الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( باب زكاة الذهب والفضة : تجب الزكاة في الذهب والفضة ، لقوله عز وجل { : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ; ولأن الذهب والفضة معد للنماء فهو كالإبل والبقر السائمة ولا تجب فيما سواهما من الجواهر كالياقوت والفيروزج واللؤلؤ والمرجان ; لأن ذلك معد للاستعمال ، فهو كالإبل والبقر العوامل ولا تجب فيما دون النصاب من الذهب والفضة . ونصاب الذهب عشرون مثقالا ; لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { ولا يجب في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء } ونصاب الفضة مائتا درهم والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا بلغ مال أحدكم خمس أواق : مائتي درهم ففيه خمسة دراهم } والاعتبار بالمثقال الذي كان بمكة ، ودراهم الإسلام التي [ كل عشرة بوزن سبعة مثاقيل ] ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 488 ] قال : " { الميزان ميزان أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة } ولا يضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب ; لأنهما جنسان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالإبل والبقر وزكاتهما ربع العشر نصف مثقال عن عشرين مثقالا من الذهب ، وخمسة دراهم عن مائتي درهم . والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات " { في الرقة ربع العشر } وروى عاصم بن جمرة عن علي رضي الله عنه أنه قال : " ليس في أقل من عشرين دينارا شيء ، وفي عشرين نصف دينار " ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه ; لأنه يتجزأ من غير ضرر ، فوجب فيما زاد بحسابه . ويجب في الجيد الجيد وفي الرديء الرديء ، فإن كانت أنواعا قليلة وجب في كل نوع بقسطه وإن كثرت الأنواع أخرج من الوسط كما قلنا في الثمار وإن كان له ذهب مغشوش أو فضة مغشوشة - فإن كان الذهب والفضة فيه قدر الزكاة وجبت الزكاة ، وإن لم تبلغ لم تجب ، وإن لم يعرف قدر ما فيه من الذهب والفضة ، فهو بالخيار ، إن شاء شبك ليعرف الواجب فيخرجه ، وإن شاء أخرج واستظهر ليسقط الفرض بيقين ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : أما حديث ( { في الرقة ربع العشر } ) فصحيح رواه البخاري من رواية أنس وسبق بيانه بطوله في أول باب صدقة الإبل . والرقة بتخفيف القاف وكسر الراء هي الورق وهو كل الفضة . وقيل الدراهم خاصة . وأما قول صاحب البيان قال أصحابنا : الرقة هي الذهب والفضة ، فغلط فاحش . ولم يقل أصحابنا ولا أهل اللغة ولا غيرهم : إن الرقة تطلق على الذهب ، بل هي الورق . وفيه الخلاف الذي ذكرته ، وأصلها ورقة بكسر الواو كالزنة من الوزن . وأما حديث " { الميزان ميزان أهل مكة } إلى آخره ، فرواه أبو داود والنسائي بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم من رواية ابن عمر رضي الله عنهما . قال أبو داود : وروي من رواية ابن عباس رضي الله عنهما . ذكره أبو داود في كتاب البيوع ، والنسائي في الزكاة . وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه فرواه أبو داود وغيره بإسناد حسن أو صحيح عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وينكر على المصنف كونه وقفه على علي وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                      وأما حديث عمرو بن شعيب وابن عمر فغريبان ويغني عنهما الإجماع فالمسلمون مجمعون على معناهما . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة } [ ص: 489 ] وفي مسلم مثله من رواية جابر ، والأوقية الحجازية الشرعية أربعون بالنصوص المشهورة وإجماع المسلمين . وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار } .

                                      ( أما ألفاظ الفصل ) فاللؤلؤ فيه أربع لغات قرئ بهن في السبع لؤلؤ بهمزتين ولولو بغير همز ، وبهمز أوله دون ثانيه وعكسه . قال جمهور أهل اللغة : اللؤلؤ الكبار والمرجان الصغار ، وقيل عكسه . قوله " ودراهم الإسلام التي كل وزن عشرة سبعة مثاقيل " هكذا وقع في بعض النسخ وهو الصواب . وكذا ذكره المصنف في كتاب الإقرار ، وسائر الأصحاب ، وسائر العلماء من جميع الطوائف ولا خلاف فيه . ووقع في أكثر نسخ المهذب هنا كل أوقية سبعة مثاقيل ، وهكذا نقله صاحب البيان فيه وفي مشكلات المهذب عن المهذب . وهو غلط صريح والصواب الأول ، ولعله صحف في نسخة وشاعت والله تعالى أعلم . وقوله " : لأنه يتجزأ من غير ضرر " احتراز من الماشية . وقوله " في الرديء الرديء " هو مهموز .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) تجب الزكاة في الذهب والفضة بالإجماع ، ودليل المسألة النصوص والإجماع وسواء فيهما المسكوك والتبر والحجارة منهما والسبائك وغيرها من جنسها ، إلا الحلي المباح على أصح القولين ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى .



                                      ( الثانية ) : لا زكاة فيما سوى الذهب والفضة من الجواهر كالياقوت والفيروزج واللؤلؤ والمرجان والزمرد والزبرجد والحديد والصفر وسائر النحاس والزجاج ، وإن حسنت صنعها وكثرت قيمتها ، ولا زكاة أيضا في المسك والعنبر قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر : ولا في حلية بحر . قال أصحابنا : معناه كل ما يستخرج منه فلا زكاة فيه ، ولا خلاف في شيء من [ ص: 490 ] هذا عندنا ، وبه قال جماهير العلماء من السلف وغيرهم . وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والزهري وأبي يوسف وإسحاق بن راهويه أنهم قالوا : يجب الخمس في العنبر ، قال الزهري : وكذلك اللؤلؤ ، وحكى أصحابنا عن عبد الله بن الحسن العنبري أنه قال : يجب الخمس في كل ما يخرج من البحر سوى السمك .

                                      وحكى العنبري وغيره عن أحمد روايتين ( إحداهما ) : كمذهب الجماهير ، ( والثانية ) : أنه أوجب الزكاة في كل ما ذكرنا إذ بلغت قيمته نصابا حتى في المسك والسمك . ودليلنا الأصل أن لا زكاة إلا فيما ثبت الشرع فيه ، وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر ، وهو بدال وسين مهملتين مفتوحتين أي قذفه ودفعه ، فهذا الذي ذكرناه هو المعتمد في دليل المسألة ، وأما الحديث المروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم " { لا زكاة في حجر } " فضعيف جدا ، رواه البيهقي وبين ضعفه .



                                      ( الثالثة ) لا زكاة في الذهب حتى يبلغ نصابا ، ونصاب الذهب عشرون مثقالا ، ونصاب الفضة مائتا درهم ، وهي خمس أواق بوقية الحجاز والاعتبار بوزن مكة ، فأما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام وقدره معروف ، والدراهم المراد بها دراهم الإسلام وهي التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل ، وسأفرد بعد هذا الفصل إن شاء الله تعالى فصلا نفيسا أذكر فيه أقاويل العلماء في حال الدينار والدرهم وقدرهما وما يتعلق بتحقيقيهما . قال أصحابنا : فلو نقص عن النصاب حبة أو بعض حبة ، فلا زكاة بلا خلاف عندنا ، وإن راج رواج الوازنة وزاد عليه لجودة نوعه ، هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء . وقال مالك : إن نقصت المائتان من الفضة حبة وحبتين ونحوهما مما يتسامح به ويروج رواج الوازنة وجبت الزكاة ، وعن أحمد نحوه ، وعنه إن نقصت دانقا أو دانقين وجبت الزكاة ، وعن مالك رواية أنها [ ص: 491 ] إذا نقصت ثلاثة دراهم وجبت الزكاة ، واحتج لهما بأنها كالمائتين في المعاملة واحتج أصحابنا والجمهور بالحديث السابق في الباب " { ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة } والأوقية أربعون درهما ، وهذا دون ذلك حقيقة ، وإنما يسامح به صاحبه إذا نقص تبرعا ، فلو طالب بنقصان الحبة كان له ذلك ، ووجب دفعها إليه والله أعلم .

                                      ( فرع ) : لو نقص نصاب الذهب أو الفضة حبة ونحوها في بعض الموازين ، وكان تاما في بعضها فوجهان حكاهما إمام الحرمين والرافعي ، ( أصحهما ) : وبه قطع المحاملي والماوردي والبندنيجي وآخرون : لا تجب للشك في بلوغ النصاب ، والأصل عدم الوجوب وعدم النصاب ، ( والثاني ) : تجب ، وهو قول الصيدلاني ، حكاه عنه إمام الحرمين ، وغلطه فيه وشنع عليه ، وبالغ في الشناعة وقال : الصواب لا تجب للشك في النصاب .



                                      ( الرابعة ) : لا يضم الذهب إلى الفضة ، ولا هي إليه في إتمام النصاب بلا خلاف كما لا يضم التمر إلى الزبيب ، ويكمل النوع من أحدهما بالنوع الآخر ، والجيد بالرديء والمراد بالجودة النعومة ، والصبر على الضرب ونحوهما وبالرداءة الخشونة ، والتفتت عند الضرب ونحوهما ، والله تعالى أعلم .



                                      ( الخامسة ) : واجب الذهب والفضة ربع العشر ، سواء كان نصابا فقط ، أم زاد زيادة قليلة أم كثيرة ، ودليله في الكتاب .



                                      ( السادسة ) : يشترط لوجوب زكاتهما أن يملكهما حولا كاملا بلا خلاف ، فلو ملك عشرين مثقالا معظم السنة ، ثم نقصت ولو نقصانا يسيرا ، ثم تمت بعد ساعة انقطع الحول الأول ، ولا زكاة حتى يمضي عليها حول كامل ، من حين تمت نصابا ، وهذا لا خلاف فيه ، نص عليه الشافعي رضي الله عنه واتفق عليه الأصحاب ، وقد أخل المصنف بذكر اشتراط الحول هنا ، وإن كان قد ذكره في التنبيه .



                                      ( السابعة ) : إذا كان الذهب أو الفضة الذي وجبت فيه الزكاة كله جيدا أخرج جيدا منه ، أو من غيره ، فإن أخرج دونه معيبا أو رديئا أو مغشوشا لم يجزئه ، هكذا قطع به الأصحاب في كل الطرق ، وحكى الرافعي عن الصيدلاني أنه يجوز قال : وهو غلط ، وحكاه عنه إمام الحرمين فيما إذا كان البعض جيدا [ ص: 492 ] والبعض رديئا فأخرج عن الجميع رديئا ، قال الصيدلاني : يجزيه مع الكراهة ، قال الإمام : وهذا عندي خطأ محض صريح إذا اختلفت القيمة ، فالصواب ما سبق أنه لا يجزيه بلا خلاف ، وهل له استرجاع المعيب والرديء والمغشوش ؟ فيه وجهان أو قولان مشهوران ، محكيان في الحاوي والشامل والمستظهري والبيان وغيرهم عن ابن سريج ، ( أحدهما ) : ليس له الرجوع ; ويكون متطوعا ; لأنه أخرج المعيب في حق الله تعالى ، فلم يكن له استرجاعه ، كما لو لزمه عتق رقبة سليمة فأعتق معيبة ، فإنها تعتق ولا تجزيه ; ولا رجوع له بلا خلاف ، ( والثاني ) له الرجوع وهو الصحيح باتفاق الأصحاب ; لأنه لم يجزئه عن الزكاة ، فجاز له الرجوع كما لو عجل الزكاة فتلف ماله قبل الحول ، قال صاحب الشامل : وهذا ينبغي أن يكون إذا بين عند الدفع كونها زكاة هذا المال بعينه ، فإن أطلق لم يتوجه الرجوع ، وجزم صاحب المستظهري بهذا الوجه الذي ذكره صاحب الشامل ، فإن قلنا بالصحيح : إن له استرجاعها فإن كانت باقية أخذها ، فإن استهلكها المساكين أخرج التفاوت . قال ابن سريج : وكيفية معرفة ذلك أن يقوم المخرج بجنس آخر ، فيعرف التفاوت ، مثاله معه مائتا درهم جيدة ، فأخرج عنها خمسة معيبة ، فقومنا الخمسة الجيدة بذهب ، فساوت نصف دينار ، وساوت المعيبة خمسي دينار ، فعلمنا أنه بقي عليه درهم جيد . هذا كله إذا كان كل ماله جيدا ، فإن كان كله رديئا كفاه الإخراج من نفسه أو من رديء مثله ، وهذا لا خلاف فيه ، وإن تبرع ، فأخرج أجود منه أجزأه وكان خيرا وأفضل ، وإن كانت الفضة أو الذهب أنواعا بعضها جيد وبعضها رديء أو بعضها أجود من بعض .

                                      فإن قلت الأنواع وجب من كل نوع بقسطه وإن كثرت وشق اعتبار الجميع أخرج من أوسطها لا من الأجود ولا من الأردأ ، كما سبق في الثمار . ويجوز إخراج الصحيح عن المكسور ، وقد زاد خيرا ، ولا يجوز عكسه . بل إذا لزمه دينار جمع المستحقين وسلمه إليهم كلهم بأن يسلمه إلى واحد بإذن الباقين ، وإن وجب نصف دينار وسلم إليهم دينارا كاملا نصفه عن الزكاة ونصفه يبقى له معهم أمانة ، فإذا تسلموه برئت ذمته من الزكاة ، ثم يتفاصل هو وهم في الدينار بأن يبيعوه لأجنبي ، ويتقاسموا ثمنه أو يشتروا منه نصيبه أو يشتري نصيبهم لكن يكره له شرى صدقته [ ص: 493 ] ممن تصدق عليه ، سواء الزكاة وصدقة التطوع . كما سنوضحه في آخر قسم الصدقات إن شاء الله تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من أنه لا يجزئ المكسر عن الصحيح هو المذهب وبه قطع جمهور الأصحاب . قال الرافعي : وحكي ( وجه ثان ) أنه يجوز أن يصرف إلى كل مسكين حصته مكسرا ( ووجه ثالث ) : أنه يجوز ذلك لكن مع التفاوت بين الصحيح والمكسر ، ( ووجه رابع ) : أنه يجوز إذا لم يكن بين الصحيح والمكسر فرق في المعاملة والصواب الأول .



                                      ( الثامنة ) : إذا كان له ذهب أو فضة مغشوشة ، فلا زكاة فيها حتى يبلغ خالصها نصابا ، هكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه والمصنف وجميع الأصحاب في كل الطرق إلا السرخسي ، فقال في الأمالي : لا تجب الزكاة في مائتين من الفضة المغشوشة ، ومتى تجب ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) : إذا بلغت قدرا تكون الفضة الخالصة فيها مائتين ، ولا تجب فيما دون ذلك ، ( والثاني ) : إذا بلغت قدرا لو ضمت إليه قيمة الغش من النحاس أو غيره لبلغ نصابا تجب ، وهذا الوجه الذي انفرد به السرخسي غلط مردود بقوله صلى الله عليه وسلم " { وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة } " والله أعلم .



                                      ولو كان معه ألف درهم مغشوشة . فأخرج عنها خمسة وعشرين خالصة قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : أجزأه وقد زاد خيرا ، وهو متطوع بالزيادة ، ولو أخرج على مائتين خالصة خمسة مغشوشة فقد سبق في المسألة السابعة أنه لا يجزيه وأن له استردادها على الصحيح ، ولو أخرج عن الألف المغشوشة مغشوشة يعلم أن فيها من الفضة ربع العشر أجزأه ، بأن كان الغش فيها سواء ، فأخرج منها خمسة وعشرين ، فإن جهل قدر الفضة فيها مع علمه ببلوغها نصابا ، فهو بالخيار بين أن يسبكها ويخرج ربع عشر خالصها ، وبين أن يحتاط ويخرج ما يتيقن أنه فيه ربع عشر خالصها ، فإن سبكها ففي مؤنة السبك وجهان حكاهما صاحب الحاوي والمستظهري ( الصحيح ) منهما أنها على المالك ; لأنها للتمكن من الأداء ، فكانت على المالك كمؤنة الحصاد ، ( والثاني ) : تكون من المسبوك ; لأنه لتخليص المشترك . قال أصحابنا : ومتى ادعى رب المال أن قدر الخالص في المغشوش كذا [ ص: 494 ] وكذا ، فالقول قوله ، فإن اتهمه الساعي حلفه استحبابا بلا خلاف ; لأن قوله لا يخالف الظاهر ، قال البندنيجي : فإن قال رب المال : لا أعلم قدر الفضة علما لكني اجتهدت فأدى اجتهادي إلى كذا لم يكن للساعي أن يقبل منه حتى يشهد به شاهدان من أهل الخبرة بذلك .



                                      ( فرع ) : لو كان له إناء من ذهب وفضة وزنه ألف ، من أحدهما ستمائة ومن الآخر أربعمائة ولا يعرف أيهما الذهب ، قال أصحابنا : إن احتاط فزكى ستمائة ذهبا وستمائة فضة أجزأه ، فإن لم يحتط ، فطريقه أن يميزه بالنار ، قال أصحابنا الخراسانيون : ويقوم مقام النار الامتحان بالماء بأن يوضع قدر المخلوط من الذهب الخالص في ماء ، ويعلم على الموضع الذي يرتفع إليه الماء ، ثم يخرج ويوضع مثله من الفضة الخالصة ، ويعلم على موضع الارتفاع ، وهذا يقع فوق الأولى ; لأن أجزاء الذهب أكثر اكتنازا ، ثم يوضع فيه المخلوط وينظر ارتفاع الماء به ، أهو إلى علامة الذهب أقرب أم إلى علامة الفضة ؟ ويزكى كذلك ولو غلب على ظنه الأكثر منهما . قال الشيخ أبو حامد والعراقيون : إن كان يخرج الزكاة بنفسه فله اعتماد ظنه وإن دفعه إلى الساعي لم يقبل ظنه ، بل يلزمه الاحتياط أو التمييز . وقال إمام الحرمين : الذي قطع به أئمتنا أنه لا يجوز اعتماد ظنه ، قال : ويحتمل أن يجوز الأخذ مما شاء من التقديرين ; لأن اشتغال ذمته بغير ذلك مشكوك فيه ، وجعل الغزالي في الوسيط هذا الاحتمال وجها .



                                      ( فرع ) : قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة ، للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { من غشنا فليس منا } " رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ، ولأن فيه إفسادا للنقود وإضرارا بذوي الحقوق وغلاء الأسعار ، وانقطاع الأجلاب ، وغير ذلك من المفاسد . قال أصحابنا : ويكره لغير الإمام ضرب المغشوش لما ذكرنا في الإمام ; ولأن فيه افتئاتا على الإمام ، ولأنه يخفى فيغتر به الناس بخلاف ضرب الإمام ، قال القاضي أبو الطيب في المجرد وغيره من الأصحاب : قال أصحابنا : ويكره أيضا لغير الإمام ضرب الدراهم [ ص: 495 ] والدنانير إن كانت خالصة ; لأنه من شأن الإمام ; ولأنه لا يؤمن فيه الغش والإفساد قال القاضي أبو الطيب : قال أصحابنا : ومن ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها [ بل يسبكها ويصفيها قال القاضي : إلا إذا كانت دراهم البلد مغشوشة ، فلا يكره إمساكها ] وقد نص الشافعي رضي الله عنه على كراهة إمساك المغشوش واتفق الأصحاب عليه ; لأنه يغر به ورثته إذا مات وغيرهم في الحياة ، كذا علله الشافعي وغيره والله تعالى أعلم .



                                      [ ص: 496 ] وأما المعاملة بالدراهم المغشوشة ، فإن كان الغش فيها مستهلكا بحيث لو صفيت لم يكن له صورة كالدراهم المطلية بزرنيخ ونحوه صحت المعاملة عليها بالاتفاق ; لأن وجود هذا الغش كالعدم ، وإن لم يكن مستهلكا [ ص: 497 ] كالمغشوش بنحاس ورصاص ونحوهما ، فإن كانت الفضة فيها معلومة لا تختلف صحت المعاملة على عينها الحاضرة وفي الذمة أيضا ، وهذا متفق عليه ، صرح به الماوردي وغيره من العراقيين ، وإمام الحرمين وغيره من الخراسانيين ، وإن كانت الفضة التي فيها مجهولة ففي صحة المعاملة بها معينة ، وفي الذمة أربعة أوجه ( أصحها ) : الجواز فيها ; لأن المقصود رواجها ولا يضر اختلاطها بالنحاس كما يجوز بيع المعجونات بالاتفاق ، وإن كانت أفرادها مجهولة المقدار .

                                      ( والثاني ) : لا يصح ; لأن المقصود الفضة وهي مجهولة ، كما نص الشافعي والأصحاب أنه لا يجوز بيع تراب المعدن ; لأن مقصوده الفضة وهي مجهولة ، كما لا يجوز بيع اللبن المخلوط بالماء باتفاق الأصحاب . ( والثالث ) : تصح المعاملة بأعيانها ولا يصح التزامها في الذمة ، كما لا يصح بيع الجواهر والحنطة المختلطة بالشعير معيبة ولا يصح السلم فيها ولا قرضها .

                                      ( والرابع ) : إن كان الغش فيها غالبا لم يجز وإلا فيجوز . قال أصحابنا : فإن قلنا بالأصح ، فباعه بدراهم مطلقا ونقد البلد مغشوش صح العقد ووجب من ذلك النقد ، وإن قلنا بالآخرين لم يصح هكذا ذكر الخراسانيون وغيرهم المسألة .

                                      قال الصيمري وصاحبه صاحب الحاوي : إذا كان قدر الفضة في المغشوشة مجهولا ، فله حالان : ( أحدهما ) : أن يكون الغش بشيء مقصود له قيمة كالنحاس . وهذا له صورتان : ( إحداهما ) : أن تكون الفضة غير ممازجة للغش ، كالفضة على النحاس ، فلا تصح المعاملة بها لا في الذمة ولا بعينه ; لأن المقصود الآخر غير معلوم ولا مشاهد ، فلا تصح المعاملة بها ، كالفضة المطلية بذهب ، ( الثانية ) : أن تكون الفضة ممازجة للنحاس ، فلا تجوز المعاملة [ ص: 498 ] بها في الذمة للجهل بها ، كما لا يجوز السلم في المعجونات ، وفي جوازها على أعيانها وجهان : ( أصحهما ) : وبه قال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن أبي هريرة : يصح كما يصح بيع حنطة مخلوطة بشعير ، وكالمعجونات وإن لم يجز السلم بخلاف تراب المعادن ; لأن التراب غير مقصود .

                                      ( الحال الثاني ) : أن يكون الغش بشيء مستهلك لا قيمة له حينئذ كالزئبق والزرنيخ ، فإن كانا ممتزجين لم تجز المعاملة بها في الذمة ولا معينة ; لأن المقصود مجهول ممتزج كتراب المعدن . وإن لم يكونا ممتزجين بل كانت الفضة على ظاهر الزرنيخ والزئبق صارت المعاملة بأعيانها ; لأن المقصود مشاهد ولا يجوز في الذمة ; لأن المقصود مجهول . هذا كله لفظ صاحب الحاوي قال صاحب الحاوي وغيره : والحكم في الدنانير المغشوشة كهو في الدراهم المغشوشة كما سبق ، ولا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بالدنانير الخاصة ، وكذا لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة ولا بخالصة وستأتي المسألة واضحة في باب الربا إن شاء الله تعالى . قال صاحب الحاوي : ولو أتلف وستأتي المسألة واضحة في باب الربا إن شاء الله تعالى . قال صاحب الحاوي : ولو أتلف الدراهم المغشوشة إنسان لزمه قيمتها ذهبا ; لأنه لا مثل لها : هذا كلامه وهو تفريع على طريقته ، وإلا فالأصح ثبوتها في الذمة ، وحينئذ تكون مضبوطة فيجب مثلها ، والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) : جرت عادة أصحابنا في هذا الموضع بتفسير الكنز المذكور في قوله تبارك وتعالى { : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ، وجاء الوعيد على الكنز في الأحاديث الصحيحة ، قال أصحابنا وجمهور العلماء : المراد بالكنز المال الذي لا تؤدى زكاته ; سواء كان مدفونا أم ظاهرا . فأما ما أديت زكاته فليس بكنز ، سواء كان مدفونا أم بارزا . وممن قال به من أعلام المحدثين البخاري فقال في صحيحه : ما أديت زكاته فليس بكنز لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ليس فيما دون خمس أواق صدقة } " .

                                      ثم روى البخاري في صحيحه أن أعرابيا قال لابن عمر رضي الله عنهما { الذين يكنزون الذهب والفضة } [ ص: 499 ] فقال ابن عمر : " من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله تعالى طهرا للأموال " وهذا الحديث في صحيح البخاري مسند متصل الإسناد . وقد غلط بعض المصنفين في أحكام الحديث في قوله : ذكره البخاري تعليقا وسبب غلطه أن البخاري قال : قال أحمد بن شبيب ، وذكر إسناده ، وأحمد بن شبيب أحد شيوخ البخاري المشهورين ، وقد علم أهل العناية بصيغة الحديث أن مثل هذه الصيغة إذا استعملها البخاري في شيخه كان الحديث متصلا ، وإنما المعلق ما أسقط في أول إسناده واحد فأكثر . وكل هذا موضع في علوم الحديث ، وعن عبد الله بن دينار قال : سمعت ابن عمر رضي الله عنهما وهو يسأل عن الكنز ما هو ؟ فقال : " هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة " رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح .

                                      وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك } " رواه الترمذي وقال : حديث حسن .

                                      وعن ابن عباس قال : { لما نزلت هذه الآية { : والذين يكنزون الذهب والفضة } كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر رضي الله عنه : أنا أفرج عنكم ، فانطلقوا فقالوا : يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم ، فكبر عمر رضي الله عنه ثم قال : ألا أخبركم بخير ما يكنز ؟ المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته } رواه أبو داود في أواخر كتاب الزكاة من سننه بإسناد صحيح على شرط مسلم وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : { كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز } رواه أبو داود في أول كتاب الزكاة بإسناد حسن . قال صاحب الحاوي : قال الشافعي : الكنز ما لم تؤد زكاته وإن كان ظاهرا ، وما أديت زكاته فليس [ ص: 500 ] بكنز وإن كان مدفونا . قال : واعترض عليه ابن جرير وابن داود ، فقال ابن داود : الكنز في اللغة المال المدفون ، سواء أديت زكاته أم لا ، وزعم أنه المراد بالآية . وقال ابن جرير : الكنز المحرم في الآية هو ما لم تنفق منه في سبيل الله في الغزو ، قال : وكل من الاعتراضين غلط ، والصواب قول الشافعي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، والله أعلم .



                                      ( فصل ) : في بيان حقيقة الدينار والدرهم ومبدأ أمرهما في الإسلام وضبط مقدارهما قال الإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن في أول كتاب البيع في باب المكيال : مكيال أهل المدينة ، والميزان ميزان أهل مكة . قال : معنى الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة ، وهي دراهم الإسلام المعدلة منها العشرة بسبعة مثاقيل ، لأن الدراهم مختلفة الأوزان في البلدان ، فمنها البغلي وهو ثمانية دوانيق ، والطبري أربعة دوانيق ، ومنها الخوارزمي وغيرها من الأنواع ، ودراهم الإسلام في جميع البلدان ستة دوانيق وهو وزن أهل مكة الجاري بينهم . وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم عددا وقت قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قول عائشة رضي الله عنها في قصة شراها بريرة " إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت " تريد الدراهم ، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوزن ، وجعل المعيار وزن أهل مكة . قال : واختلفوا في حال الدراهم فقال بعضهم : لم تزل الدراهم على هذا العيار في الجاهلية والإسلام ، وإنما غيروا السكك ونقشوها بسكة الإسلام ، والأوقية أربعون درهما ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وهي مائتا درهم } قال : وهذا قول أبي العباس بن سريج .

                                      وقال أبو عبيد : حدثني رجل من أهل العلم والعناية بأمر الناس ممن يعني بهذا الشأن أن الدراهم كانت في الجاهلية ضربين : البغلية السوداء ثمانية دوانيق ، والطبرية أربعة وكانوا يستعملونها [ ص: 501 ] مناصفة مائة بغلية ومائة طبرية ، فكان في المائتين منها خمسة دراهم زكاة ، فلما كان زمن بني أمية قالوا : إن ضربنا البغلية ظن الناس أنها التي تعتبر فيها الزكاة فيضر الفقراء ، وإن ضربنا الطبرية ضر أرباب الأموال ، فجمعوا الدرهم البغلي والطبري وجعلوهما درهمين كل درهم ستة دوانيق ، وأما الدينار فكان يحمل إليهم من بلاد الروم ، فلما أراد عبد الملك بن مروان ضرب الدنانير والدراهم ، سأل عن أوزان الجاهلية ، فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون قيراطا إلا حبة بالشامي ، وأن عشرة من الدراهم سبعة مثاقيل فضربها كذلك ، هذا آخر كلام الخطابي . وقال الماوردي في الأحكام السلطانية : استقر في الإسلام وزن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل . واختلف في سبب استقرارها على هذا الوزن ، فقيل : كانت في الفرس ثلاثة أوزان ، منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطا ، ودرهم اثنا عشر ، ودرهم عشرة ، فلما احتيج في الإسلام إلى تقديره أخذ الوسط من جميع الأوزان الثلاثة وهو اثنان وأربعون قيراطا ، فكان أربعة عشر قيراطا من قراريط المثقال ; وقيل : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الدراهم مختلفة ، منها البغلي ثمانية دوانيق ، والطبري أربعة ، والمغربي ثلاثة دوانيق ، واليمني دانق واحد ، فقال : انظروا أغلب ما يتعامل الناس به من أعلاها وأدناها ; فكان البغلي والطبري ، فجمعهما فكانا اثني عشر دانقا فأخذ نصفهما فكان ستة دوانيق فجعله دراهم الإسلام .

                                      قال : واختلف في أول من ضربها في الإسلام فحكي عن سعيد بن المسيب أن أول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان ، قال أبو الزناد : أمر عبد الملك بضربها في العراق سنة أربع وسبعين ، وقال المدائني : بل ضربها في آخر سنة خمس وسبعين ، ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين ، قال : وقيل : أول من ضربها مصعب بن الزبير بأمر أخيه عبد الله بن الزبير . سنة سبعين على ضرب الأكاسرة ثم غيرها الحجاج . هذا آخر كلام الماوردي وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى : لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة [ ص: 502 ] في أعداد منها وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة .

                                      قال : وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ، ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل ، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف ، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم ، وصغارا وكبارا وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ، ويمنية ومغربية ، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه وتصييرها وزنا واحدا لا يختلف وأحيانا يستغنى فيها عن الموازين فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم . قال القاضي : ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة ، وإلا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد ؟ وهذا كما كانت الأوقية معلومة أربعين درهما . هذا كلام القاضي وقال الرافعي وغيره من أصحابنا : أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن ، وهو أن الدرهم ستة دوانيق كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإسلام . هذا ما ذكره العلماء في ذلك ، والصحيح الذي يتعين اعتماده أن الدراهم المطلقة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة الوزن معروفة المقدار ، وهي السابقة إلى الأفهام عند الإطلاق ، وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق والمقادير الشرعية ، ولا يمنع من هذا كونه كان هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر ، فإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم محمول على المفهوم عند الإطلاق ، وهو كل درهم ستة دوانيق ، وكل عشرة سبعة مثاقيل . وأجمع أهل العصر الأول فمن بعدهم إلى يومنا على هذا ، ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والله تعالى أعلم .

                                      وأما مقدار الدرهم والدينار فقال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي في كتابه الأحكام : قال أبو محمد علي بن أحمد يعني ابن حزم [ ص: 503 ] بحثت غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه ، فكل اتفق على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير وعشر عشر حبة ، فالرطل مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالا ، وقيل مائة وثلاثون درهما وبه قطع الغزالي والرافعي وهو غريب ضعيف .



                                      ( فرع ) : في مذاهب العلماء في نصاب الذهب والفضة ، وضم أحدهما إلى الآخر وغير ذلك ، وفيه مسائل : ( إحداها ) قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن نصاب الفضة مائتا درهم وأن فيه خمسة دراهم ، واختلفوا فيما زاد على المائتين ، فقال الجمهور : يخرج مما زاد بحسابه ربع العشر ، قلت الزيادة أم كثرت ، ممن قال به علي بن أبي طالب وابن عمر النخعي ومالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد قال : وقال سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء والحسن البصري والشعبي ومكحول وعمرو بن دينار والزهري وأبو حنيفة : لا شيء في الزيادة على مائتين حتى تبلغ أربعين ففيها درهم قال ابن المنذر : وبالأول أقول . ودليل الوجوب في القليل والكثير قوله صلى الله عليه وسلم : { في الرقة ربع العشر } وهو صحيح كما سبق ، وأما الذهب فقد ذكرنا أن مذهبنا أن نصابه عشرون مثقالا ، ويجب فيما زاد بحسابه ربع العشر ، قلت الزيادة أم كثرت ، وبه قال الجمهور من السلف والخلف وقال ابن المنذر : أجمعوا على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا وقيمتها مائتا درهم وجبت فيه الزكاة ، إلا ما اختلف فيه عن الحسن ، فروي عنه هذا وروي عنه أنه لا زكاة فيما هو دون أربعين مثقالا لا تساوي مائتي درهم وفي دون عشرين إذا ساوى مائتي درهم ، فقال كثير منهم : لا زكاة فيما دون عشرين ، وإن بلغت مائتي درهم ، وتجب في عشرين وإن لم تبلغها ، ممن قال به علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين وعروة والنخعي والحكم ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد . قال طاوس وعطاء والزهري [ ص: 504 ] وأيوب وسليمان بن حرب : يجب ربع العشر في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم ، وإن كان دون عشرين مثقالا فلا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعة دنانير وأما إذا كانت الفضة تنقص عن مائتي درهم ، والذهب ينقص عن عشرين مثقالا نقصا يسيرا جدا بحيث يروج رواج الوازنة ، فقد ذكرنا عن مذهبنا أنه لا زكاة ، وبه قال إسحاق وابن المنذر والجمهور ، وقال مالك : تجب .



                                      ( المسألة الثانية ) : مذهبنا أنه لا يكمل نصاب الدراهم بالذهب ولا عكسه حتى لو ملك مائتين إلا درهما وعشرين مثقالا إلا نصفا أو غيره ، فلا زكاة في واحد منهما وبه قال جمهور العلماء ، حكاه ابن المنذر عن ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد . قال ابن المنذر : وقال الحسن وقتادة والأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وسائر أصحاب الرأي : يضم أحدهما إلى الآخر ، واختلفوا في كيفية الضم فقال الأوزاعي : يخرج ربع عشر كل واحد فإذا كانت مائة درهم وعشرة دنانير ، أخرج ربع عشر كل واحد منهما . وقال الثوري : يضم القليل إلى الكثير ونقل العبدري عن أبي حنيفة يضم الذهب إلى الفضة بالقيمة ، فإذا كانت له مائة درهم وله ذهب قيمته مائة درهم وجبت الزكاة قال وقال مالك وأبو يوسف وأحمد : يضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء ، فإذا كان معه مائة درهم وعشرة دنانير ، أو خمسون درهما وخمسة عشر دينارا ضم أحدهما إلى الآخر ، ولو كان له مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها مائة درهم فلا ضم ، دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم { : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة } .



                                      ( الثالثة ) مذهبنا ومذهب العلماء كافة أن الاعتبار في نصاب الذهب والفضة بالوزن لا بالعدد . وحكى صاحب الحاوي وغيره من أصحابنا عن المنقري وبشر المريسي المعتزلي أن الاعتبار بمائتي درهم عددا لا وزنا حتى لو كان معه مائة درهم عددا وزنها مائتان فلا شيء فيها ، وإن كانت مائتان عددا وزنها مائة وجبت الزكاة ، قال أصحابنا : وهذا غلط منهما لمخالفته النصوص والإجماع فهو مردود .



                                      [ ص: 505 ] الرابعة ) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا زكاة في المغشوش من ذهب ولا فضة حتى يبلغ خالصه نصابا ; وبه قال جمهور العلماء . وقال أبو حنيفة : إن كان الغش مثل نصف الفضة أو الذهب أو أكثر فلا زكاة حتى يبلغ الخالص نصابا ، وإن كان أقل وجبت الزكاة إذا بلغ بغشه نصابا ، بناء على أصله أن الغش إذا نقص عن النصف سقط حكمه حتى لو اقترض عشرة دراهم لا غش فيها فرد عشرة فيها ستة فضة ، والباقي غش لزم المقرض قبولها ويبرأ المقترض بها ، ولو ملك مائتين خالصة فأخرج زكاتها خمسة مغشوشة ، قال : تجزيه . قال الماوردي : فساد هذا القول ظاهر والاحتجاج عليه تكلف ويكفي في رده قوله صلى الله عليه وسلم { : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة } .



                                      ( الخامسة ) مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه يشترط في المال الذي تجب الزكاة في عينه ويعتبر فيه الحول كالذهب والفضة والماشية وجود النصاب في جميع الحول . فإن نقص النصاب في لحظة من الحول انقطع الحول ، فإن كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين يكمل النصاب وقال أبو حنيفة : المعتبر وجود النصاب في أول الحول وآخره ، ولا يضر نقصه بينهما ، حتى لو كان معه مائتا درهم ، فتلفت كلها في أثناء الحول إلا درهما ، أو أربعون شاة فتلفت في أثناء الحول إلا شاة ثم ملك في آخر الحول تمام المائتين وتمام الأربعين وجبت زكاة الجميع والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية