الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 408 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى ( فإن كان ملتحيا نظرت فإن كانت لحيته خفيفة لا تستر البشرة . وجب غسل الشعر والبشرة للآية ، وإن كانت كثيفة تستر البشرة وجب إفاضة الماء على الشعر ، لأن المواجهة تقع به ولا يجب غسل ما تحته لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : { توضأ فغرف غرفة وغسل بها وجهه } وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر مع كثافة اللحية ، ولأنه باطن دونه حائل معتاد فهو كداخل الفم والأنف ، والمستحب أن يخلل لحيته لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم : { كان يخلل لحيته } فإن كان بعضها خفيفا وبعضها كثيفا غسل ما تحت الخفيف وأفاض الماء على الكثيف ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في هذه القطعة مسائل : ( إحداها ) حديث ابن عباس رواه البخاري في صحيحه وقوله : وبغرفة واحدة لا يصل الماء مع كثافة اللحية ، معناه أن لحيته الكريمة كانت كثيفة ، وهذا صحيح معروف ، وأما قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخلل لحيته } فصحيح رواه الترمذي من رواية عثمان بن عفان رضي الله عنه وقال : حسن صحيح ، وفي تخليل اللحية أحاديث كثيرة . وينكر على المصنف قوله : روي بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح .

                                      ( الثانية ) اللحية بكسر اللام وجمعها لحى بضم اللام وكسرها وهو أفصح وهي الشعر النابت على الذقن ، قاله المتولي والغزالي في البسيط وغيرهما ، وهو ظاهر معروف ، لكن يحتاج إلى بيانه بسبب الكلام في العارضين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى - : ، وقد سبق أن البشرة ظاهر الجلد ، والكثة والكثيفة بمعنى ، وقوله لأنه باطن ، احتراز من اليد والرجل ، وقوله : دونه حائل ، احتراز من الثقب في موضع الطهارة فإنه يجب غسل داخله ، وقوله : " معتاد " احتراز من اللحية الكثة لامرأة .

                                      ( الثالثة ) اللحية الكثيفة يجب غسل ظاهرها بلا خلاف ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة تحته ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي - رحمه الله وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق كلها وهو مذهب [ ص: 409 ] مالك وأبي حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم . وحكى الرافعي قولا ووجها أنه يجب غسل البشرة وهو مذهب المزني وأبي ثور ، قال الشيخ أبو حامد : غلط بعض الأصحاب فظن المزني ذكر هذا عن مذهب الشافعي - رحمه الله - قال : وليس كذلك ، وإنما حكى مذهب نفسه وانفرد هو وأبو ثور في هذه المسألة ، ولم يتقدمهما فيها أحد من السلف .

                                      ( قلت ) قد نقله الخطابي عن إسحاق بن راهويه أيضا وهو أكبر منهما ، واحتج لهم بحديث أنس المذكور في الفرع الثالث بعد هذه المسألة ، وقوله : { فخلل لحيته وقال : هكذا أمرني ربي } وبالقياس على غسل الجنابة وعلى الشارب والحاجب . واحتج الأصحاب بما ذكره المصنف من حديث ابن عباس والقياس وأجابوا عن غسل الجنابة بأنها أغلظ ولهذا وجب غسل كل البدن ولم يجز مسح الخف بخلاف الوضوء ، ولأن الوضوء يتكرر فيشق غسل البشرة فيه مع الكثافة بخلاف الجنابة ، وأما الشارب والحاجب فكثافته نادرة ولا يشق إيصال الماء إليه بخلاف اللحية . وإن كانت اللحية خفيفة وجب غسل ظاهرها وباطنها والبشرة تحتها بلا خلاف عندنا ، وإن كان بعضها خفيفا وبعضها كثيفا فلكل بعض منهما حكمه لو كان متمخضا فللكثيف حكم اللحية الكثيفة وللخفيف حكم اللحية الخفيفة ، هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الأصحاب في الطرق . وقال الماوردي : إن كان الكثيف متفرقا بين الخفيف لا يمتاز ولا ينفرد عنه وجب إيصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة ، وحكى الشافعي وجها أن للجميع حكم الخفيف مطلقا ، وحكى الإمام أبو سهل الصعلوكي نصا عن الشافعي رحمه الله أن من كان جانبا لحيته خفيفين وبينهما كثيف وجب غسل البشرة كلها كالحاجب ، وهذا نص غريب جدا وقد ذكرته في طبقات الفقهاء في ترجمة عمر القصاب والله أعلم .

                                      ( فرع ) في ضبط اللحية الكثيفة والخفيفة أوجه ( أحدها ) ما عده [ ص: 410 ] الناس خفيفا فخفيف ، وما عدوه كثيفا فهو كثيف . ذكره القاضي حسين في تعليقه وهو غريب .

                                      ( والثاني ) ما وصل الماء إلى ما تحته بلا مشقة فهو خفيف . وما لا فكثيف ، حكاه الخراسانيون .

                                      ( والثالث ) وهو الصحيح وبه قطع العراقيون والبغوي وآخرون وصححه الباقون وهو ظاهر نص الشافعي أن ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس التخاطب فهو كثيف وما لا فخفيف .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجب غسل اللحية الخفيفة والبشرة تحتها ، وبه قال مالك وأحمد وداود ، قال بعض أصحابنا : وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يجب غسل ما تحتها كداخل الفم ، وكما سوينا بين الخفيف والكثيف في الجنابة وأوجبنا غسل ما تحتهما فكذا نسوي بينهما في الوضوء فلا نوجبه ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى - : { فاغسلوا وجوهكم } وهذه البشرة من الوجه ويقع بها المواجهة ، ولأنه موضع ظاهر من الوجه فأشبه الخد ، ويخالف الكثيف فإنه يشق إيصال الماء إليه بخلاف هذا . والجواب عن داخل الفم أنه يحول دونه حائل أصلي فأسقط فرض الوضوء ، واللحية طارئة والطارئ إذا لم يستر الجميع لم يسقط الفرض كالخف المخرق ، والجواب عن غسل الجنابة أن المعتبر في الموضعين المشقة وعدمها ، فلما كانت الجنابة قليلة أوجبنا ما تحت الشعور كلها بعدم المشقة فكذا ما تحت الخفيف في الوضوء بخلاف الكثيف والله أعلم .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن التخليل سنة ، ولم يذكر الجمهور كيفيته ، وقال السرخسي : يخللها بأصابعه من أسفلها قال : ولو أخذ للتخليل ماء آخر كان أحسن ، ويستدل لما ذكره من الكيفية بحديث أنس رضي الله عنه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل بها لحيته وقال : هكذا أمرني ربي } رواه أبو داود ولم يضعفه وإسناده حسن أو صحيح والله أعلم




                                      الخدمات العلمية