الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 51 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( والمستحب أن يدنو من البيت لأنه هو المقصود فكان القرب منه أفضل فإذا بلغ الركن اليماني فالمستحب أن يستلمه ، لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يستلم الركن اليماني والأسود ولا يستلم الآخرين } ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم عليه السلام فيسن فيه الاستلام كالركن الأسود . ويستحب أن يستلم الركنين في كل طوفة لما روى ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركنين في كل طوفة } ويستحب كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر ويقبله ; لأنه مشروع في محل فتكرر بتكرره كالاستلام . ويستحب إذا استلم أن يقبل يده ، لما روى نافع قال { رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده وقبل يده وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله } ويستحب أن يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود ، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال { عند الركن اليماني ملك قائم يقول آمين آمين . فإذا مررتم به فقولوا : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة . وقنا عذاب النار } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) جميع الأحكام التي في هذه القطعة سبق بيانها واضحة في القطعة التي قبلها ، إلا مسألة الدنو منالبيت ، وسأذكرها إن شاء الله تعالى مبسوطة مع مسألة الدعاء بين الركنين ، وسبق بيان حديثي ابن عمر الأول والثالث . وأما الثاني فحديث صحيح رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ، ورواه النسائي بإسناد على شرط البخاري ومسلم جميعا ، ولفظهما عن ابن عمر قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة . قال نافع وكان ابن عمر يفعله } . وأما الأثر المذكور من ابن عباس فغريب ، لكن يغني عنه أجود منه وهو حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال " { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } } رواه أبو داود والنسائي بإسناد فيه رجلان [ ص: 52 ] لم يتكلم العلماء فيهما بجرح ولا تعديل ، ولم يضعفه أبو داود ، فيقتضي أنه حديث حسن عنده كما سبق بيانه مرات ، وقول المصنف " الركن اليماني " هو بتخفيف الياء ، وكذا الركنان اليمانيان - بتخفيف الياء - قال الجمهور : لا يجوز تشديدها لأنها نسبة إلى اليمن ، فجعلت الألف عوضا من إحدى ياءي النسب ، فلا يجوز الجمع بين العوض والمعوض . وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما تشديدها في لغة قليلة ، وتكون الألف زائدة ، كما زيدت الألف والنون في رقباني منسوب إلى الرقبة ونظائره . قوله " ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم " احتراز من الركنين الشاميين .

                                      وأما قول المصنف " يستحب إذا استلم أن يقبل يده " فكلام ناقص ، لأن المستحب أن يستلم ويقبل ، فإذا قبله لا يستحب أن يقبل اليد بعد ذلك ، فإن تعذر التقبيل استلم ثم قبل يده كما سبق بيانه ، هكذا قاله الأصحاب وهو مراد المصنف ، لكن عبارته ناقصة .

                                      ( أما الأحكام ) فقد ذكرنا أنها سبقت واضحة إلا مسألتي الدنو من البيت ، والدعاء بين الركنين ( فأما ) الدعاء بين الركنين ، وهما الأسود واليماني ، فاتفق الشافعي والأصحاب على استحبابه وبأي شيء حصل الاستحباب ، وأفضله ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ; للحديث السابق ; ولحديث أنس { أن هذا كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم } رواه البخاري ومسلم . وأما الدنو من البيت فمتفق على استحبابه أيضا لما ذكره المصنف .

                                      وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه : الدنو مستحب لثلاثة معان ( أحدها ) أن البيت أشرف البقاع ، فالدنو منه أفضل ( والثاني ) أنه أيسر في استلام الركنين وتقبيل الحجر ( والثالث ) أن القرب من البيت في الصلاة أفضل من البعد . فكذا في الطواف .

                                      [ ص: 53 ] قال أصحابنا : وهذا بشرط أن لا يؤذي ولا يتأذى بالزحمة ، فإن تأذى أو آذى بالقرب للزحمة فالبعد إلى حيث يزول التأذي والأذى أولى ، هكذا أطلقوه . وقال البندنيجي : قال الشافعي في الأم : أحب الاستلام ما لم يؤذ غيره بالزحام ، أو يؤذه غيره ، إلا في ابتداء الطواف فاستحب له الاستلام ، وإن كان في الزحام أو في آخر الطواف . قال أصحابنا : والقرب مستحب ، ولا ينظر إلى كثرة الخطى في البعد ; لأن المقصود إكرام البيت . قال أصحابنا : وهذا الذي ذكرناه من استحباب القرب هو في حق الرجل ، أما المرأة فيستحب لها أن لا تدنو في حال طواف الرجال ، بل تكون في حاشية المطاف بحيث لا تخالط الرجال ، ويستحب لها أن تطوف في الليل فإنه أصون لها ولغيرها من الملامسة والفتنة ، فإن كان المطاف خاليا من الرجال استحب لها القرب كالرجل .

                                      قال أصحابنا : فإن تعذر على الرجل القرب من الكعبة مع الرمل للزحمة ، فإن رجا فرجة استحب أن ينتظرها ليرمل ، إن لم يؤذ بوقوفه أحدا ، وإن لم يرجها فالمحافظة على الرمل مع البعد عن البيت أفضل من القرب بلا رمل . هكذا قاله أصحابنا واتفقوا عليه ، قالوا : لأن الرمل شعار مستقل ، ولأن الرمل فضيلة تتعلق بنفس العبادة ، والقرب فضيلة تتعلق بموضوع العبادة . قالوا : والمتعلق بنفس العبادة أفضل وأولى بالمحافظة . قالوا : ولهذا كانت الصلاة بالجماعة في البيت أفضل من الانفراد في المسجد . والله أعلم .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أنه يستحب القرب من الكعبة بلا خلاف . واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يجوز التباعد ما دام في المسجد ، وأجمع المسلمون على هذا ، وأجمعوا على أنه لو طاف خارج المسجد لم يصح . قال أصحابنا : شرط الطواف وقوعه في المسجد الحرام ، ولا بأس بالحائل فيه بين الطائف والبيت كالسقاية والسواري وغيرها . [ ص: 54 ] قالوا : ويجوز الطواف في أخريات المسجد وأروقته وعند باب المسجد من داخله . قالوا : ويجوز على سطوح المسجد إذا كان البيت أرفع بناء من المسجد كما هو اليوم .

                                      قال الرافعي : فإن جعل سقف المسجد أعلى من سطح الكعبة فقد ذكر صاحب العدة أنه لا يجوز الطواف على سطح المسجد ، وأنكره عليه الرافعي وقال : لو صح قوله لزم منه أن يقال : لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - لم يصح الطواف حول عرصتها ، وهو بعيد ، وهذا الذي قاله الرافعي هو الصواب ، وقد جزم القاضي حسين في تعليقه بأنه لو طاف على سطح المسجد صح ، وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة قال : كما يجوز أن يصلي على أبي قبيس مع ارتفاعه على الكعبة . والله أعلم .

                                      واتفق أصحابنا على أنه لو وسع المسجد اتسع المطاف وصح الطواف في جميعه وهو اليوم أوسع مما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بزيادات كثيرة زيدت فيه ، فأول من زاده عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى دورا فزادها فيه ، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة ، وكان عمر أول من اتخذ له الجدار ، ثم وسعه عثمان واتخذ له الأروقة ، وهو أول من اتخذها ، ثم وسعه عبد الله بن الزبير في خلافته ، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك ، ثم المنصور ، ثم المهدي ، وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا ، وقد أوضحت هذا مع نفائس تتعلق بالمسجد الحرام والكعبة في كتاب المناسك ، والله أعلم




                                      الخدمات العلمية