الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن حج واعتمر حجة الإسلام وعمرته ، ثم أراد دخول مكة لحاجة نظرت - فإن كان لقتال ، أو دخلها خائفا من ظالم يطلبه ، ولا يمكنه أن يظهر لأداء النسك - جاز أن يدخل بغير إحرام ، { ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير إحرام } ; لأنه كان لا يأمن أن يقاتل ويمنع النسك وإن كان دخوله لتجارة أو زيارة ففيه قولان : ( أشهرهما ) أنه لا يجوز أن يدخل إلا لحج أو عمرة ، لما روى ، ابن عباس أنه قال : " لا يدخل أحدكم مكة إلا محرما . ورخص للحطابين " .

                                      ( والثاني ) أنه يجوز لحديث الأقرع بن حابس وسراقة بن مالك وإن كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطابين والصيادين جاز بغير نسك لحديث ابن عباس ، ولأن في إيجاب الإحرام على هؤلاء مشقة ، فإن دخل لتجارة وقلنا : إنه يجب عليه الإحرام فدخل بغير إحرام لم يلزمه القضاء ; لأنا لو ألزمناه القضاء لزمه لدخوله للقضاء قضاء ، فلا يتناهى ، قال أبو العباس بن القاص : إن دخل بغير إحرام ثم صار حطابا أو صيادا لزمه القضاء ; لأنه لا يلزمه للقضاء قضاء )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح بغير إحرام صحيح ، فقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام } هذا لفظ إحدى روايات مسلم ، وثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم { دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر } . وأما حكم المسألة فقال أصحابنا : إذا حج واعتمر حجة الإسلام [ ص: 15 ] وعمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر كزيارة أو تجارة أو رسالة ، أو كان مكيا مسافرا فأراد دخولها عائدا من سفره ونحو ذلك ، فهل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) أنه مستحب قولا واحدا ، حكاه القاضي أبو الطيب في المجرد في آخر باب مواقيت الحج ، عن أبي موسى المروزي ، وقطع به سليم الرازي في كتابه الكفاية ، وحكاه أيضا الرافعي وآخرون .

                                      ( وأصحهما ) وأشهرهما فيه قولان : ( أحدهما ) يستحب ولا يجب ( والثاني ) يجب ، ودليل القولين في الكتاب ، واختلفوا في أصحهما فصحح ابن القاص والمسعودي والبغوي وآخرون الوجوب ، وصحح الشيخ أبو حامد وأصحابه والشيخ أبو محمد الجويني والغزالي والأكثرون الاستحباب ، وصححه أيضا الرافعي في المحرر ، قال البندنيجي : وهو نص الشافعي في عامة كتبه ، قال المتولي : وعلى هذا يكره الدخول ، بغير إحرام ، هذا حكم من لا يتكرر دخوله .

                                      ( أما ) من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد والسقا ونحوهم ( فإن قلنا ) فيمن لا يتكرر : لا يلزمه الإحرام فهذا أولى ، وإلا فطريقان : ( المذهب ) أنه لا يلزمه ، وبه قطع كثيرون أو الأكثرون ( والثاني ) فيه وجهان وبعضهم يحكيهما قولين : ( أحدهما ) يلزمه .

                                      ( والثاني ) لا يلزمه ، وممن حكى الخلاف فيه القاضي أبو الطيب في المجرد والمتولي حكياه وجهين ، وحكاه ابن القاص في التلخيص ، والقفال والمحاملي والبندنيجي والدارمي والبغوي وآخرون قولين . ( فإن قلنا ) : يلزمه فقد أطلقه كثيرون ، وممن حكى هذا الخلاف وقيده المحاملي والبندنيجي وآخرون ، بأنه في كل سنة مرة ، قال المحاملي في المجموع : قال الشافعي في عامة كتبه : يدخلها الحطاب ونحوه بغير إحرام ، قال : وقال في بعض كتبه : يحرم في كل سنة مرة ، لئلا يستهين بالحرم . وقال القاضي أبو الطيب : قال أبو علي في الإفصاح : ( إن قلنا ) : غير الحطاب ونحوه لا يلزمه الإحرام ، فالحطاب أولى ، وإلا فقولان ، وظاهر المذهب أنه لا يلزمه ، قال : وقال أبو إسحاق : قال الشافعي في الإملاء : يحرمون كل سنة مرة قال القاضي : وهذا غير مشهور والله أعلم . [ ص: 16 ] وأما ) البريد الذي يتكرر دخوله إلى مكة للرسائل فقطع الدارمي بأنه كالحطاب ونحوه ، وقال القاضي أبو الطيب وصاحبا الشامل والبيان : من أصحابنا من جعله كالحطاب لتكرر دخوله ، ومنهم من قال : إن قلنا : لا يجب على الحطاب ففي البريد وجهان ، فالحاصل أن المذهب أنه لا يجب الإحرام لدخوله مكة على من دخل لتجارة ونحوها مما لا يتكرر ، ولا على من يدخل لمتكرر كالحطاب ولا على البريد ونحوه ، قال أصحابنا : فإن قلنا : يجب فللوجوب شروط .

                                      ( أحدها ) أن يجيء الداخل من خارج الحرم ، فأما أهل الحرم فلا إحرام عليهم بلا خلاف لدخوله ، كما لا يشرع تحية المسجد لمن انتقل من موضع منه إلى موضع منه .

                                      ( والثاني ) ألا يدخلها لقتال ولا خائفا ، فإن دخلها لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أو المباح ، أو خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك إلا بمشقة ومخاطرة ، لم يلزمه الإحرام بلا خلاف .

                                      ( الثالث ) أن يكون حرا ، فإن كان عبدا فلا إحرام عليه إن لم يأذن سيده فيه بلا خلاف ، وكذا إن أذن على المذهب ; لأنه ليس واجبا عليه بأصل الشرع ، فلا يصير واجبا بإذن سيده ، كصلاة الجمعة وكحجة الإسلام ، وفيه وجه ضعيف أنه يجب عليه إذا أذن سيده ; لأن المنع لحقه فزال بإذنه ، والمذهب الأول ، وهو المنصوص ، وبه قطع جماهير الأصحاب ، والله أعلم . قال أصحابنا : وإذا قلنا : بوجوب الإحرام ، واجتمعت شروطه فدخل بغير إحرام فطريقان : ( أصحهما ) وهو المذهب ، وبه قطع الجمهور لا قضاء ; لأن القضاء متعذر ; لأن الدخول الثاني إحرام يقتضي إحراما آخر ، فيتسلسل ولأن الإحرام مشروع لحرمة الحرم ، لئلا ينتهكه بالدخول بغير إحرام . فإذا دخل بغير إحرام فات بحصول الانتهاك كما قال أصحابنا . وهذا كما إذا دخل المسجد فجلس ولم يصل ، التحية ، فإنها تفوت بالجلوس [ ص: 17 ] ولا يشرع قضاؤها ( الطريق الثاني ) فيه وجهان ، وقيل : قولان ( أصحهما ) لا قضاء ( والثاني ) يجب القضاء ، وحكاه المصنف والأصحاب عن ابن القاص ، فعلى هذا يلزمه أن يخرج ثم يعود محرما ، قال الرافعي : علل أصحابنا عدم القضاء بعلتين : ( إحداهما ) أن القضاء لا يمكن ; لأن الدخول الثاني يحتاج إلى قضاء آخر ، فصار كمن نذر صوم الدهر فأفطر ، وفرع ابن القاص في هذه العلة أنه لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين ، ثم صار منهم لزمه القضاء . وربما نقلوا عنه أنه يوجب عليه أن يجعل نفسه منهم .

                                      قال : ( والعلة الثانية ) وهي الصحيحة وبها قال العراقيون والقفال أنه تحية للبقعة ، فلا يقضي كتحية المسجد ، هذا كلام الرافعي . قال أصحابنا : وإذا قلنا : يلزمه الإحرام فتركه وترك القضاء عصى ، ولا دم عليه ; لأن الدم يجبر الخلل الحاصل في النسك بالإحرام داخل الميقات من غير رجوع إليه ونحو ذلك ، وهذا لم يدخل في نسك ، قالوا : وإذا أوجبنا الإحرام لزمه أن يحرم من الميقات ، فلو أحرم بعد مجاوزته فعليه دم لما ذكرناه ، وممن صرح بالصورتين القاضي أبو القاسم بن كج والماوردي والدارمي وآخرون ، والله - تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) إذا أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة فحكمه حكم دخول مكة ففيه التفصيل والخلاف السابق ، وهذا الخلاف صرح به جميع الأصحاب ، ممن صرح به القاضي والماوردي والدارمي والقاضي أبو الطيب في المجرد في باب المواقيت ، والمحاملي في المقنع وغيره ، والجرجاني في كتابيه البلغة والتحرير والشاشي في المستظهري ، والروياني في الحلية ، وخلائق لا يحصون صرحوا به ، وأشار إليه المتولي والباقون . ( وأما ) قول الرافعي : هل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما ذكرناه ؟ قال بعض الشارحين : نعم . قال الرافعي : لا يبعد تخريجه على خلاف في نظائره ، كأنه أراد بنظائره إباحة الصلوات في أوقات النهي ، فإنها تباح بمكة ، وكذا في سائر الحرم على الصحيح ، فهذا الذي قاله [ ص: 18 ] الرافعي عجب من وجهين : ( أحدهما ) كونه نقل المسألة عن بعض الشروح ، وهي مشهورة صريحة في هذه الكتب المشهورة التي ذكرها وغيرها .

                                      ( والثاني ) كونه قال : يحتمل تخريجه على خلاف ، مع أنه لا خلاف فيه ، فالصواب ما سبق أن الحرم كمكة بلا خلاف ، والله - تعالى - أعلم .

                                      ( فرع ) ذكر المصنف وجميع الأصحاب هنا أنه يجوز دخول مكة للقتال بغير إحرام ، قالوا : وصورة ذلك أن يلتجئ إليها طائفة من الكفار أهل الحرب - والعياذ بالله - أو طائفة من البغاة أو قطاع الطريق ونحوهم ، وقطع الأصحاب هنا بجواز قتالهم ، وهو الصواب المشهور ، وذكر القفال في كتاب النكاح من شرح التلخيص ، في كتاب خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم والماوردي في الأحكام السلطانية خلافا في قتالهم في مكة وسائر الحرم ، ووجه التحريم قوله صلى الله عليه وسلم : { إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار } .

                                      ( فرع ) قال المصنف والأصحاب هنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وهو لا يأمن أن يقاتل ( قد يقال : ) إن هذا مخالف لمذهب الشافعي فإن مذهب الشافعي وجميع الأصحاب أن النبي صلى الله عليه وسلم " دخل مكة يوم الفتح صلحا ، وفتحها صلحا " وقال أبو حنيفة وآخرون : " فتحها عنوة " وقد ذكر المصنف المسألة في كتاب السير ، وهناك ذكرها الرافعي والأصحاب .

                                      ( والجواب ) أن هذا لا يخالف ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم صالح أبا سفيان ، وكان لا يأمن غدر أهل مكة ، فدخل صلحا وهو متأهب للقتال إن غدروا ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن أراد دخول الحرم لحاجة لا تتكرر ، كالتجارة والزيارة وعيادة المريض ونحوها قد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يستحب له الإحرام ، ولا يجب ، سواء قربت داره من الحرم أم بعدت ، وبه قال ابن عمر . وقال مالك وأحمد : [ ص: 19 ] يلزمه ، وقال أبو حنيفة : إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة جاز دخوله بلا إحرام ، وإلا فلا .

                                      واحتجوا للوجوب بقول ابن عباس المذكور في الكتاب . واحتج كثيرون بقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار } ودليلنا الأصح حديث : { آلحج كل عام ؟ قال : لا بل حجة } وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريبا ، ولأنه تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد ( وأما ) قول ابن عباس فيعارضه مذهب ابن عمر أنه كان لا يراه واجبا ( وأما ) حديث : { لا تحل لأحد بعدي } " فالمراد به القتال كما سبق ، وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضي الإحرام ، وإنما هو صريح في القتال ، وقد سبق تأويله ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أنه إذا قلنا : يجب الإحرام لدخول الحرم فدخل بغير إحرام عصى ، والمذهب لا يلزمه القضاء . وقال أبو حنيفة : يلزمه ، وقال ابن القاص من أصحابنا : إذا صار حطابا ونحوه لزمه القضاء ، وبالأول قال جمهور أصحابنا ، ومأخذ الخلاف بين الجمهور وابن القاص يقول : إنما يمتنع القضاء للخوف من التسلسل فإذا صار حطابا زال التسلسل . فإن الحطاب لا يلزمه الإحرام للدخول ، وقال الجمهور : العلة الصحيحة في عدم وجوب القضاء أن الإحرام وجب لحرمة الدخول والبقعة ، فإذا لم يأت به فات ولا يشرع قضاؤه ، كتحية المسجد إذا جلس فيه ولم يصلها فإنه لا يشرع له قضاؤها ، كما سبق تقريره في باب صلاة التطوع واتفق أصحابنا هنا على أنه لا يشرع قضاؤها ، والصواب فيها ما قدمناه هنا .

                                      قال القفال في شرح التلخيص : وكما لو سلم على إنسان ، ولم يرد عليه حتى مضت أيام ، ثم لقيه فأراد أن يرد عليه فإنه لا يجزئ ; لأنه مؤقت فات وقته ، قال القاضي أبو الطيب في المجرد : كما لو فر في الزحف من اثنين غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة ، فإنه لا يمكنه قضاؤه ; لأنه متى لقي اثنين ممن يجب قتالهما وجب قتالهما باللقاء لا قضاء ، قال أصحابنا : فعلى [ ص: 20 ] هذا التعليل لو صار حطابا ونحوه لم يلزمه القضاء ، لعدم إمكان تدارك فوات انتهاك الحرمة ( فإن قيل ) : إنما لم نقض تحية المسجد لكونها سنة ، أما الإحرام فواجب فينبغي قضاؤه ، قال الأصحاب : ( فالجواب ) أن التحية لم يترك قضاؤها لكونها سنة ، فإن السنة الراتبة إذا فاتت يستحب قضاؤها على الصحيح ، وإنما لم تقض لتعلقها بحرمة مكان صيانة له من الانتهاك وقد حصل ، فلو صلاها لم يرتفع ما حصل من الانتهاك ، وكذا الإحرام لدخول الحرم واعترض على تعليل ابن القاص فقيل : ينبغي أن يجب القضاء ويدخل فيه إحرام الدخول ، وكما إذا دخل المسجد فصلى فريضة فيدخل فيه تحية المسجد ( والجواب ) ما أجاب به البغوي أن الإحرام الواحد لا يجوز أن يقع عن واجبين من جنس واحد كمن أهل بحجتين لا ينعقد إحرامه بهما بل ينعقد بأحدهما . وقال القفال في شرح التلخيص : قال أصحابنا : هذا التعليل الذي ذكره ابن القاص غلط ، وليس العلة في إسقاط القضاء التسلسل بل فوات الوقت . وقال الشيخ أبو محمد الجويني : اعترض بعض شيوخنا على تعليل ابن القاص فقال : إن كان القضاء واجبا فينبغي أن يجب ، سواء صار حطابا أو لا ، وإلا فيبطل أن يجب بمصيره حطابا والله أعلم ( فرع ) قال ابن القاص في التلخيص : كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة إلا واحدة وهي الإحرام لدخول مكة .

                                      وهذا الذي قاله ينتقض بأشياء : ( منها ) إمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان ، فإنه يجب إمساكه على المذهب الصحيح ، فلو ترك الإمساك لم يلزمه لترك الإمساك كفارة ، ولا قضاء الإمساك والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية