الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز للمعتكف المباشرة بشهوة ; لقوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فإن جامع في الفرج ذاكرا للاعتكاف عالما بالتحريم ، فسد اعتكافه ، لأنه أحد ما ينافي الاعتكاف فأشبه الخروج من المسجد ، وإن باشر فيما دون الفرج بشهوة أو قبل بشهوة ففيه قولان ، قال في الإملاء : يبطل ، وهو الصحيح ; لأنه مباشرة محرمة في الاعتكاف ، فبطل بها كالجماع . وقال في الأم : لا يبطل ; لأنها مباشرة لا تبطل الحج . فلم تبطل الاعتكاف كالمباشرة بغير شهوة ، وقال أبو إسحاق المروزي : لو قال قائل : إنه إن أنزل بطل ، وإن لم ينزل لم يبطل كالقبلة في الصوم كان مذهبا ، وهذا قول لم يذهب إليه أحد من أصحابنا ويخالف الصوم فإن القبلة فيه لا تحرم على الإطلاق فلم يبطل على الإطلاق والقبلة في الاعتكاف محرمة على الإطلاق فأبطلته على الإطلاق ويجوز أن يباشر بغير شهوة ولا يبطل اعتكافه ; لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله } وإن باشر ناسيا لم يبطل اعتكافه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } ولأن كل عبادة أبطلتها مباشرة [ ص: 554 ] العامد لم تبطلها مباشرة الناسي كالصوم ، وإن باشرها وهو جاهل بالتحريم لم يبطل ; لأن الجاهل كالناسي ، وقد بينا ذلك في الصلاة والصوم ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : مباشرة محرمة احتراز من المباشرة بغير شهوة ( وقوله ) مباشرة لا تبطل الحج احتراز من الجماع .

                                      ( أما أحكام الفصل ) فاتفق أصحابنا على أنه يجوز للمعتكف المباشرة بغير شهوة باليد والقبلة على سبيل الشفقة والإكرام ، أو لقدومها من سفر ونحو ذلك ، لحديث عائشة وهو في الصحيحين ، قال الماوردي : لكنه يكره ويحرم عليه الجماع وجميع المباشرات بالشهوة بلا خلاف ، واتفق أصحابنا على ذلك ، ونقل الماوردي وآخرون اتفاق الأصحاب عليه والقاضي أبو الطيب . وأما قول صاحب العدة : فأما المباشرة من القبلة واللمس ونحوهما فهل يحرم ؟ فيه قولان فغلط منه ، والصواب القطع بتحريمها ، وإنما القولان في إفساد الاعتكاف بها ، وكلامه في تفريع ذلك يقتضي أن مراده أن التحريم متفق عليه وإنما الخلاف في الإفساد ، وكأنه وقع منه سبق قلم . وقريب من عبارته عبارة الغزالي في الوسيط ، فإنه قال : في مقدمات الجماع كالقبلة والمعانقة قولان ( أحدهما ) يحرم ويفسد كما في الحج ( والثاني ) لا ، كما في الصوم ، هذا لفظه وفيه إنكاران .

                                      ( أحدهما ) أنه أوهم أن الخلاف جار في التحريم ، والتحريم متفق عليه ، وإنما الخلاف في الإفساد .

                                      ( والثاني ) قوله : ويفسد كما في الحج ، ومعلوم أن الحج لا يفسد بغير الجماع من المباشرات ، والصواب الجزم بالتحريم فلا خلاف فيه ، وإنما ذكرت قول الغزالي وصاحب العدة لبيان الغلط فيهما ، لئلا يغتر بهما ويتوهم في المسألة خلاف في التحريم مع أنه حرام بلا خلاف ، والله أعلم .

                                      فإن جامع المعتكف ذاكرا للاعتكاف عالما بتحريمه ، بطل اعتكافه بإجماع المسلمين سواء كان جماعه في المسجد أو عند خروجه ، لقضاء [ ص: 555 ] الحاجة ونحوه من الأعذار التي يجوز لها الخروج ، وقد سبق وجه شاذ أنه لا يبطل إذا جامع حال خروجه لقضاء الحاجة من غير مكث ، وقد سبق تضعيفه ، فإن جامع ناسيا للاعتكاف أو جاهلا تحريمه لم يبطل على المذهب ، وبه قطع العراقيون وجماعات من الخراسانيين ، وقال أكثر الخراسانيين فيه الخلاف السابق في نظيره في الصوم ، والله - تعالى - أعلم . ونقل المزني عن نص الشافعي في بعض المواضع أن الاعتكاف لا يفسده من الوطء إلا ما يوجب الحد ، قال إمام الحرمين : مقتضى هذا أن لا يفسد بالوطء في الدبر ووطء البهيمة إذ لم نوجب فيهما الحد ، وهذا الذي قاله الإمام عجب فإن المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء سواء المرأة والبهيمة واللواط وغيره ، ولا خلاف في هذا .

                                      ( وأما ) نص الشافعي المذكور فمحمول على أنه لا يفسد بالمباشرة بالذكر فيما دون الفرج لا أنه أراد حقيقة الفرج ، وكلام المزني ثم أصحابنا أجمعين في جميع الطرق مصرح بما ذكرته ، ومن أطرف العجائب قول إمام الحرمين هذا مع علو مرتبته وتفذذه في العلوم مطلقا رحمه الله والله أعلم . أما إذا لمس أو قبل بشهوة أو باشر فيما دون الفرج بذكره متعمدا عالما ، ففيه نصان للشافعي ، وقال إمام الحرمين وغيره : اضطربت النصوص فيه ، وللأصحاب في المسألة طرق ذكر المصنف منها طريقين ( أحدهما ) في فساد الاعتكاف بذلك قولان ( أصحهما ) يفسد ( والثاني ) لا .

                                      ( والطريق الثاني ) إن أنزل فسد وإلا فلا ، وذكر الطبري في العدة طريقا آخر أنه لا يفسد قولا واحدا ، كما لا يفسد الصوم ، قال : وهذا القائل تأول نص الشافعي في الإفساد على أنه أراد بالمباشرة الجماع ، قال : ومن قال بالقولين اختلفوا ( منهم ) من قال : هما إذا أنزل فإن لم ينزل لم يفسد قطعا ( ومنهم ) من قال : قولان سواء أنزل أم لا ، هذا نقل الطبري ، وقال إمام الحرمين : اللائق بالتحقيق القطع بأن المباشرة مع الإنزال يفسد بها الاعتكاف ، وإنما القولان إذا لم يكن إنزال ، قال : وذكر بعض أصحابنا قولين في المباشرة مع الإنزال ، قال : وهذا مشهور في الحكاية ولا اتجاه له أصلا ، ثم قال : وظاهر اعتبار فساد الاعتكاف بفساد الصوم . [ ص: 556 ] وقال المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد ، وصاحب البيان : الصحيح من القولين أنه لا يفسد الاعتكاف ، سواء أنزل أم لا . وقال القاضي أبو الطيب في المجرد : المشهور من مذهبه أنه لا يفسد اعتكافه سواء أنزل أم لا .

                                      ( والثاني ) يفسد أنزل أم لا . قال : ومن أصحابنا من قال : إن لم ينزل لم يبطل ، وإن أنزل فقولان ، قال القاضي : هذا غلط لا يعرف أن الشافعي اعتبر الإنزال في شيء من كتبه . وقال صاحب التتمة : الصحيح أنه إن أنزل بطل اعتكافه كالصوم وإلا فقولان ( أحدهما ) لا يبطل كالصوم ( والثاني ) يبطل ، والفرق أن هذه المباشرة محرمة في الاعتكاف لعينها لحرمة المسجد ، والاعتكاف كالحج ، وليست في الصوم محرمة لعينها بل لخوف الإنزال ، فإذا لم ينزل لم يبطل صومه . وقال البغوي : أصح القولين فساد الاعتكاف ، ثم قيل : هما إذا لم ينزل فإن أنزل فسد ، وقيل : هما إذا أنزل وإلا فلا يفسد ، وقيل : هما في الحالين .

                                      وذكر الدارمي والسرخسي مثله ، لكن لم ينصا على الأصح ، فهذه طرق الأصحاب ومختصرها أن جمهور العراقيين لا يعتبرون الإنزال ، واعتبره أبو إسحاق المروزي والدارمي من العراقيين وجماهير الخراسانيين ، واختلفوا في الأصح من القولين كما تراه . وقال الرافعي : الأصح عند الجمهور أنه إن أنزل بطل اعتكافه وإلا فلا ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا استمنى بيده فإن لم ينزل لم يبطل اعتكافه بلا خلاف ، وإن أنزل قال البغوي والرافعي : إن قلنا : إذا لمس أو قبل فأنزل لا يبطل فهنا أولى ، وإلا فوجهان ، لأن كمال اللذة باصطكاك البشرتين والأصح البطلان ، أما إذا نظر فلا يبطل اعتكافه قطعا كما سبق في الصوم ، وممن صرح به هنا الدارمي . والله - تعالى - أعلم .

                                      ( فرع ) قال البغوي : " كل موضع لزم المعتكف غسل الجنابة ، إما باحتلام ، وإما بجماع ناسيا أو باشر فيما دون الفرج بشهوة وأنزل ، وقلنا : لا يبطل اعتكافه بذلك فمكث في المسجد عصى الله تعالى ، بل يجب عليه الخروج للاغتسال ويحرم المكث مع التمكن [ ص: 557 ] من الخروج ، ولا يحسب زمان الجنابة من الاعتكاف ، وكذلك زمان السكر إذا لم يخرج من المسجد ، لأنهما ممنوعان من المسجد ، وقيل : يحسب لهما ; لأنه ليس فيه إلا أنه عاص كما لو أكل حراما آخر . وقيل : يحسب زمان السكر دون زمان الجنابة ; لأن عصيان الجنب للمكث في المسجد ، وعصيان السكران للشرب ، والمذهب الأول . حتى لو نذر اعتكافا فاعتكفه جنبا لا يحسب له كما لو نذر أن يقرأ القرآن فقرأه جنبا لا يحسب له عن نذره ; لأن النذر للقربة ، وما يفعله ليس بقربة بل معصية . ولو حاضت المعتكفة لزمها الخروج فإن لم تخرج لم يحسب زمان الحيض ، وكذلك إذا ارتد ; لأن المرتد ليس أهلا للعبادة ، هذا آخر كلام البغوي ، وذكر نحوه الرافعي وغيره .

                                      قال أصحابنا : ويلزم الجنب المبادرة بالغسل في الصور المذكورات ; لكي لا يبطل تتابعه ، قالوا : وله الخروج من المسجد للاغتسال ، سواء أمكنه الغسل في المسجد أم لا ; لأنه أصون للمسجد ولمروءته .

                                      ( فرع ) المرأة المعتكفة كالرجل المعتكف في تحريم الجماع والمباشرة بشهوة ، وفي إفساده بهما ، ويفرق بين العالمة الذاكرة المختارة ، والناسية والجاهلة والمكرهة كما سبق ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا جامع المعتكف عن نذر متتابع ذاكرا له عالما بالتحريم فقد ذكرنا أنه يفسد اعتكافه بالإجماع ولا تلزمه الكفارة عندنا ، وبه قال جماهير العلماء قال الماوردي : وهو قول جميع الفقهاء إلا الحسن البصري والزهري فقال : عليه كفارة الواطئ في صوم رمضان ، قال العبدري : " وهو أصح الروايتين عن أحمد " قال ابن المنذر : " أكثر أهل العلم على أنه لا كفارة عليه " وهو قول أهل المدينة والشام والعراق ، وقال الحسن والزهري : عليه ما على الواطئ في صوم رمضان ، وعن الحسن رواية أخرى أنه يعتق رقبة ، فإن عجز أهدى بدنة ، فإن عجز تصدق بعشرين صاعا من تمر . [ ص: 558 ] فرع في مذاهب العلماء في جماع المعتكف ناسيا . قد ذكرنا أنه لا يفسد اعتكافه عندنا ، وبه قال داود . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : " يفسد " دليلنا الحديث الذي ذكره المصنف ، وقد سبق أنه حديث حسن وهو عام على المختار فيحتج بعمومه ، إلا ما خرج بدليل كغرامة المتلفات وغيرها .

                                      فرع في مذاهبهم في المباشرة دون الفرج بشهوة قد سبق الخلاف في مذهبنا . وقال أبو حنيفة وأحمد : إن أنزل بطل اعتكافه وإلا فلا . وقال مالك : يبطل مطلقا . وقال عطاء : لا يبطل مطلقا ، واختاره ابن المنذر ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية