ( والرابع ) كل متمول من العلف وإن قل يسقط الزكاة فإن أسيمت بعده استأنف الحول ، ( والخامس ) حكاه البندنيجي وصاحب الشامل أنه يثبت حكم العلف بأن ينوي علفها ويعلفها ولو مرة واحدة . قال الرافعي : لعل الأقرب تخصيص هذا الوجه بما إذا لم يقصد بعلفه شيئا ، فإن قصد به قطع السوم انقطع الحول لا محالة ، كذا ذكره [ ص: 325 ] صاحب العدة أبو المكارم وغيره ولا أثر لمجرد نية العلف ، ولو أسيمت في كلأ مملوك فهل هي سائمة أو معلوفة ؟ فيه وجهان حكاهما صاحب البيان ( أصحهما سائمة ) .



                                      ( المسألة الثانية ) : السائمة إذا كانت عاملة كالإبل التي يحمل عليها أو كانت نواضح ، والبقر التي يحرث عليها ففيها وجهان ( الصحيح ) وبه قطع المصنف والجمهور : لا زكاة فيها لما ذكره المصنف ، ( والثاني ) تجب فيها الزكاة ، حكاه جماعات من الخراسانيين وقطع به الشيخ أبو محمد في كتابه مختصر المختصر كغير العوامل لوجود السوم ، وكونها عاملة زيادة انتفاع لا يمنع الزكاة ، بل هي أولى بالوجوب ، والمذهب الأول ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثالثة ) هل يعتبر القصد في العلف والسوم ؟ فيه وجهان مشهوران في كتب وذكرهما جماعة من العراقيين ، يختلف الراجح منهما باختلاف الصور المفرعة عليهما ( منها ) أنها لو اعتلفت السائمة بنفسها القدر المؤثر ففي انقطاع الحول وجهان : ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والأكثرون الانقطاع لفوات شرط السوم ، فأشبه فوات سائر شروط الزكاة ، فإنه لا فرق بين فوتها قصدا أو اتفاقا ، ولو سامت بنفسها فطريقان ( أصحهما ) أنها على الوجهين أصحهما لا زكاة ( والثاني ) تجب ( والطريق الثاني ) لا تجب قطعا ، وبه قطع المصنف وآخرون لعدم الفعل ولو أسامها بلا نية فالصحيح وجوب الزكاة لظواهر الأحاديث وحصول الرفق مع فعله ، ولو علفها لامتناع الرعي بالثلج وقصد ردها إلى الإسامة عند الإمكان فوجهان ( أصحهما ) ينقطع الحول لفوات الشرط ( والثاني ) لا ، كما لو لبس ثوب تجارة بغير نية القنية فإنه لا تسقط فيه الزكاة بالاتفاق .



                                      [ ص: 326 ] الرابعة ) : لو غصب سائمة فعلفها فإن قلنا لا زكاة في المغصوب فهنا أولى ، وإلا فثلاثة أوجه ، الصحيح عند المصنف والجمهور لا زكاة لفوات الشرط ، ( والثاني ) تجب على المالك لأن فعله كالعدم ، ( والثالث ) إن علفها بعلف من ماله وجبت وإلا فلا . ولو غصب معلوفة وأسامها فطريقان حكاهما المصنف والأصحاب ( أصحهما ) عند الأصحاب لا زكاة . قولا واحدا لعدم فعله فصار كما لو رتعت بنفسها ، ( والثاني ) أنه على القولين في المغصوبة ، كما لو غصب حنطة وبذرها يجب العشر فيما تنبت بلا خلاف ، فإن أوجبناها فهل تجب على الغاصب لأنها مؤنة وجبت بفعله أم على المالك لأن نفع خفة المؤنة عائد إليه ؟ فيه وجهان حكاهما البغوي وغيره ، فإن قلنا : عن المالك ففي رجوعه بها على الغاصب طريقان .

                                      ( أحدهما ) القطع بالرجوع ، وبه قطع المتولي وغيره ، لأن وجوبها كان بفعله وأشهرهما على وجهين ( أصحهما ) الرجوع ( والثاني ) عدمه ، فإن قلنا يرجع فهل يرجع قبل إخراج الزكاة أم بعده ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) بعده ، واستبعد الرافعي إيجاب الزكاة على الغاصب ابتداء ، لكونه غير مالك . قال : والجاري على قياس المذهب أن الزكاة إن أوجبت كانت على المالك ، ثم يغرم له الغاصب ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية