الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 387 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا كانت الماشية صحاحا لم يؤخذ في فرضها مريضة ، لقوله صلى الله عليه وسلم " { ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار } وروي { ولا ذات عيب } وإن كانت مراضا أخذت مريضة ولا يجب إخراج صحيحة ; لأن في ذلك إضرارا لرب المال ، وإن كان بعضها صحاحا وبعضها مراضا أخذ عنها صحيحة ببعض قيمة فرض صحيح وبعض قيمة فرض مريض ; لأنا لو أخذنا مريضة لتيممنا الخبيث وقد قال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وإن كانت الماشية كبار الأسنان كالثنايا والبزل في الإبل لم يؤخذ غير الفرض المنصوص عليه ; لأنا لو أخذنا كبار الأسنان أخذنا عن خمس وعشرين جذعة ، ثم نأخذها في إحدى وستين فيؤدي إلى التسوية في القليل والكثير . وإن كانت الماشية صغارا نظرت فإن كانت من الغنم أخذ منها صغيرة ، لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه " ولو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه " ولأنا لو أوجبنا فيها كبيرة أضررنا برب المال . وإن كانت من الإبل والبقر ففيه وجهان : . قال أبو إسحاق : تؤخذ الفرائض المنصوص عليها بالقسط ، فيقوم النصاب من الكبار ، ثم يقوم فرضه ، ثم يقوم النصاب من الصغار ، ويؤخذ كبيرة بالقسط . ومن أصحابنا من قال : إن كان المال مما يتغير الفرض فيه بالسن لم يجز ; لأنه يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير ، وإن كان مما يتغير الفرض فيه بالعدد أخذ صغيرة لأنه لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير ، فأخذ الصغير من الصغار كالغنم ، والصحيح هو الأول ; لأن هذا يؤدي إلى أن يؤخذ من ست وسبعين فصيلان ، ومن إحدى وتسعين فصيلان وإن وإن كانت الماشية إناثا أو ذكورا وإناثا نظرت فإن كانت من الإبل والغنم لم يؤخذ في فرضها إلا الإناث ; لأن النص ورد فيها بالإناث على ما مضى ولأن في أخذ الذكر من الإناث تيمم الخبيث وقد قال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } وإن كانت من البقر نظرت فإن كانت في فرض الأربعين لم يجز إلا الإناث لما ذكرناه ، وإن كانت في فرض الثلاثين جاز فيه الذكر والأنثى لحديث معاذ " { في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة } وإن كانت كلها ذكورا نظرت فإن كانت من الغنم أخذ واحد منها ، وإن كانت من الإبل أو من الأربعين من البقر ففيه وجهان : . قال أبو إسحاق : لا يجوز إلا الأنثى ، فيقوم النصاب من الإناث ، والفرض الذي فيها ، ثم يقوم النصاب من الذكور ، ويؤخذ أنثى بالقسط حتى لا يؤدي إلى التسوية بين الذكور والإناث ، والدليل عليه أنه لا يؤخذ إلا الأنثى ; لأن الفرائض كلها إناث ، إلا في موضع الضرورة ولا ضرورة ههنا ، فوجبت الأنثى ، وقال أبو علي بن خيران : يجوز فيه الذكور وهو المنصوص في الأم ، والدليل عليه أن الزكاة وضعت على الرفق والمواساة ، فلو أوجبنا [ ص: 388 ] الإناث من الذكور أجحفنا برب المال . قال أبو إسحاق : إلا أنه يؤخذ من ست وثلاثين ابن لبون ، أكثر قيمة من ابن لبون ويؤخذ من خمس وعشرين حتى لا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير في الفرض ، وإن كانت الماشية صنفا واحدا أخذ الفرض منه وإن كانت أنواعا كالضأن والماعز والجواميس والبقر والبخاتي والعرب ، ففيه قولان : : ( أحدهما ) : أنه يؤخذ الفرض من الغالب منهما ، وإن كانوا سواء أخذ الساعي أنفع النوعين للمساكين ، ; لأنا لو ألزمناه الفرض من كل نوع شق ، فاعتبر الغالب ( والقول الثاني ) : أنه يؤخذ من كل نوع بقسطه ; لأنها أنواع من جنس واحد ، فأخذ من كل نوع بقسطه كالثمار ، فعلى هذا إذا كان عشرون من الضأن وعشرون من المعز قوم النصاب من الضأن ، فيقال : قيمته مثلا مائة يقوم فرضه فيقال : قيمته عشرة ، ويقوم نصاب المعز ، فيقال : قيمته خمسون ، ثم يقوم فرضه ، فيقال : قيمته خمسة فيقال له : اشتر شاة من أي النوعين شئت بسبعة ونصف وأخرج ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : هذا الحديث صحيح رواه البخاري من رواية أنس ، وهو حديث طويل سبق بيانه في أول باب زكاة الإبل ، وسبق هناك أن العوار - بفتح العين وضمها - وهو العيب ، وهذا الفصل ومسائله ليس للغنم خاصة بل للماشية كلها ، وكان ينبغي للمصنف أن يفرده بباب ولا يدخله في باب زكاة الغنم ومع هذا فذكره هنا له وجه . وحاصل الفصل بيان صفة المخرج في زكاة الماشية . قال أصحابنا رحمهم الله تعالى : إن كانت الماشية كاملة أخرج الواجب منها وإن كانت ناقصة فأسباب النقص خمسة ( أحدها ) : المرض ، فإن كانت الماشية كلها مراضا أخذت منها مريضة متوسطة لئلا يتضرر المالك ولا المساكين ، وإن كان بعضها صحيحا وبعضها مراضا ، فإن كان الصحيح قدر الواجب فأكثر لم تجز المريضة وإن كان الواجب حيوانا واحدا وإن كان اثنين ، ونصف ماشيته صحاح ونصفها مراض كبنتي لبون في ست وسبعين وكشاتين في مائتين فطريقان ( أصحهما ) : وبه قطع العراقيون وجمهور الخراسانيين يجب صحيحتان بالقسط كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، لعموم قوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } .

                                      ( والطريق الثاني ) : حكاه صاحب التهذيب فيه وجهان : " أحدهما " هذا [ ص: 389 ] وأصحهما " عنده يجزئه صحيحة ومريضة ، والمذهب الأول فإن كان الصحيح من ماشيته دون قدر الواجب كشاتين في مائتين ليس فيها إلا صحيحة واحدة ، فطريقان " الصحيح " وبه قطع العراقيون والصيدلاني وجمهور الخراسانيين : يجزئه مريضة وصحيحة بالقسط ( والطريق الثاني ) : فيه وجهان : حكاهما جماعة من الخراسانيين " أصحهما " هذا ( والثاني ) : وبه قال أبو محمد الجويني : يجب صحيحتان بالقسط ، ولا تجزئه صحيحة ومريضة ; لأن المخرجتين يزكيان أنفسهما والمال ، فكل واحدة تزكي الأخرى فيلزم منه أن تزكي مريضة صحيحة . قال أصحابنا : وإذا انقسم المال إلى صحاح ومراض وأوجبنا صحيحة لم يكلف أن يخرجها من نفس ماله ولا يكلف صحيحة كاملة مساوية لصحيحة ماله في القيمة بل يجب صحيحة لا تعد لائقة بماله .

                                      ( مثاله ) : أربعون شاة نصفها صحاح ونصفها مراض قيمة كل صحيحة منها ديناران وقيمة كل مريضة دينار ، فعليه صحيحة بقيمة نصف صحيحة ونصف مريضة ، وذلك دينار ونصف .

                                      ولو كانت الصحاح في المثال المذكور ثلاثين ، فعليه صحيحة بثلاثة أرباع قيمة صحيحة ، وربع قيمة مريضة وهو دينار وربع عشر دينار والمجموع ربع عشر المال ، ومتى قوم جملة النصاب وكانت الصحيحة المخرجة ربع عشر قيمة الجملة كفاه ، فلو ملك مائة وإحدى وعشرين شاة فلتكن قيمة الشاتين المأخوذتين جزأين من مائة وإحدى وعشرين جزءا من قيمة الجملة . وإن ملك خمسا وعشرين من الإبل ، فلتكن قيمة بنت المخاض المأخوذة جزءا من خمسة وعشرين جزءا من قيمة الجملة ، وقس على هذا سائر النصب ، وواجباتها ، فلو ملك ثلاثين من الإبل نصفها صحاح ونصفها مراض ، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير وكل مريضة ديناران وجب صحيحة بنصف قيمة صحيحة ونصف قيمة مريضة وهو ثلاثة دنانير ذكره البغوي وغيره . قال الرافعي : ولك أن تقول : هلا كان مبنيا على أن الوقص يتعلق به الفرض أم لا ؟ وإن علقناه به ، فالحكم كما ذكروه ، وإلا فليسقط الواجب على الخمس والعشرين . [ ص: 390 ] قلت ) : وهذا الاعتراض ضعيف ; لأن الواجب بنت مخاض موزعة بالقيمة نصفين ، فلا اعتبار بالوقص ، ولو ملك مائتي بعير فيها أربع حقاق صحاح وباقيها مراض لزمه أربع حقاق صحاح قيمتهن خمس عشر قيمة الجميع ، وإن لم يكن فيها صحيح إلا ثلاث حقاق أو ثنتان أو واحدة أخذ صحيح بقدر الصحاح بالقسط ، وأخذ الباقي مراضا وفيه الوجه الضعيف السابق عن البغوي ، والوجه السابق عن أبي محمد .



                                      ( والنقص الثاني ) : العيب وحكمه حكم المرض ، ، سواء تمحضت الماشية معيبة أو انقسمت معيبة وصحيحة ، والمراد بالعيب هنا ما يثبت الرد في البيع ، هذا هو الصحيح المشهور وفيه وجه أنه هذا مع ما يمنع الإجزاء في الأضحية حكاه الرافعي ولو ملك خمسا وعشرين بعيرا معيبة وفيها بنتا مخاض إحداهما من أجود المال مع عيبها والأخرى دونها فهل يأخذ الأغبط من بنات اللبون والحقاق ؟ أم الوسط ؟ فيه وجهان : : حكاهما والرافعي وغيرهم ( الصحيح ) : الوسط لئلا يجحف برب المال . قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : ويأخذ خير المعيب قال جمهور الأصحاب : ليس هذا على ظاهره بل هو مؤول ومراد الشافعي رضي الله عنه أن يأخذ من وسطه لا أعلاه ، ولا أدناه ونقل الرافعي رحمه الله تعالى اتفاق الأصحاب على هذا التأويل وأن ظاهر النص غير مراد ، وكذا قال السرخسي في الأمالي : لا يختلف أصحابنا في أنه لا يؤخذ إلا الوسط ولكن فيما يعتبر فيه الوسط وجهان :

                                      ( المذهب ) : أنه يعتبر فيه العيب ، فلا يؤخذ أقلها عيبا ولا أكثرها عيبا لكن يؤخذ الوسط في العيب ( والثاني ) : يعتبر القيمة فلا يؤخذ أقلها ولا أكثرها قيمة بل أوسطها . وحمل الأصحاب كلام الشافعي على أنه إنما أراد فريضة مائتين من الإبل إذا كانت معيبة ، فيؤخذ الجنس الذي هو خير من الحقاق أو بنات اللبون ولكن من أوسطها عيبا . هذا كلام السرخسي وقال صاحب الحاوي : اختلف أصحابنا في مراد الشافعي فمنهم من أجرى كلامه على ظاهره وأوجب أخذ خير المعيب من جميع ماله ، وهذا غلط [ ص: 391 ] ; لأنه لا يطرد على أصل الشافعي . قال : ومنهم من قال أراد بذلك أخذ خير الفرضين من الحقاق وبنات اللبون ولم يرد خير جميع المال ، قال : وهو الصحيح ، وبه قال أبو علي بن خيران . وقيل أراد بخير المعيب أوسطه ، وعلى هذا في اعتبار الأوسط وجهان : ( أحدهما ) : أوسطها عيبا ( مثاله ) : أن يكون ببعضها عيب واحد وببعضها عيبان وببعضها ثلاثة عيوب ، فيأخذ ما به عيبان ( والثاني ) : أوسطها في القيمة ( مثاله ) : أن يكون قيمة بعضها معيبا خمسين وقيمة بعضها معيبا مائة وقيمة بعضها معيبا مائة وخمسين فيأخذ منها ما قيمته مائة قال : فحصل للأصحاب في المسألة أربعة أوجه ( أصحها ) : ما قاله ابن خيران أنه يأخذ خير الفرضين لا غير وقد نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم فقال : يأخذ خير المعيب من السن التي وجبت عليه ( والثاني ) : وهو أشدها غلظا يأخذ خير المال كله ( والثالث ) : يأخذ أوسطها عيبا ( والرابع ) : أوسطها قيمة ، هذا كلام صاحب الحاوي وفيه إثبات خلاف بخلاف ما نقله الرافعي والله تعالى أعلم .



                                      ( النقص الثالث ) : الذكورة فإذا تمحضت الإبل إناثا أو انقسمت ذكورا وإناثا لم يجز فيها الذكر إلا في خمس وعشرين فإنه يجزئ فيها ابن لبون عند فقد بنت مخاض ، وهذا الذي ذكرناه من تعيين الإناث متفق عليه في الخمس والعشرين ، وإن تمحضت ذكورا فثلاثة أوجه ( أصحها ) : وهو المنصوص جوازه ، وهو قول أبي إسحاق وأبي الطيب بن سلمة كالمريضة من المراض ، وعلى هذا يؤخذ من ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين ( والثاني ) : المنع ، هكذا صححه الجمهور ، ونقله المصنف والأصحاب عن نصه في الأم ، وعن أبي علي بن خيران رحمه الله فعلى هذا تتعين الأنثى ولكن يؤخذ شيء كان يؤخذ لو تمحضت إناثا ، بل تقوم ماشيته لو كانت إناثا ، وتقوم الأنثى المأخوذة منها ، ويعرف نسبتها من الجملة ، وتقوم ماشيته الذكور ويؤخذ أنثى قيمتها ما تقتضيه النسبة ، وكذلك الأنثى المأخوذة من الإناث والذكور تكون دون المأخوذة من محض الإناث ، وفوق المأخوذة من محض الذكور ، بطريق التقسيط السابق في [ ص: 392 ] المراض . وحكى صاحب البيان في كتاب مشكلات المهذب وجها أنه يجوز على هذا الوجه أن تكون قيمتها سواء ، وهو شاذ مردود .

                                      ( والوجه الثالث ) : إن أدى أخذ الذكر إلى التسوية بين نصابين لم يؤخذ ، وإلا أخذ ( مثاله ) : يؤخذ ابن مخاض من خمس وعشرين ، وحق من ست وأربعين وجذع من إحدى وستين ، وكذلك يؤخذ الذكر إذا زادت الإبل ، واختلف الفرض بزيادة العدد ، ولا يؤخذ ابن لبون من ست وثلاثين ; لأنه مأخوذ عن خمس وعشرين .

                                      ( وأما ) : البقر فالتبيع مأخوذ منها في مواضع وجوبه ، وهو في كل ثلاثين ، وحيث وجبت المسنة تعينت إن تمحضت إناثا أو انقسمت كما سبق في الإبل ، وإن تمحضت ذكورا ففيه الوجهان : الأولان في الإبل ( الأصح ) : عند الأصحاب ونقله المصنف والأصحاب عن نصه في الأم ، جواز الذكر ، ولو كانت البقر أربعين أو خمسين ، فأخرج منها تبيعين أجزأه على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وسبق في باب زكاة البقر فيه خلاف ضعيف .

                                      ( وأما ) : الغنم فإن تمحضت ذكورا فطريقان : ( المذهب ) : وبه قطع المصنف والجماهير يجزئ الذكر ; لأن واجبها شاة والشاة تقع على الأنثى والذكر بخلاف الإبل والأربعين من البقر ، فإنه منصوص فيهما على أنثى ( والطريق الثاني ) : فيه الوجهان : الأولان في الإبل حكاه الرافعي وهو شاذ ضعيف والله أعلم .

                                      ( وأما ) : قول المصنف في الكتاب : إن تمحضت ذكورا ، وكانت من الإبل أو في أربعين من البقر ، ففيه وجهان : . قال أبو إسحاق : لا يجوز إلا الأنثى : وقال أبو علي بن خيران : يجوز فيه الذكر وهو المنصوص في الأم . قال أبو إسحاق : إلا أنه يؤخذ من ست وثلاثين ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين ، فهذا الذي فرعه أبو إسحاق في ابن لبون متفق عليه ، وليس أبو إسحاق منفردا به بل اتفق الأصحاب عليه تفريعا على المنصوص وقد تستشكل حكاية المصنف عن أبي إسحاق هذا التفريع ; لأن [ ص: 393 ] أبا إسحاق يقول : لا يخرج الذكر فكيف يفرع عليه ؟ وإنما هو قول ابن خيران . وجواب : هذا الإشكال أن قول ابن خيران هو المنصوص كما ذكره المصنف والأصحاب ، فذكر أبو إسحاق تفريعا عليه ما ذكره من تقويم ابن لبون ، واختار وجها آخر مخالفا للنص خرجه ، وهو أنه تتعين الأنثى ، ولا معارضة بين كلاميه ، ومثل هذا موجود لأبي إسحاق في مواضع ، وقد سبق في باب ما يفسد الماء من النجاسات لهذا نظير ، ونبهت عليه في هذا الشرح ، هذا هو الجواب المعتمد ، وذكر صاحب البيان في كتابه مشكلات المهذب هذا السؤال ، ثم قال : الجواب عنه أن سائر أصحابنا ذكروا هذا التفريع لابن خيران ولعل ذلك وقع في المهذب من زلل الناسخ ، وهذا جواب فاسد ، والصواب ما سبق ولا منافاة بين نقل المصنف وغيره فقد اتفق أبو إسحاق وابن خيران على التفريع ; وإن اختلفا في التخريج والله أعلم .



                                      ( النقص الرابع ) : الصغر ، وللماشية فيه ثلاثة أحوال : ( أحدها ) : أن تكون كلها أو بعضها أو قدر الفرض منها في سن الفرض فيجب سن الفرض المنصوص عليه ، ولا يكلف فوقه ، ولا يقنع بدونه ، وإن كان أكثرها كبارا أو صغارا ، وهذا لا خلاف فيه .

                                      ( والثاني ) : أن تكون كلها فوق سن الفرض ، فلا يكلف الإخراج منها ، بل يحصل السن الواجبة ويخرجها وله الصعود والنزول مع الجبران في الإبل كما سبق ( الثالث ) : أن يكون الجميع دون سن الفرض ، وقد يستبعد تصور هذا ; لأن أحد شروط الزكاة الحول ، وإذا حال الحول فقد بلغت الماشية حد الإجزاء ، وذكر الأصحاب له صورا ( منها ) : أن تحدث [ في ] الماشية في أثناء الحول فصلان أو عجول أو سخال ، ثم تموت الأمهات ويتم حولها والنتاج صغار بعد ، وهذا تفريع على المذهب أن حول النتاج ينبني على حول الأمهات .

                                      وأما على قول الأنماطي أنه ينقطع الحول بموت الأمهات ، بل بنقصانها عن النصاب ، فلا تجيء هذه الصورة بهذا الطريق ( ومنها ) : أن يملك [ ص: 394 ] نصابا من صغار المعز ، ويمضي عليه حول فتجب الزكاة ، ولم تبلغ سن الإجزاء ; لأن واجبها ثنية وقد سبق أن الأصح أنها التي استكملت سنتين .

                                      ( إذا ثبت هذا ) : فإن كانت الماشية غنما ففيما يؤخذ من المتمحضة الصغار طريقان : أصحهما : وبه قطع المصنف والعراقيون وطائفة من غيرهم تؤخذ الصغيرة ، لقول أبي بكر رضي الله عنه " والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " رواه البخاري ، فقال هذا للصحابة كلهم ولم ينكر عليه أحد بل وافقوه ، فحصلت منه دلالتان : ( إحداهما ) : روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العناق .

                                      ( والثانية ) : إجماع الصحابة ; ولأنا لو أوجبنا كبيرة أجحفنا به ( والطريق الثاني ) : حكاه الخراسانيون فيه وجهان : وحكاهما الفوراني والسرخسي والبغوي وغيرهم قولين : ( القديم ) : لا يؤخذ إلا كبيرة ، لكن دون الكبيرة المأخوذة من الكبار في القيمة قالوا : وكذا إذا انقسم المال إلى صغار وكبار فتؤخذ كبيرة بالقسط كما سبق في نظائره . قال المسعودي في كتابه الإيضاح والرافعي : فإن تعذرت كبيرة بالقسط أخذت القيمة للضرورة ( والقول الثاني ) : وهو الصحيح الجديد لا تتعين الكبيرة ، بل تجزئه الصغيرة كالمريضة من المراض ، وإن كانت الماشية إبلا أو بقرا ، فثلاثة أوجه مشهورة في كتب العراقيين والخراسانيين ذكر المصنف منها اثنين ، وحذف ثالثها وهو الأصح ، وممن ذكرها من العراقيين الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي في التجريد وخلائق منهم .

                                      وأما الخراسانيون فالأوجه في كتبهم أشهر منها في كتب العراقيين ( أصحها ) : عند الأكثرين : يجوز أخذ الصغار مطلقا كالغنم لئلا يجحف برب المال ، ولكن يجتهد الساعي ، ويحترز عن التسوية بين القليل والكثير ، فيأخذ من ست وثلاثين فصيلا فوق الفصيل المأخوذ في خمس وعشرين ، وفي ست وأربعين فصيلا فوق المأخوذ في ست وثلاثين ، وعلى هذا القياس . وهذا الوجه هو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في مختصر المزني ، وممن صححه البغوي والرافعي وآخرون . والوجه الثاني : لا تجزئ الصغيرة لئلا يؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير لكن تؤخذ كبيرة بالقسط كما سبق في نظائره [ ص: 395 ] وهذا هو الأصح عند المصنف وشيخه القاضي أبي الطيب في المجرد والشاشي وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي ( الثالث ) : لا يؤخذ فصيل من إحدى وستين فما دونها ، ويؤخذ مما فوقها وكذا من البقر ، قال الماوردي وغيره : هذا الوجه غلط لشيئين : ( أحدهما ) : أن التسوية التي تلزم في إحدى وستين فما دونها تلزم في إحدى وتسعين ، فإن الواجب في ست وسبعين بنتا لبون ، وفي إحدى وتسعين حقتان فإذا أخذنا فصيلين في هذا وفي ذلك سوينا ، فإن أوجب الاحتراز عن التسوية فليحترز عن هذه الصورة .

                                      ( والثاني ) : أن هذه التسوية تلزم في البقر في ثلاثين وأربعين ، وقد عبر إمام الحرمين والغزالي وجماعة من الأصحاب عن هذا الوجه بعبارة تدفع هذين الشيئين فقالوا : تؤخذ الصغيرة حيث لا يؤدي إلى التسوية ، ومنهم من خص المنع على هذا الوجه بست وثلاثين فما فوقها ، وجوز فصيلا عن خمس وعشرين إذ لا تسوية في تجويزه وحده .



                                      ( النقص الخامس ) : رداءة النوع . قال المصنف والأصحاب : إن اتحدت نوع الماشية وصفتها أخذ الساعي من أيها شاء إذ لا تفاوت ، وإن اختلفت صفتها مع أنها نوع واحد ولا عيب فيها ولا صغر ولا غيرهما من أسباب النقص السابقة ، فوجهان : حكاهما صاحب البيان ( أحدهما ) : قال وهو قول عامة أصحابنا : يختار الساعي خيرهما كما سبق في الحقاق وبنات اللبون ( والثاني ) : وهو قول أبي إسحاق يأخذ من وسط ذلك لئلا يجحف برب المال ، وإن كانت الإبل كلها أرحبية بفتح الحاء المهملة وكسر الباء الموحدة أو مهرية أو كانت كلها ضأنا أو معزا أخذ الفرض منها ، وذكر البغوي والرافعي ثلاثة أوجه في أنه هل يجوز أخذ ثنية من المعز باعتبار القيمة عن أربعين ضأنا أو جذعة من الضأن عن أربعين معزا ( أصحها ) : الجواز لاتفاق الجنس كالمهرية مع الأرحبية ( والثاني ) : المنع وكالبقر عن الغنم .

                                      ( الثالث ) : لا يجوز المعز عن الضأن ويجوز العكس كما يؤخذ من الإبل المهرية عن المجيدية ولا عكس فإن المهرية خير من المجيدية . وكلام إمام الحرمين [ ص: 396 ] قريب من هذا الثالث ، فإن قال : لو ملك أربعين من الضأن الوسط فأخرج ثنية من المعز الشريفة تساوي جذعة من الضأن التي يملكها ، فهذا محتمل والظاهر إجزاؤها ، وليس كما لو أخرج معيبة قيمتها قيمة سليمة فإنها لا تقبل ، والفرق أنه لو كان في ماله سليمة وغالبه معيب ، لم يجزئه معيبة ولو كان ضأنا ومعزا أخذنا ماعزة كما تقرر .

                                      وأما إذا كانت الماشية نوعين أو أنواعا بأن انقسمت الإبل إلى بخاتي وعراب وإلى أرحبية ومهرية ومجيدية أو انقسمت البقر إلى جواميس وعراب أو جواميس وعراب ودربانية ، أو انقسمت الغنم إلى ضأن ومعز ، فيضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب بلا خلاف لاتحاد الجنس . وفي كيفية أخذ الزكاة منها قولان مشهوران : ( أحدهما ) : يؤخذ من الأغلب ، فإن استويا كاجتماع الحقاق وبنات اللبون في مائتين فيؤخذ الأغبط للمساكين على المذهب . صرح به الأصحاب . ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب عليه ، ولكن المراد النظر إلى الأنواع باعتبار القيمة ، فإذا اعتبرت القيمة والتقسيط فمن أي نوع كان المأخوذ جاز ، هكذا قطع به المصنف وجماهير الأصحاب ، ونقله الرافعي عن الجمهور ، قال وقال صاحب الشامل : ينبغي أن يكون المأخوذ من أعلى الأنواع ، كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض . قال الرافعي : يجاب عما قال بأنه ورد النهي عن المريضة والمعيبة فلم نأخذها متى وجدنا صحيحة بخلاف ما نحن فيه . وحكى صاحب الشامل وآخرون في المسألة قولا ثالثا نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الأم أنه إذا اختلف الأنواع أخذ من الوسط كما في الثمار . قالوا : وهذا القول لا يجيء فيما إذا كانا نوعين فقط . ولا في ثلاثة متساوية . وحكى القاضي أبو القاسم بن كج وجها أنه يؤخذ من الأجود مطلقا تخريجا من نص الشافعي في اجتماع الحقاق وبنات اللبون في مائتين . وحكى ابن كج عن أبي إسحاق المروزي أن موضع القولين إذا لم يحتمل أخذ واجب كل نوع لو كان وحده منه ، فإن احتمل أخذ كذلك قولا واحدا بأن ملك مائة أرحبية ومائة مهرية فيؤخذ حقتان من هذه ، وحقتان من هذه . وهذا الذي حكي عن أبي إسحاق شاذ ، والمشهور في المذهب طرد القولين مطلقا . [ ص: 397 ] ونوضح القولين الأولين بمثلين ( أحدهما ) : له خمس وعشرون من الإبل عشر مهرية وعشر أرحبية وخمس مجيدية ، فعلى القول الأول تؤخذ بنت مخاض مهرية أو أرحبية بقيمة نصف أرحبية ونصف مهرية ; لأن هذين النوعين أغلب . وعلى الثاني يؤخذ بنت مخاض من أي الأنواع أعطى بقيمة خمسي مهرية وخمسي أرحبية وخمس مجيدية . وإذا كانت قيمة بنت مخاض مهرية عشرة وأرحبية خمسة ومجيدية دينارين ونصفا ، أخذ بنت مخاض من أي الأنواع كان قيمتها ستة ونصفا ولا يجيء هنا قول الوسط ويجيء وجه ابن كج .

                                      ( المثال الثاني ) : له ثلاثون من المعز وعشر من الضأن ، فعلى القول الأول يأخذ ثنية من المعز ، كما لو كانت كلها معزا ، ولو كانت الثلاثون ضأنا أخذنا جذعة ضأن وعلى الثاني يؤخذ ضائنة أو عنز بقيمة ثلاثة أرباع عنز وربع ضائنة في الصورة الأولى . وبقيمة ثلاثة أرباع ضائنة وربع عنز في الصورة الثانية ، لا يجيء قول اعتبار الوسط . وعلى وجه اعتبار الأشرف يجب أشرفها . والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) : في ألفاظ الكتاب أما حديث " { لا يؤخذ في الصدقة هرمة } فصحيح رواه البخاري سبق بيانه . قوله : ببعض قيمة فرض فرض صحيح وبعض قيمة فرض مريض ، هو بتنوين فرض قوله : كالثنايا والبزل ، هو بضم الباء وإسكان الزاي ، جمع بازل ، سبق بيانه في أول باب زكاة الإبل قوله : لقول أبي بكر رضي الله عنه " لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " رواه البخاري هكذا ; وأصل الحديث في الصحيحين ، لكن في رواية مسلم عقالا ، والعناق بفتح العين الأنثى من أولاد المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة ، وجمعها أعنق وعنوق . قوله : كالضأن والمعز ، أما الضأن فمهموز ويجوز تخفيفه بالإسكان كنظائره ، وهو جمع ، واحدة ضائن بهمزة قبل النون ، كراكب وركب ، ويقال في الجمع أيضا : ضأن بفتح الهمزة كحارس وحرس ، ويجمع أيضا على ضئين ، وهو فعيل بفتح أوله كغازي وغزي ، والأنثى ضائنة بهمزة بعد الألف ، ثم نون وجمعها ضوائن والمعز بفتح العين وإسكانها ، وهو اسم جنس ، الواحد منه ماعز ، والأنثى [ ص: 398 ] ماعزة والمعزى والمعيز بفتح الميم والأمعوز بضم الهمزة بمعنى المعز ، وتقدم ذكر الإبل والبقر في أول بابيهما . والجاموس معروف ، قال الجواليقي : هو عجمي معرب . والبخاتي بتشديد الياء وتخفيفها ، وكذا ما أشبهه من الجموع التي واحدها مشدد يجوز في الجمع التشديد والتخفيف . كالذراري والسراري والعواري والأثافي وأشباهها وأما قول المصنف " والجواميس والبقر " فكذا قاله في المهذب في باب الربا وكذا في التنبيه ، وهو مما ينكر عليه ; لأن حاصله أنه جعل البقر نوعا للبقر والجواميس ، وهذا غير مستقيم ولا منتظم . والصواب ما قدمناه أن البقر جنس ونوعاه الجواميس والعراب وهي الملس المعروفة ، الجرد الحسان الألوان كذا قاله أصحابنا في هذا الموضع . وكذا قاله الأزهري وغيره من أهل اللغة . والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية