الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن أحصره العدو عن الوقوف أو الطواف أو السعي فإن كان له طريق آخر يمكنه الوصول منه إلى مكة لم يجز له التحلل قرب أو بعد ، لأنه قادر على أداء النسك ، فلا يجوز له التحلل ، بل يمضي ويتمم النسك ، وإن سلك الطريق الآخر ففاته الحج تحلل بعمل عمرة ، وفي القضاء قولان : ( أحدهما ) يجب عليه . لأنه فاته الحج فأشبه إذا أخطأ الطريق أو أخطأ العدد .

                                      [ ص: 290 ] والثاني ) لا يجب عليه لأنه تحلل من غير تفريط فلم يلزمه القضاء ، كما لو تحلل بالإحصار ، فإن أحصر ولم يكن له طريق آخر جاز له أن يتحلل لقوله عز وجل { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون في الحديبية فتحلل ، ولأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام ربما طال الحصر سنين فتلحقه المشقة العظيمة في البقاء على الإحرام . وقد قال الله عز وجل { وما جعل عليكم في الدين من حرج } . فإن كان الوقت واسعا فالأفضل أن لا يتحلل ، لأنه ربما زال الحصر وأتم النسك . وإن كان الوقت ضيقا فالأفضل أن يتحلل حتى لا يفوته الحج ، فإن اختار التحلل - نظرت فإن كان واجدا للهدي - لم يجز له أن يتحلل حتى يهدي ، لقوله تعالى { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فإن كان في الحرم ذبح الهدي فيه ، وإن كان في غير الحرم ولم يقدر على الوصول إلى الحرم ذبح الهدي حيث أحصر ، { لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية } ، وهي خارج الحرم ، وإن قدر على الوصول إلى الحرم ففيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) يجوز له أن يذبح في موضعه ، لأنه موضع تحلله فجاز فيه الذبح كما لو أحصر في الحرم .

                                      ( والثاني ) لا يجوز أن يذبح إلا في الحرم لأنه قادر على الذبح في الحرم فلا يجوز أن يذبح في غيره كما لو أحصر فيه ، ويجب أن ينوي بالهدي التحلل لأن الهدي قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره ، فوجب أن ينوي ليميز بينهما ثم يحلق لما روى ابن عمر رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية } ( فإن قلنا ) إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق ( وإن قلنا ) إنه ليس بنسك حصل له التحلل بالنية والهدي ، وإن كان عادما للهدي ففيه قولان . ( أحدهما ) لا بدل للهدي ، لقوله عز وجل { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فذكر الهدي ولم يذكر له بدلا ، ولو كان له بدل لذكره كما ذكره في جزاء الصيد .

                                      ( والقول الثاني ) له بدل لأنه دم يتعلق وجوبه بإحرام ، فكان له بدل كدم التمتع ( فإن قلنا ) لا بدل للهدي فهل يتحلل ؟ فيه قولان ( أحدهما ) لا يتحلل حتى يجد الهدي ، لأن الهدي شرط في التحلل ، فلا يجوز التحلل قبله ( والثاني ) [ ص: 291 ] أنه يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام إلى أن يجد الهدي أدى ذلك إلى المشقة .

                                      ( فإن قلنا ) له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال ( أحدها ) الإطعام ( والثاني ) الصيام ( والثالث ) أنه مخير بين الصيام والإطعام ( وإن قلنا ) إن بدله الإطعام ففي الإطعام وجهان ( أحدهما ) إطعام التعديل ، كالإطعام في جزاء الصيد ، لأنه أقرب إلى الهدي ولأنه يستوفى فيه قيمة الهدي ( والثاني ) إطعام فدية الأذى ، لأنه وجب للترفه فهو كفدية الأذى ( وإن قلنا ) إن بدله الصوم ففي الصوم ثلاثة أوجه ( أحدها ) صوم التمتع لأنه وجب للتحلل كما وجب صوم التمتع للتحلل بين الحج والعمرة في أشهر الحج ( والثاني ) صوم التعديل لأن ذلك أقرب إلى الهدي ، لأنه يستوفي قيمة الهدي ثم يصوم عن كل مد يوما ( والثالث ) صوم فدية الأذى ، لأنه وجب للترفه فهو كصوم فدية الأذى . فإن قلنا : إنه مخير فهو بالخيار بين صوم فدية الأذى وبين إطعامها ، لأنا بينا أنه في معنى فدية الأذى ، فإن أوجبنا عليه الإطعام وهو واجد أطعم وتحلل ، وإن كان عادما له فهل يتحلل أم لا يتحلل حتى يجد الطعام ؟ على القولين كما قلنا في الهدي . وإن أوجبنا الصيام فهل يتحلل قبل أن يصوم ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) يتحلل كما لا يتحلل بالهدي حتى يهدي ( والثاني ) يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على الإحرام إلى أن يفرغ من الصيام أدى إلى المشقة لأن الصوم يطول ، فإذا تحلل - نظرت فإن كان في حج تقدم وجوبه - بقي الوجوب في ذمته ، وإن كان في تطوع لم يجب القضاء لأنه تطوع أبيح له الخروج منه ، فإذا خرج لم يلزمه القضاء كصوم التطوع . وإن كان الحصر خاصا بأن منعه غريمه ففيه قولان ( أحدهما ) لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في الحصر العام ( والثاني ) يلزمه لأنه تحلل قبل الإتمام بسبب يختص به فلزمه القضاء كما لو ضل الطريق ففاته الحج ، وإن أحصر فلم يتحلل حتى فاته الوقوف - نظرت فإن زال العذر وقدر على الوصول - تحلل بعمل عمرة ولزمه القضاء وهدى للفوات ، وإن فاته - والعذر لم يزل - تحلل ولزمه القضاء ، وهدى للفوات ، وهدى للإحصار ، فإن أفسد الحج ثم أحصر تحلل ، لأنه إذا تحلل من الحج الصحيح فلأن يتحلل من الفاسد أولى ، فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف لزمه ثلاثة دماء ، دم الفساد ودم الفوات ودم الإحصار ، ويلزمه قضاء واحد لأن الحج واحد )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث تحلل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صده المشركون [ ص: 292 ] ثابت في الصحيحين ، وكذا حديث نحره هديه بالحديبية ، وحديث ابن عمر كلها ثابتة في الصحيحين من روايات جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وكانت قصة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، وسبق بيان الحديبية في باب المواقيت ، وأنها تقال بتخفيف الياء وتشديدها والتخفيف أفصح . وقول المصنف " لأنه دم تعلق وجوبه بالإحرام " فيه احتراز من الأضحية والعقيقة وقوله " تطوع أبيح الخروج منه " احتراز من حج التطوع إذا تحلل منه بالفوات فإنه يجب قضاؤه . وقوله " بسبب يختص به " احتراز من الحصر العام . وقوله في أول الفصل ، فأشبه إذا أخطأ الطريق أو أخطأ العدد ، وهو وحده أو في طائفة يسيرة . فأما الجمع الكثير فلا يلزمهم القضاء بالخطأ كما سبق بيانه قريبا .

                                      ( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : لا فرق في جواز التحلل بالإحصار بين أن يكون قبل الوقوف أو بعده ، ولا بين الإحصار عن البيت فقط أو الموقف فقط أو عنهما أو عن المسعى ، فيجوز التحلل في جميع ذلك بلا خلاف . فإن لم يكن له طريق آخر يمكنه سلوكه ، فإن كان ففيه تفصيل سبق بيانه قبل هذا الفصل واضحا ، وذكرنا هناك أيضا أن تعجيل التحلل أفضل أم تأخيره على نحو ما ذكره المصنف . قال أصحابنا : وإذا كان حصره قبل الوقوف وأقام على إحرامه حتى فاته الحج فإن أمكنه التحلل بطواف وسعي مع الحلق إذا جعلناه نسكا لزمه وعليه القضاء ودم الفوات ، وإن لم يزل الحصر تحلل بالهدي وعليه مع القضاء هديان هدي للفوات وهدي للتحلل بالإحصار ، وقد سبقت هذه المسألة قريبا . وإن كان الإحصار بعد الوقوف فإن تحلل فذاك ، وهل له البناء على ما مضى إذا زال الإحصار بعد ذلك ؟ فيه القولان السابقان ( الجديد ) [ ص: 293 ] الأصح لا يجوز ( والقديم ) الجواز ، وعلى هذا يحرم إحراما ناقصا ويأتي ببقية الأعمال ، وعلى هذا لو بنى مع الإمكان وجب القضاء على المذهب .

                                      وقيل فيه وجهان ، وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت فهو فيما يرجع إلى وجوب الدم لفواتهما كغير المحصر ، وبماذا يتحلل ؟ يبنى على أن الحلق نسك أم لا ، وعلى فوات زمان الرمي كالرمي أم لا ؟ فيهما خلاف سبق .

                                      ( فإن قلنا ) فوات زمان الرمي كالرمي وقلنا : الحلق نسك حلق وحصل التحلل الأول ( وإن قلنا ) ليس بنسك حصل التحلل الأول بمضي زمان الرمي . وعلى التقديرين فالطواف باق عليه ، فمتى أمكنه طاف فيتم حجه ، ولا بد من السعي إن لم يكن سعى . ثم إذا تحلل بالإحصار الواقع بعد الوقوف ( فالمذهب ) أنه لا قضاء عليه ، وبه قطع العراقيون وآخرون من غيرهم ، لكن لا تجزئه حجته ، لأنه لم يكملها . وحكى صاحب التقريب وإمام الحرمين ومتابعوهما من الخراسانيين في وجوب القضاء قولين ، وطردوهما في كل صورة أتى فيها بعد الإحرام بنسك لتأكدها الإحرام بذلك النسك . ولو صد عن عرفات ولم يصد عن مكة ، قال البندنيجي والروياني : نص عليها في الأم لزمه دخول مكة ويتحلل بعمل عمرة ، وفي وجوب القضاء قولان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد والأصحاب ( أصحهما ) لا قضاء لأنه محصر ( والثاني ) يجب القضاء لأنه أخل بالوقوف وحده فأشبه الفوات ، وهذا القائل بفوات المحصر هو المصدود عن الكعبة ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية