الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز صوم يوم الشك ; لما روي عن عمار رضي الله عنه أنه قال : { من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم } فإن صام يوم الشك عن رمضان لم يصح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { ولا تستقبلوا الشهر استقبالا } ولأنه يدخل في العبادة وهو في شك من وقتها فلم يصح كما لو دخل في الظهر وهو يشك في وقتها ، وإن صام فيه عن فرض عليه كره وأجزأه ، كما لو صلى في دار مغصوبة ، وإن صام عن تطوع نظرت - فإن لم يصمه بما قبله ولا وافق عادة له - لم يصح ; لأن الصوم قربة - فلم يصح بقصد معصية ، وإن وافق عادة جاز ; لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق صوما كان يصومه أحدكم } وإن وصله بما قبل النصف جاز ، وإن وصله بما بعده لم يجز ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عمار رواه أبو داود والترمذي وقال : هو حديث حسن صحيح . وأما حديث : { لا تستقبلوا الشهر } فصحيح رواه النسائي من رواية ابن عباس بإسناد صحيح وسبق بيانه في أوائل كتاب الصيام في وجوب صوم رمضان برؤية الهلال . وأما حديث أبي هريرة { لا تقدموا الشهر } فرواه البخاري ومسلم ، وحديثه الآخر { إذا انتصف شعبان فلا صيام } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ولم يضعفه أبو داود في سننه بل رواه وسكت عليه . وحكى البيهقي عن أبي داود أنه قال : قال أحمد بن حنبل : هذا حديث منكر قال : وكان عبد الرحمن لا يحدث به - يعني عبد الرحمن بن مهدي - وذكر النسائي عن أحمد بن حنبل هذا الكلام ، قال أحمد : " والعلاء بن عبد الرحمن [ ص: 453 ] ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا الحديث " قال النسائي : ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير العلاء .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : لا يصح صوم يوم الشك عن رمضان بلا خلاف لما ذكره المصنف ، فإن صامه عن قضاء أو نذر أو كفارة أجزأه وفي كراهته وجهان . قال القاضي أبو الطيب : يكره وبه قطع المصنف ، ونقله صاحب الحاوي عن مذهب الشافعي ( والثاني ) لا يكره ، وبه قطع الدارمي وهو مقتضى كلام المتولي والجمهور واختاره ابن الصباغ وغيره قال ابن الصباغ في الشامل : قال القاضي أبو الطيب : يكره ويجزئه ، قال : ولم أر ذلك لغيره من أصحابنا ، قال : وهو مخالف للقياس ; لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعا له سبب فالفرض أولى ، كالوقت الذي نهي عن الصلاة فيه ، ولأنه إذا كان عليه قضاء يوم من رمضان ، فقد تعين عليه ; لأن وقت قضائه قد ضاق . وأما إذا صامه تطوعا فإن كان له سبب بأن كان عادته صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كيوم الاثنين فصادفه جاز صومه بلا خلاف بين أصحابنا . وبهذه المسألة احتج ابن الصباغ في المسألة السابقة كما سبق .

                                      ودليله حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف ، وإن لم يكن له سبب فصومه حرام ، وقد ذكر المصنف دليله ، فإن خالف ; وصام أثم بذلك . وفي صحة صومه وجهان مشهوران في طريقة خراسان ( أصحهما ) بطلانه ، وبه قطع القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما من العراقيين ( والثاني ) يصح ، وبه قطع الدارمي وصححه السرخسي ; لأنه صالح للصوم في الجملة بخلاف صوم العيد . قال الخراسانيون : وهذان الوجهان كالوجهين في صحة الصلاة ، المنهي عنها في وقت النهي ، قالوا : ولو نذر صومه ففي صحة نذره وجهان بناء على صحة صومه إن صح صح ، وإلا فلا . قالوا : فإن صححناه فليصم يوما غيره فإن صامه أجزأه عن نذره . هذا كله إذا لم يصل يوم الشك بما قبل نصف شعبان ، فأما إذا وصله بما قبله فيجوز بالاتفاق ; لما ذكره المصنف ، فإن وصله بما بعد نصف شعبان لم يجزه ; لما ذكره المصنف ، أما إذا صام بعد نصف شعبان غير يوم الشك ففيه وجهان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وغيره [ ص: 454 ] ومن المحققين لا يجوز للحديث السابق ( والثاني ) يجوز ولا يكره ، وبه قطع المتولي وأشار المصنف في التنبيه إلى اختياره ، وأجاب المتولي عن الحديث السابق " { إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان } بجوابين : ( أحدهما ) أن هذا الحديث ليس بثابت عند أهل الحديث .

                                      ( والثاني ) أنه محمول على من يخاف الضعف بالصوم فيؤمر بالفطر حتى يقوى لصوم رمضان ، والصحيح ما قاله المصنف وموافقوه ، والجوابان اللذان ذكرهما المتولي ينازع فيهما .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في ألسنة الناس أنه رئي ولم يقل عدل : إنه رآه أو قاله ، وقلنا : لا تقبل شهادة الواحد ، أو قاله عدد من النساء أو الصبيان أو العبيد أو الفساق . وهذا الحد لا خلاف فيه عند أصحابنا . قالوا : فأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم شك ، سواء أكانت السماء مصحية أو أطبق الغيم ، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ، وحكى الرافعي وجها عن أبي محمد البافي - بالموحدة وبالفاء - وإن كانت السماء مصحية - ولم ير الهلال فهو شك - وحكى أيضا وجها آخر عن أبي طاهر الزيادي من أصحابنا أن يوم الشك ما تردد بين [ ص: 455 ] الجائزين من غير ترجيح فإن شهد عبد أو صبي أو امرأة فقد ترجح أحد الجانبين فليس بشك ، ولو كان في السماء قطع سحاب يمكن رؤية الهلال من خلالها ، ويمكن أن يخفى تحتها ولم يتحدث برؤيته فوجهان ، قال الشيخ أبو محمد : وهو يوم الشك ، وقال غيره : ليس بيوم شك وهو أصح ، وقال إمام الحرمين : إن كانوا في سفر ولم تبعد رؤية أهل القرى فيحتمل جعله يوم شك ، هذا كلامه . فرع في مذاهب العلماء في صوم يوم الشك .

                                      قد ذكرنا أنه لا يصح صومه بنية رمضان عندنا ، وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وابن مسعود وعمار وحذيفة وأنس وأبي هريرة وأبي وائل وعكرمة وابن المسيب والشعبي والنخعي وابن جريج والأوزاعي قال : وقال مالك : سمعت أهل العلم ينهون عنه . هذا كلام ابن المنذر ، وممن قال به أيضا عثمان بن عفان وداود الظاهري قال ابن المنذر : وبه أقول ، وقالت عائشة وأختها أسماء : نصومه من رمضان وكانت عائشة تقول : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " وروي هذا عن علي أيضا . قال العبدري : ولا يصح عنه ، وقال الحسن وابن سيرين : إن صام الإمام صاموا ، وإن أفطر أفطروا ، وقال ابن عمر وأحمد بن حنبل : إن كانت السماء مصحية لم يجز صومه ، وإن كانت مغيمة وجب صومه عن رمضان .

                                      وعن أحمد روايتان كمذهبنا ومذهب الجمهور ، وعنه رواية ثالثة كمذهب الحسن هذا بيان مذاهبهم في صوم يوم الشك عن رمضان ، فلو صامه تطوعا بلا عادة ولا وصلة فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز ، وبه قال الجمهور ، وحكاه العبدري عن عثمان وعلي وعبد الله بن مسعود . [ ص: 456 ] وحذيفة وعمار وابن عباس وأبي هريرة وأنس والأوزاعي ومحمد بن مسلمة المالكي وداود ، وقال أبو حنيفة لا يكره صومه تطوعا ويحرم صومه عن رمضان . واحتج لمن قال بصومه عن رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له } رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر ، وزعموا أن معناه ضيقوا عدة شعبان بصوم رمضان ، وبأن عائشة وأسماء وابن عمر كانوا يصومونه ، فروى البيهقي عن عائشة أنها سئلت عن صوم يوم الشك فقالت : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " وعنأسماء " أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان " عن أبي هريرة " لأن أصوم اليوم الذي يشك فيه من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " .

                                      قال البيهقي : ورواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن تقدم الشهر بصوم إلا أن يوافق صوما كان يصومه أصح من هذا ، قال البيهقي : وأما قول علي رضي الله عنه في ذلك ، فإنما قاله عند شهادة رجل على رواية الهلال فلا حجة فيه . قال : وأما مذهب ابن عمر في ذلك فقد روينا عنه أنه قال : " لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه " وفي رواية عن عبد العزيز بن حكيم الحضرمي قال : رأيت ابن عمر يأمر رجلا بفطر في اليوم الذي يشك فيه " قال : ورواية يزيد بن هارون تدل على أن مذهب عائشة في ذلك كمذهب ابن عمر في الصوم إذا غم الشهر دون أن يكون صحوا . قال البيهقي ، ومتابعة السنة الثابتة وما عليه أكثر الصحابة وعوام أهل المدينة أولى بنا وهو منع صوم يوم الشك . هذا كلام البيهقي . واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لهما عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الشهر تسع وعشرون ليلة ، فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين } وفي رواية لمسلم " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان [ ص: 457 ] فضرب بيديه فقال : الشهر هكذا وهكذا ، ثم عقد إبهامه في الثالثة وقال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين } وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح زيادة قال : " وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذاك ، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة أصبح مفطرا ، فإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائما قال : وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب " .

                                      وعن أبي هريرة قال : " قال النبي صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } رواه البخاري ، وعنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما } رواه مسلم ، وفي رواية له : { فإن غم عليكم فأكملوا العدة } وفي رواية { فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين } وفي المسألة أحاديث كثيرة بمعنى ما ذكرناه ، قال أهل اللغة : يقال : قدرت الشيء أقدره وأقدره - بضم الدال وكسرها - وقدرته وأقدرته بمعنى واحد ، وهو من التقدير قال الخطابي : ومنه قوله تعالى { فقدرنا فنعم القادرون } واحتج أصحابنا بالرواية السابقة " فأكملوا العدة ثلاثين " وهو تفسير ل " اقدروا له " ولهذا لم يجتمعا في رواية ، بل تارة يذكر هذا ، وتارة يذكر هذا وتؤيده الرواية السابقة " فاقدروا ثلاثين " قال الإمام أبو عبد الله الماوردي : حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له " على أن المراد إكمال العدة ثلاثين ، كما فسره في حديث آخر ، قالوا : ويوضحه ويقطع كل احتمال وتأويل فيه رواية البخاري " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي البختري قال : " { أهللنا رمضان ونحن بذات عرق فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس [ ص: 458 ] يسأله فقال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أمده لرؤيته فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة } رواه مسلم .

                                      وعن ابن عباس أيضا قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غمامة فأكملوا شعبان ثلاثين يوما } رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته ، فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا } رواه النسائي بإسناد صحيح ، وعنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيء كان يصومه أحدكم ، لا تصوموا حتى تروه ، ثم صوموا حتى تروه ، فإن حالت دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا } . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أحصوا هلال شعبان لرمضان } رواه الترمذي ، وعن مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح عن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية بإسناده الصحيح قال : لا نعرف مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية قال : والصحيح رواية أبي هريرة السابقة " { لا تقدموا شهر رمضان بيوم ولا يومين } هذا كلام الترمذي ، وهذا الذي قاله ليس بقادح في الحديث ، لأن أبا معاوية ثقة حافظ ، فزيادته مقبولة .

                                      وعن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان ، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام } رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني وقال : إسناده صحيح .

                                      وعن حذيفة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة } رواه أبو داود والنسائي بإسناد على شرط البخاري ومسلم . وعن عمار قال : { من صام اليوم الذي يشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم } رواه أبو داود والنسائي والترمذي ، وقال حديث حسن صحيح والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة مشهورة ، والجواب عما احتج به المخالفون سبق بيانه ، والله أعلم .



                                      [ ص: 459 ] فرع ) اعلم أن القاضي أبا يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء الحنبلي صنف جزءا في وجوب صوم يوم الشك ، وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون مطلع الهلال غيم ، ثم صنف الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الشافعي جزءا في الرد على ابن الفراء والشناعة عليه في الخطأ في المسألة . ونسبته إلى مخالفة السنة وما عليه جماهير الأمة ، وقد حصل الجزءان عندي ولله الحمد وأنا أذكر إن شاء الله تعالى مقاصدهما ولا أخل بشيء يحتاج إليه مما فيهما مضموما إلى ما قدمته في الفرع قبله ، وبالله التوفيق . قال القاضي ابن الفراء : جاء عن الإمام أحمد رحمه الله فيما إذا حال دون مطلع الهلال غيم ليلة الثلاثين من شعبان ثلاث روايات : ( إحداها ) وجوب صيامه عن رمضان رواها عنه الأثرم والمروزي ومهنا وصالح والفضل بن زياد . قال : وهو قول عمر بن الخطاب وابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن العاص وأنس ومعاوية وأبي هريرة وعائشة وأسماء وبكر بن عبد الله المزني وأبي عثمان وابن أبي مريم وطاوس ومطرف ومجاهد فهؤلاء ثمانية من الصحابة وسبعة من التابعين .

                                      ( والثانية ) لا يجب صومه بل يكره إن لم يوافق عادته . ( والثالثة ) إن صام الإمام صاموا ، وإلا أفطروا ، وبه قال الحسن وابن سيرين قال ابن الفراء : وعلى الرواية الأولى عول شيوخنا أبو القاسم الخرقي وأبو بكر الخلال وأبو بكر عبد العزيز وغيرهم .

                                      واحتج بحديث ابن عمر السابق { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له } وقد سبق بيانه وأنه من الصحيحين ، وفي رواية لأبي داود زيادة عن ابن عمر " أنه إذا كان دون منظره سحاب صام " قال : والدلالة في الحديث من وجهين : ( أحدهما ) أن رواية ابن عمر " وكان يصبح في الغيم صائما " ولا يفعل ذلك إلا وهو يعتقد أنه معنى الحديث وتفسيره . قال : فإن [ ص: 460 ] قيل فقد روي عن ابن عمر أنه قال : " لو صمت السنة لأفطرت هذا اليوم - يعني يوم الشك - " وروي عنه " صوموا مع الجماعة وأفطروا مع الجماعة " قلنا : المراد لأفطرت يوم الشك الذي في الصحو ، وكذا الرواية الأخرى عنه ، قال : فإن قيل : يحتمل أنه كان يصبح ممسكا احتياطا لاحتمال قيام بينة في أثناء النهار بأنه من رمضان فنسمي إمساكه صوما ، ( قلنا ) الإمساك ليس بصوم شرعي فلا يصح الحمل عليه ، ولأنه لو كان للاحتياط لأمسك في يوم الصحو لاحتمال قيام بينة بالرؤية .

                                      ( الوجه الثاني ) أن معنى " اقدروا له " ضيقوا عدة شعبان بصوم رمضان كما قال الله تعالى { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق عليه رزقه ، قال : وإنما قلنا : إن التضييق بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما أولى من جعله ثلاثين لأوجه : ( أحدها ) أنه تأويل ابن عمر راوي الحديث .

                                      ( والثاني ) أن هذا المعنى متكرر في القرآن .

                                      ( والثالث ) أن فيه احتياطا للصيام فإن قيل : فقد روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين } فيحمل المطلق على المقيد ( قلنا ) ليس هذا بصريح ; لأنه يحتمل رجوعه إلى هلال شوال ; لأنه سبقه بقوله " وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم " يعني هلال شوال . فنستعمل اللفظين على موضعين ، وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يكن المقيد محتملا ، ويدل عليه رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما ثم أفطروا } . ويستنبط من الحديث دليل آخر : وهو أن معناه اقدروا له زمانا يطلع في مثله الهلال ، وهذا الزمان يصلح وجود الهلال فيه ، ولأن في المسألة إجماع الصحابة روي ذلك عن عمر وابنه وأبي هريرة وعمرو بن العاص ومعاوية وأنس وعائشة وأسماء ، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة . وعن سالم بن عبد الله قال : " كان أبي إذا أشكل عليه شأن الهلال تقدم قبله بصيام يوم . وعن أبي هريرة " لأن أتعجل في صوم [ ص: 461 ] رمضان بيوم أحب إلي من أن أتأخر ; لأني إذا تعجلت لم يفتني وإذا تأخرت فاتني " وعن عمرو بن العاص " أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان " وعن معاوية أنه كان يقول : " إن رمضان يوم كذا وكذا ونحن متقدمون ، فمن أحب أن يتقدم فليتقدم ، ولأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " وعن عائشة وقد سئلت عن اليوم الذي يشك فيه فقالت : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " قال الراوي : " فسألت ابن عمر وأبا هريرة فقالا : أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك منا " وعن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان .

                                      قال : فإن قيل : كيف يدعي الإجماع وفي المسألة خلاف ظاهر لصحابة ؟ فقد روى منع صومه عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وحذيفة وابن عباس وأبي سعيد وأنس وعائشة ، ثم ذكر ذلك بأسانيده عنهم من طرق ، وفي الرواية عن علي قال : " { إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن صيام ستة أيام من السنة يوم الشك والنحر والفطر وأيام التشريق } وعن عمر وعلي " أنهما كانا ينهيان عن صوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان " عن ابن مسعود " لأن أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلي من أن أزيد فيه ما ليس منه " وعن ابن عباس " لا تصوموا اليوم الذي يشك فيه لا يسبق فيه الإمام " وعن أبي سعيد " إذا رأيت هلال رمضان فصم وإذا لم تره فصم مع جملة الناس وأفطر مع جملة الناس " ونهى حذيفة عن صوم يوم الشك . فهذا كله يخالف ما رويتموه عن الصحابة من صومه .

                                      ( قلنا ) يجمع بينهما بأن من نهى عن الصيام أراد إذا كان الشك بلا حائل سحاب ، وكان صيامهم مع وجود الغيم ، ويحتمل أنهم نهوا عن صومه تطوعا وتقدما على الشهر ، ومن صام منهم على أنه من رمضان . قال : ( فإن قيل ) فنحن أيضا نتناول ما رويتموه عن الصحابة أن من صام منهم صام مع وجود شاهد واحد ، وقد روي ذلك . [ ص: 462 ] مسندا عن فاطمة بنت الحسين " أن رجلا شهد عند علي رضي الله عنه برؤية هلال رمضان فصام . وأحسبه قال : وأمر الناس بالصيام . وقال : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ( قلنا ) لا يصح هذا التأويل ; لأنه إذا شهد واحد خرج عن أن يكون من شعبان ، وصار يوما من رمضان يصومه الناس كلهم ، وفيما سبق عن الصحابة أنهم قالوا ( لأن نصوم يوما من شعبان ) وهذا إنما يقال في يوم شك ، ولأن ابن عمر كان ينظر للهلال ، فإن كان هناك غيم أصبح صائما وإلا أفطر ، وهذا يقتضي العمل باجتهاده لا بشهادة ، ولأنه سموه يوم الشك ، ولو كان في الشهادة لم يكن يوم شك .

                                      قال : ( فإن قيل ) ليس فيما ذكرتم أنهم كانوا يصومونه من رمضان فلعلهم صاموه تطوعا ، وهذا هو الظاهر ، لأنهم قالوا : لأن نصوم يوما من شعبان " فسموه شعبان ، وشعبان ليس بفرض ، قلنا : هذا لا يصح ; لأن ابن عمر كان يفرق بين الصحو والغيم ; ولأن ظاهر كلامهم أنهم قصدوا الاحتياط لاحتمال كونه من رمضان . وهذا المقصود لا يحصل بنية التطوع ، وإنما يحصل بنية رمضان . ومن القياس أنه يوم يسوغ الاجتهاد في صومه عن رمضان ، فوجب صيامه كما لو شهد بالهلال واحد ، واحترزنا بيسوغ الاجتهاد عن يوم الصحو ، ولهذا يتناول ما أطلقه الصحابة على الصحو ; لأنه روي صريحا عن ابن عمر ، ولأنه عبادة بدنية مقصودة فوجبت مع الشك ، كمن نسي صلاة من صلاتين ، واحترزنا ببدنية عن الزكاة والحج وبمقصوده عمن شك هل أحدث أم لا ؟ فلا شيء عليه في كل ذلك . قال : واحتج المخالف بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " { نهى عن صيام ستة أيام ، اليوم الذي يشك فيه من رمضان ، ويوم النحر ، ويوم الفطر ، وأيام التشريق } . وجوابه من وجهين ( أحدهما ) حمله على من صامه تطوعا أو نذرا أو قضاء ( والثاني ) حمله على الشك إذا لم يكن غيم ، قال : واحتج أيضا بحديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة قبله ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة } وجوابه أنه محول على ما إذا لم يكن غيم [ ص: 463 ] واحتج بحديث ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن حال دونه غمامة فأكملوا العدة ثلاثين } .

                                      ( جوابه ) أن معناه أكملوا رمضان ، ودليل هذا التأويل أنه جاء في حديث أبي هريرة { فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين } ويعود الضمير في رؤيته إلى هلال شوال ; لأنه أقرب مذكور ، وفي رواية عن أبي هريرة " فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا " ومثله من رواية ابن عباس ، وهكذا الجواب عن حديث ابن عمر في صحيح مسلم { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين } معناه غم هلال شوال . قال : واحتج بحديث أبي البختري السابق قال : { أهللنا هلال رمضان فشككنا فيه فبعثنا إلى ابن عباس رجلا فقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل أمده لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } ( قلنا ) هذا محمول على ما إذا كان الإغمام من الطرفين بأن يغم هلال رمضان فنعد شعبان تسعة وعشرين يوما ثم نصوم ثلاثين ، فيحول دون مطلع هلال شوال غيم ليلة الحادي والثلاثين ، فإنا نعد شعبان من الآن ثلاثين ونعد رمضان ثلاثين ونصوم يوما ، فيصير الصوم واحدا وثلاثين ، كما إذا نسي صلاة من يوم فاتته ، فإنه يلزمه صلوات اليوم . وقد روي عن أنس أنه قال : " هذا اليوم يكمل إلى أحد وثلاثين يوما واحتجوا بحديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين ثم صوموا ، فإن غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا إلا أن تروه قبل ذلك " جوابه ما سبق قبله أنه محمول على ما إذا كان الإغمام في طرفي رمضان . قال : ( فإن قيل ) هذا التأويل باطل لوجهين : ( أحدهما ) أنه قال : " فعدوا شعبان ثلاثين ثم صوموا " [ ص: 464 ] والصوم إنما هو أول الشهر .

                                      ( والثاني ) أنه قال بعد ذلك : " فإن غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا " فدل على أن الإغمام في أوله وفي آخره . والذي في أوله يقتضي الاعتداد في أول رمضان . وعلى هذا التأويل يقتضي أن الاعتداد به في آخر رمضان .

                                      ( قلنا ) التأويل صحيح ; لأنا نكمل عدة شعبان في آخر رمضان ، ونصوم يوما آخر ، فيكون قوله : " ثم صوموا " راجعا إلى هذا اليوم . وأما قوله بعده : " فإن غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا " فمعناه إذا غم في أوله وغم في آخره ليلة الثلاثين من رمضان فإنا نعد شعبان ثلاثين ثم نصوم يوما وهو الحادي والثلاثين من رمضان ثلاثين ، ونصوم يوما آخر فقد حصل العددان أحدهما بعد الآخر ويتخللهما صوم يوم قال : واحتج بأنه لو علق طلاقا أو عتاقا على رمضان لم يقع يوم الشك ، وكذا لا يحل فيه الدين المؤجل إلى رمضان فكذا الصوم .

                                      ( وجوابه ) أنا لا نعرف الرواية عن أصحابنا في ذلك ، فيحتمل أن لا نسلم ذلك ونقول : يقع الطلاق والعتق ويحل الدين ، ويحتمل أن نسلمه وهو أشبه ، ونفرق بين المسألة بوجهين : ( أحدهما ) أنه قد يثبت الصوم بما لا يثبت به الطلاق والعتق والحلول وهو شهادة عدل واحد .

                                      ( والثاني ) أن في إيقاع الطلاق والعتاق وحلول الدين إسقاط حق ثابت لمعين بالشك ، وهذا لا يجوز بخلاف الصوم فإنه إيجاب عبادة مقصودة على البدن فلا يمتنع وجوبها مع الشك كمن نسي صلاة من الخمس ، وكذا الجواب عن قولهم : إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث لا وضوء عليه للأصل ، ولو شك هل طلق ؟ لا طلاق عليه ، لأن الطلاق والبضع حق له ، فلا يسقطان بالشك ، وكذا الجواب عن قولهم : لو تسحر الرجل وهو شاك في طلوع الفجر صح صومه ; لأن الأصل بقاء الليل ، ولو وقف بعرفات شاكا في طلوع الفجر صح وقوفه ، لأن الأصل بقاء الليل ، والفرق أن البناء على الأصل في هاتين المسألتين لم يسقط العبادة ; لأن الصوم والوقوف وجدا .

                                      [ ص: 465 ] وأما ) في مسألتنا فالبناء على الأصل يسقط الصوم ( وجواب ) آخر ، وهو أن طلوع الفجر يخفى على كثير من الناس فلو منعناهم السحور مع الشك لحقتهم المشقة ; لأنه يتكرر ذلك ، وليس كذلك في إلزامهم صوم يوم الشك ، لأنه إنما يجب لعارض يعرض في السماء وهو نادر فلا مشقة فيه ، وكذلك الحج لو منعناهم الوقوف مع الشك لفاتهم ، وفيه مشقة عظيمة قال : واحتج بأنه شك فلا يجب الصوم كالصحو ( وجوابه ) أنه يبطل بآخر رمضان إذا حال غيم فإنه يجب الصوم ولأنه إذا كان صحو ولم يروا الهلال ، فالظاهر عدمه بخلاف الغيم ، فوجب صومه احتياطا .

                                      قال : واحتج بأن كل يوم صامه في الصحو لا يجب في الغيم كالثامن والعشرين من شعبان ( وجوابه ) أن الفرق بين الصحو والغيم ما سبق ، ولأنا تحققنا في الثامن والعشرين كونه من شعبان بخلاف يوم الثلاثين ، ولهذا لو حال الغيم في آخر رمضان ليلة الثلاثين صمنا ، ولو حال ليلة الحادي والثلاثين لم نصم ، قال : واحتج بأنها عبادة فلا يجب الدخول فيها حتى يعلم وقتها كالصلاة ( وجوابه ) أن هذا باطل في الأصل والفرع . أما الأصل فإنه يجب الدخول في الصلاة مع الشك ، وهو إذا نسي صلاة من الخمس ( وأما ) الفرع فإن الأسير إذا اشتبهت عليه الشهور صام بالتحري ( وجواب ) آخر وهو أن اعتبار اليقين في الصلاة لا يؤدي إلى إسقاط العبادة ، بخلاف مسألتنا ، قال : واحتج أنه لا يصح الجزم بالنية مع الشك ، ولا يصح الصوم إلا بجزم النية ( وجوابه ) أنه لا يمتنع التردد في النية للحاجة كما في الأسير إذا صام بالاجتهاد ومن نسي صلاة من الخمس فصلاهن .

                                      ( فإن قيل ) لو حلف أن الهلال تحت الغيم ( قلنا ) لا يحنث للشك مع أن الأصل بقاء النكاح ، وكذا لو حلف أنه لم يطلع ، ولا هو تحت الغيم كما لو طار طائر فحلف أنه غراب ، أو أنه ليس بغراب أو تجهلناه .

                                      ( فإن قيل ) لو وطئ في هذا اليوم ( قلنا ) تجب الكفارة ( فإن قيل ) هل يصلي التراويح هذه الليلة ؟ ( قلنا ) اختلف أصحابنا فقال أبو حفص العكبري : لا يصلي ، وقال غيره : يصلي وهو ظاهر كلام أحمد ، ولأنه من رمضان ( فإن قيل ) لم لم يحكموا بالهلال تحت الغيم في [ ص: 466 ] سائر الشهور ؟ ( قلنا ) لا فائدة فيه بخلاف مسألتنا فإن فيه احتياطا للصوم ولهذا يثبت هلال رمضان بشاهد واحد بخلاف غيره ( فإن قيل ) لو حلف ليدخلن الدار في أول يوم من رمضان ( قلنا ) لا يبر في يمينه حتى يدخلها في يومين يوم الشك والذي بعده ، كمن نسي صلاة من صلوات يوم وجهلها فحلف ليدخلن الدار بعد أن يصليها فإنه لا يبر حتى يدخل بعد جميع صلوات اليوم ، وإن كنا نعلم أن الذي في ذمته واحدة ، هذا آخر كلام القاضي أبي يعلى بن الفراء رحمه الله تعالى .

                                      قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي في الرد عليه : وقفت على كتاب لبعض من ينتسب إلى الفقه من أهل هذا العصر ذكر فيه أن يوم الشك المكمل لعدة شعبان يجب صومه عن أول يوم من رمضان ، قال الخطيب : واحتج في ذلك بما ظهور اعتلاله يغني الناظر فيه عن إبطاله ، إذ الحق لا يدفعه باطل الشبهات ، والسنن الثابتة لا يسقطها فاسد التأويلات ، ومع كون هذه المسألة ليس فيها التباس فربما خفي حكمها عن بعض الناس ، من قصر فهمه ، وقل بأحكام الشرع علمه ، وقد أوجب الله على العلماء أن ينصحوا له فيما استحفظهم ، ويبذلوا الجهد فيما قلدهم ، وينهجوا للحق سبل نجاتهم ، ويكشفوا للعوام عن شبهاتهم ، لا سيما فيما يعظم خطره ، ويبين في الدين ضرره ، ومن أعظم الضرر إثبات قول يخالف مذهب السلف من أئمة المسلمين ، في حكم الصوم الذي هو أحد أركان الدين ، وأنا بمشيئة الله تعالى أذكر من السنن المأثورة ، وأورد في ذلك من صحيح الأحاديث المشهورة ، عن رسول رب العالمين ، وصحابته الأخيار المرضيين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وعن خالفيهم من التابعين ، ما يوضح منار الحق ودليله ، ويرد من تنكب سبيله ، ويبطل شبهة قول المخالف وتأويله .

                                      ثم روى الخطيب بإسناده حديث أبي هريرة السابق في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " { لا تقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين ، إلا أن يكون صوما يصومه رجل فليصم ذلك الصوم } ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه ويوم [ ص: 467 ] الفطر والنحر وأيام التشريق } . ثم ذكر الأحاديث الصحيحة السابقة { لا تصوموا حتى تروا الهلال } وحديث حذيفة الصحيح السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم : " { لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة إذا غم الهلال ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة } وحديث ابن عباس السابق في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : " قال إن الله أمده للرؤية " وحديث { أحصوا عدة شعبان لرمضان } وسبق بيانه .

                                      ثم قال : باب الأمر بإكمال العدة إذا غم الهلال ، قال : روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وأبي بكرة وطلق بن علي ورافع بن خديج وغيرهم من الصحابة ، ثم ذكر رواياتهم بأسانيده من طرق وألفاظها كما سبق في الفرع الأول ، وفي جميع رواياته " { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين } .



                                      ثم قال الخطيب : أجمع علماء السلف على أن صوم يوم الشك ليس بواجب ، وهو إذا كانت السماء مغيمة في آخر اليوم التاسع والعشرين من شعبان ، ولم يشهد عدل برؤية الهلال ، فيوم الثلاثين يوم الشك ، فكره جمهور العلماء صيامه إلا أن يكون له عادة بصوم فيصومه عن عادته ، أو كان يسرد الصوم فيأتي ذلك في صيامه فيصومه ، قال : فممن منع صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة ، وتابعهم من التابعين سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبو وائل وعبد الله بن عكيم الجهني وعكرمة والشعبي والحسن وابن سيرين والمسيب بن رافع وعمر بن عبد العزيز ومسلم بن يسار وأبو السوار العدوي وقتادة والضحاك بن قيس وإبراهيم النخعي ، وتابعهم من الخالفين والفقهاء المجتهدين ابن جريج والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق بن راهويه . [ ص: 468 ] وقال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز عن رمضان ويجوز تطوعا .

                                      ( وأما ) أحمد بن حنبل فروي عنه كمذهب الجماعة أنه لا يجب صومه ، ولا يستحب ، وروي عنه متابعة الإمام في صومه وفطره ، وروي عنه أنه إن كان غيم صامه وإلا أفطره . قال الخطيب : وزعم المخالف أن الرواية التي عليها التعويل عنده عن أحمد وجوب صوم يوم الشك عن أول يوم من رمضان ، وأراه عول على قول العامة : خالف تعرف ، واحتج لقوله بما سنذكره إن شاء الله تعالى ، فمن ذلك حديث ابن عمر السابق { صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له } قال الخطيب : قال المخالف : ودلالته من وجهين فذكر الوجهين السابقين في كلام الفراء ، ومختصرهما أن ابن عمر كان يصوم يوم ليلة الغيم ، وهو الراوي ، فاعتماده أولى ( والثاني ) أن معنى " اقدروا له " ضيقوا شعبان بصوم رمضان . قال الخطيب : أما حديث ابن عمر فاختلفت الروايات عنه اختلافا يئول إلى أن يكون حجة لنا ، فإن بعض الرواة قال في حديثه عنه : " فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما " ثم روى " عنه فأكملوا العدة ثلاثين " وفي رواية عنه " فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " ثم ذكر الخطيب بأسانيده من طرق جميع هذه الألفاظ ، وقد سبق بيانها وأنها صحيحة ، ثم قال الخطيب : لقد ثبت برواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فسر المجمل ، وأوضح المشكل وأبطل شبهة المخالف ، وكشف عوار تأويله الفاسد ، لأن قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له " مجمل فسره برواية " فعدوا له ثلاثين يوما " و " فأكملوا العدة له ثلاثين " و " فاقدروا له ثلاثين " مع موافقة أبي هريرة ابن عمر على روايته مثل هذه الألفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الخطيب رواية أبي هريرة من طريقين في بعضها " { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين } وفي الثانية " فإن غم عليكم فاقدروا له " .

                                      قال الخطيب : وأما تعلق المخالف بما روي عن ابن عمر أنه كان يصوم إذا غم الهلال ، فقد روي أنه كان يفعل ويفتي بخلاف ذلك ، وفتياه أصح من فعله يعني لتطرق التأويل إلى فعله ، ثم روى الخطيب [ ص: 469 ] بإسناده عن عبد العزيز بن حكيم قال : " سألوا ابن عمر فقالوا " نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء ، فقال ابن عمر : أف أف ، صوموا مع الجماعة ، وأفطروا مع الجماعة " إسناده صحيح إلا عبد العزيز بن حكيم ، فقال يحيى بن معين : هو ثقة ، وقال أبو حاتم : ليس بقوي يكتب حديثه ، وعن ابن عمر قال : " لا أتقدم قبل الإمام ولا أصله بصيام " . وعن عبد العزيز بن حكيم قال : " ذكر عند ابن عمر يوم الشك فقال : لو صمت السنة كلها لأفطرته " قال الخطيب : وهذا هو الأشبه بابن عمر لأنه لا يجوز الظن به أنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم وترك قوله الذي رواه هو وغيره من العمل بالرؤية أو إكمال العدة فيجب أن يحمل ما روي عن ابن عمر من صوم يوم الشك على أنه كان يصبح ممسكا حتى يتبين بعد ارتفاع النهار هل تقوم بينة بالرؤية فظن الراوي أنه كان صائما ويدل عليه أنه كان لا يحتسب به ولا يفطر إلا مع الناس ويدل عليه أيضا قوله : " لا أتقدم قبل الإمام " وقوله : " لو صمت السنة لأفطرته " يعني يوم الشك .

                                      قال الخطيب : وهذا تصريح منه بأنه كان لا يعتقد الصيام في ذلك . وإنما كان ممسكا .

                                      ( فإن قيل ) فما الفائدة في إمساكه بلا نية للصوم لأنه لو ثبت كونه من رمضان لم يجزه ( قلنا ) فائدته تعظيم حرمة رمضان ، وكيف يظن بابن عمر مخالفة السنة وهو المجتهد في اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله ، وطريقة ابن عمر في ذلك مشهورة محفوظة قال الخطيب : وقد تأول المخالف قول ابن عمر " لو صمت السنة لأفطرت يوم الشك " على أن معناه لم أصمه [ ص: 470 ] تطوعا وإن تطوعت بجميع السنة قال : ويحتمل أن يكون يوم الشك في الصحو ، قال : وهكذا قوله " صوموا مع الجماعة " المراد مع الصحو . قال الخطيب : وهذا تأويل باطل ; لأن المفهوم من هذا الكلام في اللغة والعرف أنه لا يصومه بحال . وكذا المعروف عندهم من يوم الشك إنما هو مع وجود السحاب لا مع الصحو ، مع أن ما تأوله على ابن عمر لو لم يكن له وجه إلا ما قاله لم يكن فيه حجة لثبوت السنن الراتبة الصريحة ، بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما ادعى المخالف ، ولا يجوز تركها لفعل ابن عمر ولا غيره .

                                      ثم روى بإسناده عن ابن عباس قال : " ليس أحد من الناس إلا يؤخذ من قوله ويترك غير النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطيب : وقد جعل المخالف العلة في تفسير الحديث المجمل الذي رواه ابن عمر مجرد فعله مع احتماله غير ما ذهب إليه ، وكان يلزمه ترك رأيه والأخذ بحديث ابن عباس ، ثم ذكره بإسناده عن ابن عباس قال : { تمارى الناس في رؤية هلال رمضان فقال بعضهم : اليوم وقال بعضهم : غدا فجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه رآه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى في الناس : صوموا ، ثم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ، ولا تصوموا قبله يوما } . قال الخطيب : وهذا الحديث أولى أن يأخذ به المخالف من حديث ابن عمر ، لما فيه من البيان الشافي باللفظ الواضح الذي لا يحتمل التأويل ، ولأن ابن عباس ساق السبب الذي خرج الكلام عليه قال الخطيب : والمراد في رؤية الهلال إنما يقع إذا كان في السماء غيم ، فلو كان الحكم ما ادعاه المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالصوم من غير شهادة الأعرابي على الرؤية . قال الخطيب : وقد روي عن عبد الله بن جراد العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فيه كفاية عما سواه فذكر بإسناد عنه ، ثم قال : " { أصبحنا يوم الاثنين صياما وكان الشهر قد أغمي علينا . [ ص: 471 ] فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأصبناه مفطرا فقلنا : يا نبي الله ، صمنا اليوم ، فقال : أفطروا إلا أن يكون رجل يصوم هذا اليوم فليتم صومه ، لأن أفطر يوما من رمضان متماريا فيه أحب إلي من أن أصوم يوما من شعبان ليس منه } يعني ليس من رمضان . قال الخطيب : وأما ما ذكره المخالف أنه حجة له من جهة الاستنباط . وقوله : إن معنى " اقدروا له " ضيقوا شعبان لصوم رمضان فهو خطأ واضح ; لأن معناه اقدروا شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا في الحادي والثلاثين ، وقدرت الشيء وقدرته - بتخفيف الدال وتشديدها - بمعنى واحد بإجماع أهل اللغة . ومنه قوله تعالى { فقدرنا فنعم القادرون } ثم روى الخطيب بإسناده عن يحيى بن زكريا الفراء الإمام المشهور قال في قوله تعالى { فقدرنا فنعم القادرون } ذكر عن علي وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما شددا وخففها الأعمش وعاصم .

                                      قال الفراء : ولا يبعد أن يكون معناهما واحدا ; لأن العرب قد تقول : قدر عليه الموت ، وقدر عليه الموت وقدر عليه رزقه ، وقدر عليه رزقه . بالتخفيف والتشديد . ثم روى الخطيب عن ابن قتيبة التشديد والتخفيف ، ثم عن ابن عباس ومقاتل بن سليمان ، وكان أوحد وقته في التفسير . ثم الفراء ثم ثعلب : إنهم قالوا في تفسير قوله تعالى { فظن أن لن نقدر عليه } معناه أن لن نقدر عليه عقوبة . قال : وكذلك قاله غيره من النحاة . فهذا قول أئمة اللغة على أن في الحديث ما لا يحتاج معه غيره في وضوح الحجة وإسقاط الشبهة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له ثلاثين " أي فعدوا له ثلاثين ، وهو بمعنى عدوا ، وكله راجع إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " قال الخطيب : قال المخالف : وليس في قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له " ما يدل على وجوب تقدير شعبان بثلاثين ، إذ ليس تقديره بثلاثين أولى من تقديره بتسعة وعشرين ، لأن كل واحد من العددين يكون قدرا للشهر { لقوله صلى الله عليه وسلم حين نزل من الغرفة وقد آلى شهرا فنزل لتسع وعشرين : إن الشهر تسع وعشرون } وعن ابن مسعود " ما صمنا تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين " . [ ص: 472 ] قال الخطيب : ما أعظم غفلة هذا الرجل ، ومن الذي نازعه في أن الشهر تارة يكون تسعا وعشرين وتارة يكون ثلاثين ، وأي حجة له في ذلك . وقوله : ليس التقدير بثلاثين أولى من التقدير بتسع وعشرين باطل ومحال ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تقديره في هذه الحالة بتمام العدد والكمال . وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " فاقدروا له ثلاثين " قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } قال الخطيب : قال المخالف ( فإن قيل ) لم كان حمله على تسع وعشرين أولى من حمله على ثلاثين ؟ ( قلنا ) لوجوه : ( أحدها ) أنه تأويل ابن عمر الراوي ، وهو أعرف .

                                      ( والثاني ) أنه مشهور في كتاب الله تعالى في غير موضع .

                                      ( الثالث ) أن فيه احتياطا للصوم . قال الخطيب : أما تأويل ابن عمر فقد ذكرنا ما يفسده من معارضة ابن عباس له بالرواية التي لا تحتمل تأويلا . وذكرنا عن ابن عمر من الروايات ما يوجب تأويل فعله على غير ما ذهب إليه المخالف ، وكذلك تفسير ما ادعاه من الآيات فلا حاجة إلى إعادته . وأما قوله : " إن فيه احتياطا " فالاحتياط في اتباع السنن والاقتداء بها ، دون الاعتراض عليها بالآراء ، والحمل لها على الأهواء ، ومنزلة من زاد في الشرع كمنزلة من نقص ، لا فرق بينهما . قال الخطيب : قال المخالف : ( فإن قيل ) قد روى مسلم " فاقدروا له ثلاثين " من رواية ابن عمر ، ( قلنا ) هذا التفسير ليس بصريح لاحتمال رجوعه إلى هلال شوال . قال الخطيب : لا يجوز لأحد أن ينزل الكلام عن أصله الموضوع وظاهره المستعمل المعروف ، ويعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل ، وحقيقة قوله صلى الله عليه وسلم : { فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين } راجع إلى الغيم في ابتداء الصوم وفي انتهائه ، وقد بين النص ما اقتضاه ظاهر هذا اللفظ وعمومه وحقيقته وهو قوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 473 ] في حديث ابن عباس { : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة فأكملوا شعبان ثلاثين ، ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان } ، وعن ابن عباس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله بيوم } وفي رواية عنه { فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين } رواه البخاري في صحيحه .

                                      قال الخطيب : واستدل المخالف على أن قوله صلى الله عليه وسلم : " { فإن غم عليكم فاقدروا له } " راجع إلى غم هلال شوال بحديث أبي هريرة الآخر { فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا } قال الخطيب : وليس في هذا أكثر من بيان حكم غم الهلال آخر الشهر وأنه يجب إكمال عدة الصوم ، ونحن قائلون به . فأما بيان حكم غمه في أول رمضان فمستفاد من الأحاديث السابقة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم { فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ثم صوموا } وفي الرواية الأخرى { فعدوا شعبان وفي الأخرى فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا } وحديث عائشة رضي الله عنها : " { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام } . قال الخطيب . قال المخالف : هذه الألفاظ محمولة على ما إذا غم هلال رمضان فإنا نعد شعبان تسعة وعشرين يوما ثم نصوم ثلاثين يوما ، فإن حال دون مطلع هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين غيم ، عددنا حينئذ شعبان ثلاثين . ثم نعد رمضان ثلاثين ونصوم يوما آخر فيكون إحدى وثلاثين . قال الخطيب : من خلت يداه من الدليل وعدل عن نهج السبيل لجأ إلى مثل هذا التأويل ومع كونه إحدى العظائم والكبر ، وأعجب ما وقف عليه أهل النظر ، فإن صاحبه لم يسنده إلى أصل يرده إليه ، ولا أورد أمرا يحتمل أن يقفه عليه ، ولو جاز تخصيص الحديث [ ص: 474 ] العام بغير دليل لبطلت الأخبار ، ولم يثبت حكم بظاهر ، وتعلق كل مبطل بمثل هذه العلة ولئن ساغ للمخالف هذا التأويل الباطل ليسوغن لغلاة الرافضة الذين يسبقون الناس في الفطر والصوم أن يتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم : " { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته } أن المراد تقدم الصيام للرؤية وتقدم الفطر للرؤية . قال الخطيب : ومخالفنا يعلم فساد هذا التأويل الذي قاله ، فقال له : أسمعت هذا التأويل عن أحد ؟ فإن زعمه فليأت بخبر واحد يتضمنه ، وأن أحدا من السلف كان إذا غم عليه هلال شوال استأنف عدد شعبان ، فإن لم يجده في خبر ولا أثر ، وهيهات أن يجده ، فليعلم أن ما تأوله خلاف الصواب ، فالحق أحق أن يتبع ، ( فإن قال ) استخرجته بنظري ، ( قلنا ) الاستخراج لا يكون إلا من أصل ولا سبيل لك إليه .

                                      قال الخطيب : وزعم المخالف أن إجماع الصحابة في هذه المسألة على وفق مذهبه ، وهذه دعوى منه ليس عليها برهان . ولا يعجز كل من غلب هواه على شيء أن يدعي إجماع الصحابة عليه . قال الخطيب : وأنا أذكر هنا ما ثبت عند أهل النقل في ذلك عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء الخالفين ، فأما الرواية عن عمر بن الخطاب فرواها بإسناده عن عبد الله بن عكيم أنه كان يخطب الناس كلما أقبل رمضان ويقول في خطبته : ألا ولا يتقدمن الشهر منكم أحد ، يقولها ثلاثا ، وفي الرواية أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد المجندة " صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا وأفطروا ، وبإسناده عن الإمام أحمد بن حنبل قال : كان عثمان لا يجيز شهادة الواحد في رؤية الهلال على رمضان ، فقلت له من ذكره ؟ قال ابن جريج عن عمرو بن دينار ، قلت له : من ذكر عن ابن جريج ؟ قال : عبد الرزاق وروح . قال الخطيب : فإذا لم يقبل عثمان شهادة الواحد ، فالغيم أولى أن لا يعتمده . [ ص: 475 ] وعن مجالد عن الشعبي عن علي أنه كان يخطب إذا حضر رمضان ويقول في خطبته : " لا تقدموا الشهر . إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة " وكان يقول ذلك بعد صلاة الفجر وصلاة العصر وعن مجالد عن الشعبي " أن عمر وعليا كانا ينهيان عن صوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان " قلت : مجالد ضعيف ، والله أعلم .

                                      قال الخطيب : واحتج المخالف بخبر يروى عن علي أنه قال : " أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " قال الخطيب : ولا حجة فيه ، لأن عليا كان لا يقبل شهادة العدل الواحد في الصوم ، ثم روى بإسناده عن علي أنه كان يقبل شهادة رجلين لهلال رمضان ، ثم رأى علي قبول شهادة واحد ، ثم روى عن فاطمة بنت الحسين أن رجلا شهد عند علي على رؤية هلال رمضان ، فصام وقال : " أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان " فصيام علي رضي الله عنه كان بشهادة الرجل الواحد بعد أن كان لا يقبل شهادة الواحد ، فلما بلغه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الواحد صار إليه . قال الخطيب : ويدل على أن عليا كان لا يصوم إلا للرؤية أو اكتمال العدد لشعبان ما أخبرناه أحمد وذكر إسناده إلى الوليد بن عتبة قال : " صمنا على عهد علي رضي الله عنه ثمانية وعشرين يوما ، فأمرنا علي بقضاء يوم " . قال الخطيب : وكان شهر رمضان تلك السنة تسعة وعشرين يوما ، وشعبان تسعة وعشرين وغم الهلال في آخر شعبان ، فأكمل علي والناس العدد لشعبان ثلاثين ، وصاموا فرأوا الهلال عشية اليوم الثامن والعشرين من الصوم ولو كان علي يقول في الصوم كقول المخالف من اعتماد الغيم لم ير الناس الهلال بعد صوم ثمانية وعشرين يوما .

                                      ( وأما ) ابن مسعود فروى عنه الخطيب بإسناده " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين " وفي رواية عنه " لأن [ ص: 476 ] أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلي من أن أزيد فيه يوما ليس منه وعن صلة قال { كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه من رمضان فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم } : وعن حذيفة " أنه كان ينهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان " وعن ابن عباس قال : " لا تصلوا رمضان بشيء ، ولا تقدموه بيوم ولا يومين " وعنه " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى الله ورسوله " وعن أبي هريرة " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " .

                                      قال الخطيب : وأما ما رويناه عن معاوية بن صالح عن أبي مريم قال : " سمعت أبا هريرة يقول : لأن أتقدم في رمضان أحب إلي من أن أتأخر ; لأني إن تقدمت لم يفتني " فرواية ضعيفة لا تحفظ إلا من هذا الوجه ، وأبو مريم مجهول فلا يعارض بروايته ما نقله الحفاظ من أصحاب أبي هريرة عنه ، قال الخطيب : ومما تعلق به المخالف ما رواه يحيى بن أبي إسحاق قال : رأيت هلال الفطر إما عند الظهر أو قريبا منها ، فأفطر ناس فأتينا أنسا فأخبرناه فقال : " هذا يوم يكمل إلى أحد وثلاثين يوما ، لأن الحكم بن أيوب أرسل إلي قبل صيام الناس أني صائم غدا فكرهت الخلاف عليه فصمت ، وأنا متم يومي هذا إلى الليل " قال الخطيب : قال المخالف : ولا يتقدم أنس على صوم الجماعة إلا بصوم يوم الشك . قال الخطيب : فيقال له : قد قال أنس : إنه لم يصمه معتقدا وجوبه وإنما تابع الحكم بن أيوب وكان هو الأمير على الإمساك فيه ، ولعل الأمير عزم عليه في ذلك فكره مخالفته ، والمحفوظ عن [ ص: 477 ] أنس أنه أفطر يوم الشك ، كذا روى عنه محمد بن سيرين وحسبك به فهما وعقلا وصدقا وفضلا ، ومن ذلك عن عائشة : " لأن أصوم يوما من شعبان أحب لي من أن أفطر يوما من رمضان " قال الخطيب : أرادت عائشة صوم الشك إذا شهد برؤية الهلال عدل ، فيجب صومه ، ولو كان قد شهد بباطل في نفس الأمر وأرادت بقولها مخالفة من شرط لصوم رمضان شاهدين ، والدليل على هذا أن مسروقا روى عنها النهي عن صوم يوم الشك ، ثم رواه الخطيب بإسناده ، ومن ذلك عن أسماء بنت أبي بكر " أنها كانت إذا غم الهلال تقدمته وصامت ، وتأمر بذلك " . قال الخطيب : ليس في هذا أكثر من تقدمها بالصوم ، ويحتمل أنه تطوع لا واجب وإذا احتمل ذلك لم يكن للمخالف فيه حجة ، مع أن الحجة إنما هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله .

                                      قال الخطيب : ومما جاء عن التابعين فيه ما رويناه - فذكر بإسناده عن عكرمة " { من صام يوم الشك فقد عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رجلا أن يفطر بعد الظهر } .



                                      وعن القاسم بن محمد : " لا تصم اليوم الذي تشك فيه إذا كان فيه سحاب " وفي رواية عنه " لا بأس بصومه إلا أن يغم الهلال " . وعن الشعبي أنه سئل عن اليوم الذي يقول الناس : إنه من رمضان ؟ قال : " لا يصم إلا مع الإمام " وفي رواية " عنه لو صمت السنة كلها ما صمت يوم الشك " وعن الضحاك بن قيس " لو صمت السنة كلها ما صمت يوم الشك " وعن إبراهيم قال : ما من يوم أبغض إلي من أن أصومه من اليوم الذي يقال : إنه من رمضان ، وعن إبراهيم وأبي وائل والشعبي والمسيب بن رافع أنهم كانوا يكرهون صوم اليوم الذي يقال : إنه من رمضان ، وعن الحسن البصري قال : لأن أفطر يوما من رمضان لا أتعمده أحب إلي من أن أصوم يوما من شعبان أصل به رمضان أتعمده ، وعن الحسن وابن سيرين أنهما كرها صوم يوم الشك . قال الخطيب : وذكر المخالف شبها من القياس ، ولم يختلف من اعتمد الآثار من العلماء أن كل قياس ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يخالفه فهو باطل ، ويحرم العمل به ، وقد قال أبو حنيفة [ ص: 478 ] وهو إمام أهل العراق مع توسعه في القضاء بالقياس : البول في المسجد أحسن من بعض القياس ، وهذا صحيح ، وهو إذا قابل القياس نص يخالفه ، أو كان فاسدا لنقص ، أو معارضة الفرع للأصل ، كقياس المخالف وجوب صوم يوم الشك على من نسي صلاة من صلوات يوم ، فهذا قياس باطل لثبوت النص بخلافه ; ولأن الصلاة لم تجب بالشك ، بل لأنا تيقنا شغل ذمته بكل صلاة ، وشككنا في براءته منها والأصل بقاؤها بخلاف الصوم ولا طريق به إلى الصلاة المنسية إلا بفعل الجميع ، وإنما نظير مسألة يوم الشك أن يشك هل دخل وقت الصلاة أم لا ؟ فلا تلزمه الصلاة بالاتفاق ، بل لو صلى شاكا فيه لم تصح صلاته ، قال المخالف : وقياس آخر وهو القياس على ما إذا غم الهلال في آخر رمضان فإنه يجب صوم ذلك اليوم .

                                      قال الخطيب : ليس بهذا المخالف من الغباوة ما ينتهي إلى هذه المقالة لكنه ألزم نفسه أمرا ألجأه إليها ، وكيف استجاز أن يقول : يوم الشك أحد طرفي الشهر مع أن هذا الوصف لا يلزمه ولا يسلم له ؟ ( فإن قال ) بنيته على أصل ، قيل له : وهو مخالف للنص فيجب اطراحه ، ويقال له : إن قلت : يوم الشك أحد طرفي رمضان فأت بحجة على ذلك وهيهات السبيل إلى ذلك ، ( وإن قلت ) الشك أحد طرفي شعبان ، ( قيل ) أصبت ، ولا يجب صوم شعبان ، ( ثم يقال ) الأصل بقاء شعبان فلا يزول بالشك . قال الخطيب : قال المخالف : ولا يمتنع ترك الأصل للاحتياط كما في مسألة من نسي صلاة من الخمس ، وكما لو شك ماسح الخف في انقضاء مدته فلا يمسح ، ولو شكت المستحاضة في انقطاع الحيض تلزمها الصلاة ، قال الخطيب : أما مسألة الصلاة فسبق جوابها ( وأما ) ماسح الخف فشرط مسحه بقاء المدة فإذا شك فيها رجع إلى الأصل ، وهو غسل الرجلين ( وأما ) المستحاضة فسقطت عنها الصلاة بسبب الحيض ، فإذا شكت فيه رجعت إلى الأصل ، ومقتضى هذا في مسألتنا أن لا يجب صوم يوم الشك ، لأن الأصل بقاء شعبان ، هذا آخر كلام الخطيب رحمه الله تعالى .




                                      الخدمات العلمية