الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وإن وطئ في العمرة أو في الحج قبل التحلل الأول فقد فسد نسكه [ ص: 396 ] ويجب عليه أن يمضي في فاسده ثم يقضي لما روى عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم " أنهم أوجبوا ذلك " وهل يجب القضاء على الفور ؟ أم لا ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) أنه على الفور وهو ظاهر النص لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهم قالوا : " يقضي من قابل " ، ( والثاني ) أنه على التراخي لأن الأداء على التراخي فكذلك القضاء وهذا لا يصح ; لأن القضاء بدل عما أفسده [ من الأداء ] ، والأداء وجب على الفور فوجب أن يكون القضاء مثله ويجب الإحرام في القضاء من حيث أحرم في الأداء ، لأنه قد تعين ذلك بالدخول فيه ، فإذا أفسده وجب قضاؤه كحج التطوع ، فإن سلك طريقا آخر لزمه أن يحرم من مقدار مسافة الإحرام في الأداء ، وإن كان قارنا فقضاه بالإفراد جاز ، لأن الإفراد أفضل من القران ولا يسقط عنه دم القران ، لأن ذلك دم وجب عليه فلا يسقط عنه بالإفساد كدم الطيب . وفي نفقة المرأة في القضاء وجهان : ( أحدهما ) في مالها كنفقة الأداء ، ( والثاني ) تجب على الزوج ، لأنها غرامة تتعلق بالوطء ، فكانت على الزوج كالكفارة ، وفي ثمن الماء الذي تغتسل به وجهان : ( أحدهما ) يجب على الزوج لما ذكرناه ، ( والثاني ) يجب عليها لأن الغسل يجب للصلاة ، فكان ثمن الماء عليها ، وهل يجب عليهما أن يفترقا في موضع الوطء ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) يجب ، لما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا : " يفترقان " ولأن اجتماعهما في ذلك المكان يدعو إلى الوطء فمنع منه ، ( والثاني ) لا يجب وهو ظاهر النص كما لا يجب في سائر الطرق ، ويجب عليه بدنة ، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " على كل واحد منهما بدنة . فإن لم يجد فعليه بقرة ، لأن البقرة كالبدنة لأنها تجزئ في الأضحية عن سبعة فإن لم يجد لزمه سبع من الغنم فإن لم يجد قوم البدنة دراهم والدراهم طعاما وتصدق به فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوما " وقال أبو إسحاق : فيه قول آخر أنه يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة قياسا على فدية الأذى ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الوجه أن أقدم الآثار الواردة في الفصل عن يزيد بن نعيم الأسلمي التابعي { أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما : اقضيا نسككما واهديا [ ص: 397 ] هديا ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى ، فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وأتما نسككما واهديا } رواه البيهقي ، وقال : هذا منقطع وفي الموطأ قال مالك : " إنه بلغني أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة رضي الله عنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا ينفذان لوجهها حتى يقضيا حجهما ثم عليهما الحج من قابل والهدي وقال علي : فإذا أهلا بالحج من قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما " وهذا أيضا منقطع وعن عطاء أن عمر بن الخطاب قال في محرم أصاب امرأته يعني وهي محرمة فقال : " يقضيان حجهما وعليهما الحج من قابل " رواه البيهقي وهو أيضا منقطع ، فإن عطاء لم يدرك عمر وإنما ولد عطاء في آخر خلافة عثمان وعن ابن عباس " أنه سئل عن رجل وقع على أهله وهي بمنى قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنة " رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح .

                                      وعن ابن عباس أيضا في رجل وقع على امرأته وهو محرم قال اقضيا نسككما وارجعا إلى بلدكما ، فإذا كان عام قابل فاخرجا حاجين ، فإذا أحرمتما فتفرقا ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما واهديا هديا " رواه البيهقي بإسناد صحيح ، وفي رواية . " ثم أهلا من حيث أهللتما أول مرة " وعن عمرو بن شعيب عن أبيه أن رجلا أتى عبد الله بن عمرو وأنا معه يسأله عن محرم وقع بامرأته فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال : اذهب إلى ذلك فسله ، قال شعيب : فلم يعزم الرجل فذهبت معه فسأل ابن عمر فقال : بطل حجك ، فقال الرجل : فما أصنع ؟ قال : اخرج مع الناس ، واصنع ما يصنعون فإذا أدركت قابل فحج واهد ، فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه فأخبره فقال : اذهب إلى ابن عباس فسله قال شعيب : فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله فقال له كما قال ابن عمر ، فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه فأخبره بما قال ابن عباس ، ثم قال : ما تقول أنت ؟ فقال : قولي مثل ما قالا " [ ص: 398 ] رواه البيهقي بإسناد صحيح . ثم قال البيهقي هذا إسناد صحيح ، قال : وفيه دليل على صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص من جده عبد الله بن عمرو .

                                      وعن عكرمة " أن رجلا قال لابن عباس : أصبت أهلي ، فقال ابن عباس : أما حجكما هذا فقد بطل فحجا عاما قابلا ، ثم أهلا من حيث أهللتما ، وحيث وقعت عليها ففارقها فلا تراك ولا تراها حتى ترميا الجمرة واهد ناقة ولتهد ناقة " رواه البيهقي وعن ابن عباس : إذا جامع فعلى كل واحد منهما بدنة " رواه ابن خزيمة والبيهقي بإسناد صحيح ، وعنه : " يجزئ عنهما جزور " رواه ابن خزيمة والبيهقي بإسناد صحيح وعنه قال : " إن كانت أعانتك فعلى كل واحد منكما بدنة حسناء جملاء ، وإن كانت لم تعنك فعليك ناقة حسناء جملاء " رواه ابن خزيمة بإسناد صحيح .

                                      ( وأما ) ألفاظ الفصل فقوله : ( غرامة ) تتعلق بالوطء ، احتراز من نفقتها في حجة الأداء ، والمراد بقوله : ( إن نفقة الأداء في مال المرأة الزائد على نفقة الحضر ) هذا إذا سافرت معه كما سنوضحه قريبا إن شاء الله - تعالى - .

                                      أما الأحكام فقال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - : إذا وطئ المحرم بالحج في الفرج عامدا عالما بتحريمه ، وبالإحرام قبل التحلل الأول فسد حجه ، سواء كان قبل الوقوف بعرفات أو بعده وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل التحلل منها وليس لها إلا تحلل واحد بخلاف الحج فإن له تحللين كما هو مقرر في باب صفة الحج ( فإن قلنا ) : الحلق نسك فهو مما يقف التحلل عليه وإلا فلا . قال الشافعي والأصحاب : ويلزم من أفسد حجا أو عمرة أن يمضي في فاسدهما وهو أن يتم ما كان يعمله لولا الإفساد . ونقل أصحابنا اتفاق العلماء على هذا ، وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري فإنه قال : يخرج منه بالإفساد . [ ص: 399 ] واستدل أصحابنا بقوله - تعالى - : { وأتموا الحج والعمرة لله } ولم يفرق بين صحيح وفاسد ، وبالآثار السابقة قال أصحابنا : وهذا الذي ذكرناه من وجوب المضي في فاسد الحج والعمرة وأنه لا يخرج منهما بالإفساد مختص بهما دون سائر العبادات ، ( وأما ) باقي العبادات فيخرج منها بالإفساد ولا يبقى لها حرمة بعده إلا الصوم فإنه يخرج منه بالفساد لكنه يبقى له حرمة فيجب إمساك بقية النهار لحرمة الزمان وقد سبق بيان هذه القاعدة في أوائل كتاب الصوم في مسألة صوم الشك إذا ثبت في أثناء النهار كونه من رمضان . ( فرع ) يجب على مفسد الحج بدنة بلا خلاف ، وفي مفسد العمرة طريقان : ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور يجب عليه بدنة كمفسد الحج ، ( والثاني ) فيه وجهان : ( أصحهما ) بدنة ، ( والثاني ) شاة ممن حكاه الرافعي .

                                      ( فرع ) يجب على مفسد الحج أو العمرة القضاء بلا خلاف ، سواء كان الحج أو العمرة فرضا أو نفلا ; لأن النفل منهما يصير فرضا بالشروع فيه ، بخلاف باقي العبادات ، ويقع القضاء عن المفسد ، فإن كان فرضا وقع عنه ، وإن كان نفلا فعنه ، ولو أحرم بالقضاء فأفسده بالجماع لزمه الكفارة ، ولزمه قضاء واحد حتى لو أحرم بالقضاء مائة مرة ففسد كل مرة منهن ، يلزمه قضاء واحد ويقع عن الأول قال أصحابنا : ويتصور القضاء في عام الإفساد ، بأن يحصر بعد الإفساد ويتعذر عليه المضي في الفاسد فيتحلل ثم يزول الحصر ، والوقت باق فيحرم بالقضاء ويفعله ويجزئه في سنته ، قالوا : ولا يتصور القضاء في سنة الإفساد إلا في هذه الصورة




                                      الخدمات العلمية