الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن أفطر في رمضان بغير الجماع من غير عذر وجب عليه القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم { من استقاء فعليه القضاء } ولأن الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر مع وجود العذر ، فلأن يجب مع عدم العذر أولى ، ويجب إمساك بقية النهار ; لأنه أفطر بغير عذر فلزمه إمساك بقية النهار ، ولا تجب عليه الكفارة ; لأن الأصل عدم الكفارة إلا فيما ورد به الشرع ، وقد ورد الشرع بإيجاب الكفارة في الجماع وما سواه ليس في معناه ; لأن الجماع أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير ولا يجب فيما سواه فبقي الأصل ، وإن بلغ ذلك السلطان عزره ; لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فثبت فيه التعزير كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث سبق بيانه : قال أصحابنا : إذا أفطر الصائم في نهار رمضان بغير الجماع من غير عذر مختارا عالما بالتحريم ، بأن أكل أو شرب أو استعط أو باشر فيما دون الفرج فأنزل ، أو استمنى فأنزل أثم ووجب عليه القضاء وامساك بقية النهار ولا يلزمه الكفارة العظمى وهي عتق رقبة وهل تلزمه الفدية ؟ وهي مد من الطعام ؟ فيه طريقان ( أصحهما ) وبه قطع العراقيون : لا يلزمه [ ص: 359 ] لما ذكره المصنف .

                                      ( والثاني ) حكاه الخراسانيون فيه وجهان ( أصحهما ) عند جمهورهم : لا يلزمه ( والثاني ) يلزمه ; لأنها إذا لزمت المرضع والحامل وهما معذورتان فهذا أولى . وهذا الوجه حكاه البندنيجي عن أبي هريرة قال المصنف والأصحاب : وإذا علم السلطان أو نائبه بهذا عزره ; لما ذكره المصنف .

                                      فرع ذكره أصحابنا الخراسانيون قالوا : لو رأى الصائم في رمضان مشرفا على الغرق ونحوه ولم يمكنه تخليصه إلا بالفطر ليتقوى فأفطر لذلك جاز ، بل هو واجب عليه ويلزمه القضاء وفي الفدية وجهان مشهوران ( أصحهما ) باتفاقهم لزومها كالمرضع ( والثاني ) لا يلزمه كالمسافر والمريض ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : الإمساك تشبيها بالصائمين من خواص رمضان كالكفارة فلا إمساك على متعد بالفطر في نذر أو قضاء أو كفارة كما لا كفارة وهذا كله متفق عليه قال أصحابنا : ثم إن أمسك تشبها فليس هو في صوم بخلاف المحرم إذا أفسد إحرامه ويظهر أثره في أن المحرم لو ارتكب محظورا لزمته الفدية ولو ارتكب الممسك محظورا فلا شيء عليه بلا خلاف سوى الإثم وقد سبق بيان مسألة الإمساك إذا بان يوم الشك من رمضان ، قال أصحابنا : ويجب الإمساك على كل متعد بالفطر في رمضان ، سواء أكل أو ارتد أو نوى الخروج من الصوم إذا قلنا : يخرج منه بنية الخروج ويجب على من نسي النية من الليل ، وأما المسافر إذا أقام والمريض إذا برأ والصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق والحائض والنفساء إذا طهرتا والكافر إذا أسلم وغيرهم ممن في معناهم فسبق بيان حكمهم في الإمساك في أوائل الباب مبسوطا والله أعلم .

                                      [ ص: 360 ] فرع في مذاهب العلماء فيمن أفطر بغير الجماع في نهار رمضان عدوانا ذكرنا أن مذهبنا أن عليه قضاء يوم بدله وإمساك بقية النهار ، وإذا قضى يوما كفاه عن الصوم وبرئت ذمته منه ، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء . قال العبدري : هو قول الفقهاء كافة إلا من سنذكره إن شاء الله تعالى ، وحكى ابن المنذر وغيره عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه يلزمه أن يصوم اثني عشر يوما مكان كل يوم ; لأن السنة اثني عشر شهرا وقال سعيد بن المسيب يلزمه صوم ثلاثين يوما وقال النخعي صوم ثلاثة آلاف يوم كذا حكاه ابن المنذر وأصحابنا . وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما " لا يقضيه صوم الدهر " . واحتج لهذا المذهب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد غريب لكن لم يضعفه أبو داود وأما الكفارة فيه والفدية فمذهبنا أنه يلزمه شيء من ذلك كما سبق وبه قال سعيد بن جبير وابن سيرين والنخعي وحماد بن أبي سليمان وأحمد وداود وقال أبو حنيفة : ما لا يتغذى به في العادة كالعجين وبلع حصاة ونواة ولؤلؤة يوجب القضاء ولا كفارة ، وكذا إن باشر دون الفرج فأنزل أو استمنى فلا كفارة وقال الزهري والأوزاعي والثوري وإسحاق : تجب الكفارة العظمى من غير تفصيل وحكاه ابن المنذر أيضا عن عطاء والحسن وأبي ثور ومالك ، والمشهور عن مالك أنه يوجب الكفارة العظمى في كل فطر لمعصية كما حكاه ابن المنذر وحكي عنه خلافه قال ابن المنذر : وروينا أيضا عن عطاء أن عليه تحرير رقبة فإن لم يجدها فبدنة أو بقرة أو عشرين صاعا من طعام دليلنا ما ذكره المصنف .

                                      ( وأما ) الحديث الذي رواه البيهقي بإسناده عن هشيم بإسناده عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه أمر الذي أفطر في [ ص: 361 ] شهر رمضان بكفارة الظهار } وفي رواية عن هشيم عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

                                      ( فجوابه من وجهين ) : ( أحدهما ) أنه ضعيف ، لأن الرواية الأولى مرسلة ، والثانية فيها ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ( والجواب الثاني ) جواب البيهقي أن هذا اختصار وقع من هشيم ، فقد رواه أكثر أصحاب ليث عنه عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه مفسرا في قصة الذي وقع على امرأته في نهار رمضان قال البيهقي : وهكذا كل حديث روي في هذا الباب ، مطلقا من وجه فقد روي من وجه آخر مفسرا بأنه في قصة الواقع على امرأته قال : ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفطر بالأكل شيء هذا كلام البيهقي والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية