الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا دفع إلى رجل ألف درهم قراضا على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صار ألفين بنيت على أن المضارب متى يملك الربح ؟ وفيه قولان .

                                      ( أحدهما ) : يملكه بالمقاسمة .

                                      ( والثاني ) : يملكه بالظهور ، فإن قلنا بالأول كانت زكاة الجميع على رب المال ، فإن أخرجها من عين المال فمن أين تحسب ؟ فيه ثلاثة أوجه .

                                      ( أحدها ) : أنها تحسب من الربح ; لأنها من مؤن المال فتحسب من الربح كأجرة النقال والوزان والكيال .

                                      ( والثاني ) : تحتسب من رأس المال ; لأن الزكاة دين عليه في الذمة في أحد القولين ، فإذا قضاه من المال حسب من رأس المال كسائر الديون .

                                      ( والثالث ) : أنها تحسب من رأس المال والربح جميعا ; لأن الزكاة تجب في رأس المال ، والربح في حسب المخرج منها . وإن قلنا : إن العامل يملك حصته من الربح بالظهور ، وجب على رب المال [ ص: 30 ] زكاة ألف وخمسمائة وإخراجها على ما ذكرناه .

                                      وتجب على العامل زكاة خمسمائة ، غير أنه لا يلزمه إخراجها ; لأنه لا يدري هل يسلم له أم لا ؟ فلم يلزمه إخراج زكاته كالمال الغائب ، فإن أخرج زكاته من غير المال جاز ، وإن أراد إخراجه من المال ففيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : ليس له ; لأن الربح وقاية لرأس المال فلا يخرج منه الزكاة .

                                      ( والثاني ) : أن له ذلك ; لأنهما دخلا على حكم الإسلام ووجوب الزكاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) عامل القراض لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة في أصح القولين . وفي الثاني يملكها بالظهور ، فإذا دفع إلى رجل نقدا قراضا وهما جميعا من أهل الزكاة فحال عليه الحول - فإن قلنا : العامل لا يملك حصته من الربح إلا بالقسمة - لزم المالك زكاة رأس المال والربح جميعا - فإن الجميع ملكه .

                                      هكذا قطع به المصنف والأصحاب . وأشار إمام الحرمين إلى احتمال في تخريج الوجوب على المالك في نصيب العامل على الخلاف في المغصوب والمجحود لتأكد حق العامل في حصته ، والمذهب : ما قاله الأصحاب . قال أصحابنا : وحول الربح مبني على حول الأصل إلا إذا صار ناضا في أثناء الحول ففيه الخلاف السابق ، ثم إن أخرج المالك الزكاة من موضع آخر فذاك ، وإن أخرجها من نفس مال القراض فهو جائز بلا خلاف ، وفي حكم المخرج ثلاثة أوجه مشهورة حكاها المصنف والأصحاب .

                                      ( أصحها ) عند الشيخ أبي حامد والبغوي والجمهور وهو المنصوص : أنه يحسب من الربح كالمؤن التي تلزم المال ، كأجرة حمال وكيال ووزان وغير ذلك ، وكما أن فطرة عبيد التجارة من الربح بلا خلاف ، ونقله البغوي عن نص الشافعي ، وكذا أروش جنايتهم ( والثاني ) : يحسب من رأس المال ; لأن الزكاة دين على المالك ، فحسب على المالك كما لو أخذ قطعة من المال وقضى بها دينا آخر ( والثالث ) : يحسب من رأس المال والربح جميعا ; لأنها تجب فيهما فحسبت فيهما ، ويكون المخرج كالطائفة من المال استردها المالك ويقسط عليهما .

                                      [ ص: 31 ] مثاله ) : رأس المال مائتان والربح مائة فثلثا المخرج من رأس المال وثلثه من الربح . قال الخراسانيون : هذا الخلاف مبني على أن تعلق الزكاة بالعين أم بالذمة ؟ إن قلنا بالعين فكالمؤن وإلا فهو استرداد . ومنهم من قال : إن قلنا بالعين فكالمؤنة وإلا فوجهان ، واستبعد إمام الحرمين هذا البناء وقال : ليس هو بمرضي . قال : ولا يمتنع إثبات الخلاف على قول تعلق الزكاة بالعين من جهة شيوع تعلق الزكاة في الجميع . أما إذا قلنا : العامل يملك حصته بالظهور فعلى المالك زكاة رأس المال وحصته من الربح بلا خلاف ، ولا يلزمه زكاة حصة العامل بلا خلاف .

                                      قال المصنف والأصحاب : وحكم الإخراج والحول كما سبق ، وهو أنه إن بقيت السلعة إلى آخر الحول زكى الربح بحول الأصل ، وإن نض الربح قبل الحول فهل يضم إلى حول الأصل ؟ أم يفرد بحول ؟ فيه الخلاف السابق ، ثم إن أراد إخراج الزكاة من مال القراض من أين يحسب ؟ فيه الأوجه الثلاثة .

                                      هذا حكم المالك . أما العامل على هذا القول فهل يلزمه زكاة نصيبه من الربح ؟ فيه ثلاث طرق حكاها الفوراني وإمام الحرمين وآخرون ( وأصحها ) وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين وصاحب " التقريب " والصيدلاني وغيرهم : القطع بوجوبها ; لأنه مالك قادر على الفسخ والمقاسمة في كل وقت ، والتصرف بعد القسمة في نصيبه ، فلزمه الزكاة .

                                      ( والثاني ) : أنه على قول المغصوب والمجحود ; لأنه غير متمكن في الحال من كمال التصرف .

                                      ( والثالث ) : القطع بعدم الزكاة عليه لضعف ملكه وعدم استقراره لاحتمال الخسران فأشبه المكاتب . وهذه طريقة القفال وضعفها إمام الحرمين ، فحصل أن المذهب الإيجاب على العامل ، وفي ابتداء حوله في نصيبه خمسة أوجه : ( أصحها ) : المنصوص من حين الظهور ; لأنه ملك من حينئذ .

                                      ( والثاني ) : من حين يقوم المال على المالك لأجل الزكاة ; لأنه لا يتحقق الربح إلا بذلك ، حكاه الشيخ أبو حامد والأصحاب . [ ص: 32 ] والثالث ) : حكاه أبو حامد أيضا والأصحاب من حين المقاسمة ; لأنه لا يستقر ملكه إلا من حينئذ ، وهذا غلط وإن كان مشهورا ; لأن حاصله أن العامل لا زكاة في نصيبه ; لأنه بعد المقاسمة ليس بعامل ، بل مالك ملكا مستقرا كامل التصرف فيه ، والتفريع على أنه يملك بالظهور . فالقول بأنه لا يكون حوله إلا من المقاسمة رجوع إلى أنه لا زكاة عليه قبل القسمة .

                                      ( والوجه الرابع ) : حوله حول رأس المال ، حكاه إمام الحرمين والغزالي وغيرهما . وهذا أيضا غلط صريح ; لأنه حينئذ لم يكن مالكا فكيف يبنى ملكه وحوله على حول غيره ؟ ، ولا خلاف أن حول الإنسان لا يبنى على حول غيره إلا الوارث على قول ضعيف ; لكونه قائما مقام المورث .

                                      ( الخامس ) : أنه من حين اشترى العامل السلعة . حكاه البندنيجي وغيره . قالوا : وهو غلط . قال أصحابنا : ثم إذا تم حول العامل ونصيبه لا يبلغ نصابا ، لكنه مع جملة المال يبلغ نصابا - فإن أثبتنا الخلطة في النقدين - فعليه الزكاة وإلا فلا ، إلا أن يكون له من جنسه ما يكمل به النصاب ، وهذا إذا لم نقل : ابتداء الحول من المقاسمة ، فإن جعلناه منها سقط اعتبار الخلطة . قال أصحابنا : وإذا أوجبنا الزكاة على العامل لم يلزمه إخراجها قبل القسمة . وهذا هو المذهب وبه قطع المصنف وسائر العراقيين والجمهور .

                                      فإذا اقتسما زكى ما مضى ، وفيه وجه : أنه يلزمه الإخراج في الحال ; لتمكنه من القسمة وهو قول صاحب " التقريب " حكاه صاحب " الإبانة " و " البيان " وآخرون عنه ، والصواب : الأول ; لأن المال ليس في يده ولا تصرفه ، فلا يكون أكبر من المال الغائب الذي ترجى سلامته ويخاف تلفه .

                                      قال أصحابنا : فإن أخرج الزكاة من موضع آخر فذاك ، وإن أراد إخراجها من مال القراض ، فهل له الاستقلال به أم للمالك منعه ؟ فيه [ ص: 33 ] وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب : ( أصحهما ) عند جماهير الأصحاب وهو المنصوص : يستقل به بغير إذن المالك ; لأن الزكاة وجبت فيه ; ولأنه مقتضى القراض على هذا القول .

                                      ( والثاني ) : ليس له ذلك وللمالك منعه ; لأن الربح وقاية لرأس المال فلعله يخسر . قال البندنيجي : هذان الوجهان مبنيان على أن الزكاة هل تتعلق بالعين أم بالذمة ؟ إن قلنا : بالعين ، فله ذلك وإلا فلا . هذا كله إذا كان المالك والعامل من أهل وجوب الزكاة جميعا ، فأما إذا كان المالك من أهلها دون العامل وقلنا : الجميع للمالك ما لم يقسم فعليه زكاة الجميع . وإن قلنا بالقول الآخر فعليه زكاة رأس المال ونصيبه من الربح ، ولا يكمل نصيبه إذا لم يبلغ نصابا بنصيب العامل ; لأنه ليس من أهل الزكاة فلا تصح خلطته . وأما إذا كان العامل من أهل وجوب الزكاة دون المالك - فإن قلنا : كله للمالك قبل القسمة - فلا زكاة - وإن قلنا : للعامل حصته من الربح ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف السابق ، فإن أوجبناها فذلك إذا بلغت حصته نصابا أو كان له ما يتم به نصاب ، ولا تثبت الخلطة ولا يجيء في اعتبار الحول هنا إلا الوجه الأول والثالث ، وليس له إخراج الزكاة من غير المال بلا خلاف ; لأن المالك لم يدخل في العقد على إخراج زكاة من المال . هكذا قاله الأصحاب .

                                      قال الرافعي : والمانع منع ذلك ; لأنه عامل من عليه الزكاة . والله أعلم .



                                      فرع في مسائل تتعلق بالتجارة ( إحداها ) : إذا باع عرض التجارة بعد وجوب الزكاة قبل إخراجها ففيه ثلاث طرق .

                                      ( أصحها ) وبه قطع جمهور الأصحاب في الطريقين : صحة بيعه قولا واحدا .

                                      ( والطريق الثاني ) : فيه الخلاف السابق في بيع غيره من أموال الزكاة قبل إخراجها ، كبيع السائمة والثمرة والحب والنقد بعد وجوب الزكاة قبل إخراجها . حكاه صاحب " البيان " وآخرون ( والثالث ) : إن قلنا : يخرج زكاة التجارة من نفس العرض فهو على الخلاف ، وإن قلنا : يخرج من القيمة فهو كما لو وجبت شاة في خمس من الإبل ، فباعها قبل إخراج الشاة ، وفيه طريقان سبقا في موضعهما .

                                      وهذا [ ص: 34 ] الطريق قاله وحكاه الرافعي ، قال الرافعي : وهذان الطريقان شاذان ، والمذهب القطع بالجواز ، كما قطع به الجمهور ، وسواء باع بقصد التجارة ، أم بقصد اقتناء المال ، أم بلا قصد ; لأن تعلق الزكاة به لا يبطل ، ، وإن صار مال قنية ، كما لو نوى الاقتناء بلا بيع . ولو وهب مال التجارة أو أعتق عبدها ، قال الرافعي : هو كبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها ; لأن الهبة والإعتاق يبطلان متعلق زكاة التجارة ، كما أن بيع الماشية يبطل متعلق زكاتها ، قال : ولو باع مال التجارة بعد وجوبها بمحاباة فقدر المحاباة كالموهوب ، فإن لم تصحح الهبة بطل في ذلك القدر ، وفي الثاني قولا تفريق الصفقة .



                                      ( الثانية ) : إذا كان مال التجارة حيوانا فله حالان .

                                      ( أحدهما ) : أن يكون مما تجب الزكاة في عينه كنصاب الماشية وسبق حكمه .

                                      ( والثاني ) : أنه لا يجب في عينه كالعبيد والجواري والخيل والحمير والمعلوفة من الغنم ، فهل يكون نتاجها مال تجارة ؟ فيه وجهان مشهوران . أصحهما : يكون ; لأن الولد جزء من أمه ، قالوا : والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الأم بالولادة ، فإن نقصت بأن كانت قيمتها ألفا فصارت بالولادة ثمانمائة وقيمة الولد مائتان ، جبر نقص الأم بالولد وزكى الألف ، ولو صارت قيمة الأم تسعمائة جبرت المائة من قيمة الولد ، كذا قاله ابن سريج والأصحاب .

                                      قال إمام الحرمين : وفيه احتمال ظاهر ومقتضى قولنا : إنه ليس مال تجارة لا يجبر به الأم كالمستفاد بسبب آخر . قال أصحابنا : وثمار أشجار التجارة كأولاد حيوانها ففيها الوجهان ، فإن لم يجعل الأولاد والثمار مال تجارة فهل يجب فيها في السنة الثانية فما بعدها زكاة ؟ قال إمام الحرمين : الظاهر أنا لا نوجب ; لأنه منفصل عن تبعية الأم وليس أصلا في التجارة ، وأما إذا ضممناها إلى الأصل وجعلناها مال تجارة ففي حولها طريقان .

                                      ( أصحهما ) : حولها [ ص: 35 ] حول الأصل كنتائج السائمة وكالزيادة المتصلة .

                                      ( والثاني ) : على قولي ربح الناض ، فعلى أحدهما ابتداء حولها من انفصال الولد وظهور الثمار .



                                      ( الثالثة ) حكى البغوي والأصحاب عن ابن الحداد فرعا ووافقوه عليه ، وهو إذا اشترى شقصا مشفوعا بعشرين دينارا للتجارة فحال الحول وقيمته مائة ، لزمه زكاة مائة ، ويأخذه الشفيع بعشرين ، ولو اشتراه بمائة فحال عليه الحول وقيمته عشرون ، لزمه زكاة عشرين ويأخذه الشفيع بمائة ، وحكى إمام الحرمين ما ذكره ابن الحداد في الصورة ، ثم قال : قال الشيخ أبو علي : ومن أصحابنا من خرج قولا : إنه لا زكاة عليه ; لأن ملكه معرض للزوال بتسلط الشفيع عليه ، ولو تصرف في الدار فتصرفه معرض للنقض من جهة الشفيع ، بخلاف الصداق ، فإن تصرف المرأة فيه لا ينقض لو فرض فرقة قبل الدخول .

                                      قال الإمام : وهذا الذي ذكره ، وإن كان يتوجه تفريعه فالوجه : أن يستثنى منه قدر عشرين دينارا ، فإن ملكه [ وإلا ] كان معرضا للزوال في الشقص فيبذل في مقابلته عشرون دينارا ، وعين المال ليست مقصودة في زكاة التجارة ، وإنما المقصود المالية وهي موجودة دائما في مقدار عشرين دينارا .

                                      قال الإمام : ثم ذكر الشيخ أبو علي وجها أن للمشتري أن يقول : قد وجبت الزكاة في مالية الدار فيخرج الزكاة منها ، ويكون ذلك كنقصان صفة في الشقص فيأخذ الشفيع الباقي بجميع العشرين كما لو نقص بآفة سماوية ، قال الإمام : وهذا الوجه ضعيف ; لأن نقصه بالزكاة بسبب قصده التجارة لا في نفسه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية