الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى باب زكاة الزروع : ( وتجب الزكاة في كل ما تخرجه الأرض مما يقتات ويدخر وينبته الآدميون كالحنطة والشعير والدخن والذرة والجاورس والأرز وما أشبه ذلك ; لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : فيما سقت السماء والبعل والسيل والبئر والعين العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر يكون ذلك في الثمر والحنطة والحبوب ، فأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب والخضر فعفو ، عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم } ولأن الأقوات تعظم منفعتها ، فهي كالأنعام في الماشية . وكذلك تجب الزكاة في القطنية - وهي العدس والحمص والماش واللوبيا والباقلاء والهرطمان ; لأنه يصلح للاقتيات - ويدخر للأكل فهو كالحنطة والشعير ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث معاذ رواه هكذا البيهقي في السنن الكبير إلا أنه مرسل وآخره { : عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم } " ورواه الترمذي مختصرا { أن معاذا كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال : ليس فيها شيء } قال الترمذي : ليس إسناده بصحيح ، قال : وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء . قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم أنه ليس في الخضراوات صدقة - يعني عند أكثر أهل العلم - وإلا فأبو حنيفة رضي الله عنه يوجب فيها كما سبق بيانه في باب زكاة الثمار . وقال البيهقي بعد أن روى هذا الحديث وأحاديث مراسيل : هذه الأحاديث كلها مراسيل إلا أنها من طرق مختلفة ، فيؤكد بعضها بعضا ، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم ، ثم روي عن عمر وعلي وعائشة رضي الله عنهم . وقوله ( والجاورس ) هو [ ص: 469 ] بالجيم وفتح الواو . قيل : هو حب صغار من حب الذرة ، وأصله كالقضب إلا أن الذرة أكبر حبا منه . وفي الأرز ست لغات ( إحداها ) : فتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي ، ( والثانية ) : كذلك إلا أن الهمزة مضمومة ، ( والثالثة ) : بضم الهمزة والراء وتخفيف الزاي ككتب ، ( والرابعة ) : مثلها لكن ساكنة الراء ، ( والخامسة ) : رنز ، بنون ساكنة بين الراء والزاي ، ( والسادسة ) : بضم الراء وتشديد الزاي . وأما القثاء : فبكسر القاف وضمها لغتان مشهورتان الكسر أشهر ، وبه جاء القرآن ، والبطيخ : بكسر الباء ، ويقال طبيخ بكسر الطاء وتقديمها لغتان ، والقضب بإسكان الضاد المعجمة هو الرطبة ، وقوله { : عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم } " أي لم يوجب فيها شيئا ، لا أنه أسقط واجبا فيها ، والقطنية بكسر القاف وتشديد الياء سميت بذلك ; لأنها تقطن في البيوت ، أي تخزن .

                                      واعلم أن الدخن والأرز معدودان في القطنية ولم يجعلها المصنف منها ، بل زاد الماوردي فقال في الحاوي : القطنية هي الحبوب المقتاتة سوى البر والشعير ; وأما الحمص فبكسر الحاء لا غير ، وأما ميمه ، ففتحها أبو العباس ثعلب وغيره من الكوفيين ، وكسرها أبو العباس المبرد وغيره من البصريين ، واللوبيا قال ابن الأعرابي : هو مذكر يمد ويقصر ويقال : هو اللوبيا واللوبياء واللوبياح ، وهو معرب ليس عربيا بالأصالة ، والباقلاء يمد مخففا ويكتب بالألف ويقصر مشددا ويكتب بالياء لغتان ، ويقال : الفول ، والهرطمان : بضم الهاء والطاء وهو الجلبان بضم الجيم ، ويقال له : الخلر بضم الخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة وبعدها راء .

                                      ( أما أحكام الفصل ) فاتفق الأصحاب على أنه يشترط لوجوب الزكاة في الزرع شرطان : ( أحدهما ) : أن يكون قوتا ، ( والثاني ) : من جنس ما ينبته الآدميون ، قالوا : فإن فقد الأول كالأسبيوش وهو بزر القطونا أو الثاني كالعث أو كلاهما كالثفاء فلا زكاة . قال الرافعي : وإنما يحتاج إلى ذكر القيدين من أطلق القيد الأول ، فأما من قيد فقال : أن يكون قوتا في حال الاختيار ، فلا يحتاج إلى الثاني ، إذ ليس فيما يستنبت مما يقتات اختيار ، فهذان الشرطان متفق عليهما ، ولم يشترط الخراسانيون غيرهما ، وشرط [ ص: 470 ] العراقيون شرطين آخرين وهما أن يدخر وييبس ، وقد ذكر المصنف أولهما هنا ، ولم يذكر الثاني ، ولم يذكر في التنبيه واحدا منهما ، بل اقتصر على الشرطين الأولين المتفق عليهما . قال الرافعي : ولا حاجة إلى الأخيرين ; لأنهما ملازمان لكل مقتات مستنبت قال أصحابنا : وقولنا ( مما ينبته الآدميون ) ليس المراد به أن تقصد زراعته ، وإنما المراد أن يكون من جنس ما يزرعونه ، حتى لو سقط الحب من مالكه عند حمل الغلة ، أو وقعت للعصافير على السنابل ، فتناثر الحب ونبت وجبت الزكاة إذا بلغ نصابا بلا خلاف ، اتفق عليه الأصحاب . وقد ذكره المصنف في باب صدقة المواشي في مسائل الماشية المغصوبة والله تعالى أعلم .

                                      وأما قولهم يقتات في حال الاختيار ، فهو شرط بالاتفاق كما سبق ، فما يقتات في حال الضرورة لا زكاة فيه ، مثل الأصحاب ما يقتات في حال الضرورة ولا تجب الزكاة فيه بالعث وبه مثله الشافعي رضي الله عنه . قال المزني وغيره : هو حب الغاسول وهو الأشنان وقال الآخرون : هو حب أسود يابس يدفن حتى يلين قشره ، ثم يزال قشره ويطحن ويخبز ويقتاته أعراب طيئ ومثلوه أيضا بحب الحنظل وسائر بزور البراري . قال أصحابنا : ويخرج عن المقتات الخضراوات والثفاء والترمس والسمسم والكمون والكراويا والكزبرة . قال البندنيجي : ويقال لها الكسبرة أيضا وبزر القطن وبزر الكتان وبزر الفجل وغير ذلك مما يشبهه ، فلا زكاة في شيء من ذلك عندنا بلا خلاف . هكذا قاله الأصحاب إلا ما حكاه الرافعي عن ابن كج أن حب الفجل فيه قولان الجديد : لا زكاة والقديم : الضعيف وجوبها . قال الرافعي : ولم أر هذا النقل لغيره . وحكى العراقيون عن القديم وجوب الزكاة في الترمس ، والجديد الصحيح : لا تجب . وما ذكرته من أن الترمس والثفاء لا يقتات أصلا هو قول جمهور أصحابنا فيما حكاه الرافعي بخلاف ما ذكره الغزالي في الوسيط . وأشار إليه إمام الحرمين من أنه يقتات في حال الضرورة ، وهو خلاف في التسمية وإلا فكلهم متفقون على أنه لا زكاة فيها ; والثفاء بضم الثاء المثلثة وتشديد الفاء وبالمد ، وهو حب [ ص: 471 ] الرشاد ، وكذا فسره الأزهري والأصحاب ، والترمس بضم التاء والميم ، وهو معروف في بلادنا والله أعلم . ( فرع ) : قال القاضي أبو الطيب في المجرد : قال الشافعي في البويطي : لا زكاة في الحلبة ; لأنها ليست بقوت في حال الاختيار . قال : ولا زكاة في السماق . قال أصحابنا : ولا تجب في الحبوب التي تنبت في البرية . ولا ينبته الآدميون وإن كان قد يقتات ; لأنها ليس مما ينبته الآدمي . وهو شرط للوجوب والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية