الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويستحب أن يسمي الله تعالى على الوضوء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه كان طهورا لجميع بدنه } " فإن نسي التسمية في أولها وذكرها في أثنائها أتى بها حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله عز وجل ، وإن تركها عمدا أجزأه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لما مر عليه الماء } " ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث الذي ذكره عن أبي هريرة رضي الله عنه هو حديث واحد فرقه فرقتين ، ولهذا قال في الثاني : ومن توضأ بواو العطف وهو حديث ضعيف عند أئمة الحديث ، وقد بين البيهقي وجوه ضعفه ، وصح عن أحمد بن حنبل فيما نقله الترمذي وغيره أنه قال : لا أعلم في التسمية حديثا ثابتا ، والحديث المذكور في الكتاب رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما ، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه } " وكذا رواه الترمذي من رواية سعيد بن زيد ورواه ابن ماجه من رواية سعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري . قال الترمذي : وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وسهل بن سعد وأنس ، وأسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة ، وذكر البيهقي هذه الأحاديث ثم قال : أصح ما في التسمية حديث أنس : " { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 385 ] وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ثم قال توضئوا باسم الله ، قال . فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه والقوم يتوضؤن حتى توضئوا من عند آخرهم وكانوا نحو سبعين رجلا } " ، وإسناده جيد .

                                      واحتج به البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار . وضعف الأحاديث الباقية . وأما قول الحاكم أبي عبد الله في المستدرك على الصحيحين في حديث أبي هريرة : أنه حديث صحيح الإسناد ، فليس بصحيح لأنه انقلب عليه إسناده واشتبه . كذا قاله الحفاظ ويمكن أن يحتج في المسألة بحديث : " { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بذكر الله } " وقد سبق إيضاحه وبيان طرقه في أول الكتاب والله أعلم . ومعنى " كان طهورا لجميع بدنه أو لما مر عليه الماء " أي مطهرا من الذنوب الصغائر .

                                      ( وأما حكم المسألة ) : فالتسمية مستحبة في الوضوء وجميع العبادات وغيرها من الأفعال حتى عند الجماع ، كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحبه ابن الصباغ والشيخ نصر وآخرون ، قال الشيخ نصر : وكذا عند الخروج من بيته ، وعقد البخاري في ذلك بابا في صحيحه فقال : باب التسمية على كل حال وعند الوقاع . واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان } " رواه البخاري ومسلم . واعلم أن أكمل التسمية أن يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن قال باسم الله فقط حصل فضيلة التسمية بلا خلاف ، صرح به الماوردي في كتابيه الحاوي والإقناع ، وإمام الحرمين وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابه الانتخاب ، والغزالي في الوجيز ، والمتولي والروياني والرافعي وغيرهم والله أعلم وأما قول المصنف فإن نسي التسمية في أولها وذكر في أثنائها أتى بها فهكذا نص عليه الشافعي في الأم وبوب لها بابا قال فيه : ( فإن سها عنها سمى متى ذكر إن ذكر قبل أن يكمل الوضوء ) ونقله أبو حامد والماوردي وأبو علي البندنيجي وغيرهم عن نصه في القديم أيضا .

                                      وقول المصنف : ( وذكر في أثنائها ) إشارة إلى ما صرح به الأصحاب أنه لو لم يسم حتى فرغ من [ ص: 386 ] الطهارة لم يسم لفوات محلها ، ممن صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والروياني وغيرهم ، ونص عليه الشافعي كما سبق . وأما قوله : ( فإن نسي التسمية أتى بها ) فهو موافق لنص الشافعي كما سبق ، وكذا عبارة كثيرين وهو يوهم أنه لو ترك التسمية عمدا لم يأت بها في الأثناء ، وليس الحكم كذلك بل من تركها عمدا استحب أن يأتي بها في أثنائها كالناسي ، كذا صرح به المحاملي في المجموع والجرجاني في التحرير وغيرهما ويستحب إذا سمى في أثناء الطهارة أن يقول : باسم الله على أوله وآخره ، كما يستحب ذلك في الطعام للحديث الصحيح فيه والله أعلم .

                                      وأما قوله : ( وذكر في أثنائها ) فالضمير فيه يعود إلى الطهارة ، والأثناء تضاعيف الشيء وخلاله ، وأحدها ثني بكسر الثاء وإسكان النون ذكره الجوهري وغيره .

                                      ( فرع ) المذهب الصحيح الذي قطع به المصنف والأكثرون أن التسمية سنة من سنن الوضوء ، وذكر الخراسانيون في التسمية وغسل الكفين والسواك وجهين : ( أحدهما ) أنها كلها من سنن الوضوء .

                                      ( والثاني ) أنها سنن مستقلة عند الوضوء لا من سننه ، لأنها ليست مختصة به ، قال إمام الحرمين : هذا وهم عندي فإن هذه السنن من الوضوء ولا يمتنع أن يشرع الشيء في مواضع ، وليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه ، فإن السجود ركن في الصلاة ومشروع في غيرها لتلاوة وشكر ، ومن قال غير هذا فهو غالط ، وقال الشيخ أبو حامد : التسمية وغسل الكفين هيئة وليس بسنة ، إنما السنة ما كان من وظائف الوضوء الراتبة معها ، قال الماوردي : هذه مخالفة في العبارة والمعنى واحد .

                                      ( فرع ) قال الشيخ نصر المقدسي في آخر صفة الوضوء من كتابيه التهذيب والانتخاب : يستحب أن يقول في أول وضوئه بعد التسمية ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) وهذا الذي ذكره غريب لا نعلمه لغيره ولا أصل له وإن كان لا بأس به . [ ص: 387 ] فرع ) قد ذكرنا أن التسمية سنة وليست بواجبة ، فلو تركها عمدا صح وضوءه . هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء ، وهو أظهر الروايتين عن أحمد ، وعنه رواية أنها واجبة ، وحكى الترمذي وأصحابنا عن إسحاق بن راهويه أنها واجبة ، إن تركها عمدا بطلت طهارته ، وإن تركها سهوا أو معتقدا أنها غير واجبة لم تبطل طهارته . وقال المحاملي وغيره : وقال أهل الظاهر : هي واجبة بكل حال وعن أبي حنيفة رواية أنها ليست بمستحبة ، وعن مالك رواية أنها بدعة ورواية أنها مباحة لا فضيلة في فعلها ولا تركها . واحتج من أوجبها بحديث : " { لا وضوء لمن لم يسم الله } " ولأنها عبادة يبطلها الحدث فوجب في أولها نطق كالصلاة . واحتج أصحابنا عليهم بقوله تعالى : ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم " { توضأ كما أمرك الله } " وأشباه ذلك من النصوص الواردة في بيان الوضوء وليس فيها إيجاب للتسمية . واحتجوا أيضا بالحديث المذكور في الكتاب وهو ضعيف كما سبق . ولأنها عبادة لا يجب في آخرها ذكر فلا يجب في أولها كالطواف ، وفيه احتراز من الصلاة ، وكذا سجود التلاوة إذا قلنا بالأصح : إنه يشترط السلام فيه . والجواب عن الحديث من أوجه أحسنها أنه ضعيف كما سبق .

                                      ( والثاني ) المراد لا وضوء كامل .

                                      ( والثالث ) جواب ربيعة شيخ مالك والدارمي والقاضي حسين وجماعة آخرين حكاه عنهم الخطابي : المراد بالذكر النية . والجواب عن قياسهم من وجهين ( أحدهما ) أنه منتقض بالطواف .

                                      ( والثاني ) نقلبه عليهم فنقول : عبادة يبطلها الحدث فلم تجب التسمية في أولها كالصلاة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية