الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يغسل رجليه وهو فرض لما روى جابر رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأنا أن نغسل أرجلنا } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث رواه الدارقطني بإسناد ضعيف . ويغني عنه ما سنذكره من الأحاديث وغيرها إن شاء الله تعالى - : ، وراوي هذا الحديث هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي بفتح السين واللام المدني أبو عبد الله وقيل : أبو عبد الرحمن ، وقيل : أبو محمد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ، توفي بالمدينة سنة ثلاث وسبعين وقيل : ثمان وسبعين وقيل : ثمان وستين ، والصحيح الأول ، وتوفي وله أربع وتسعون سنة رضي الله عنه .

                                      ( أما حكم المسألة ) : فقد أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين ولم يخالف ، في ذلك من يعتد به ، كذا ذكره الشيخ أبو حامد . وغيره ، وقالت الشيعة الواجب مسحهما ، وحكى أصحابنا عن محمد بن جرير أنه مخير بين غسلهما ومسحهما ، وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي وأوجب بعض أهل الظاهر الغسل والمسح جميعا ، واحتج القائلون بالمسح بقوله تعالى - : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } بالجر على إحدى القراءتين في السبع ، فعطف الممسوح على الممسوح ، وجعل الأعضاء أربعة ، قسمين مغسولين ثم ممسوحين ، وعن أنس أنه بلغه أن الحجاج خطب فقال : أمر الله تعالى - : بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } قرأها جرا ، وعن ابن عباس إنما هما [ ص: 448 ] غسلتان ومسحتان . وعنه أمر الله بالمسح ويأبى الناس إلا الغسل وعن رفاعة في حديث المسيء صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم { إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى - : ، فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه } وعن علي رضي الله عنه أنه توضأ فأخذ حفنة من ماء فرش على رجله اليمنى وفيها نعله ثم صنع باليسرى كذلك ، ولأنه عضو يسقط في التيمم فكان فرضه المسح كالرأس .

                                      واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رجليه : منها حديث عثمان وحديث علي وحديث ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد والربيع بنت معوذ وعمرو بن عبسة وغيرها من الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما ، وقد جمعتها كلها في جامع السنة ، ومنها ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { رأى جماعة توضئوا وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال : ويل للأعقاب من النار } رواه البخاري ومسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورويا نحوه من رواية أبي هريرة . وفي هذا تصريح بأن استيعاب الرجلين بالغسل واجب ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه { أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدميه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فأحسن وضوءك } رواه مسلم وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف الطهور ؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا وذكر الحديث إلى أن قال : ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم } ، هذا حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى - : حيث ذكره المصنف قريبا ، وهذا من أحسن الأدلة في المسألة .

                                      وعن عمرو بن عبسة في حديثه الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما منكم من أحد يقرب وضوءه فيمضمض إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه مع الماء ، إلى أن قال : ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء } رواه مسلم بهذا اللفظ وفي رواية قال عمرو بن [ ص: 449 ] عبسة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبع مرار ، قال البيهقي روينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء { ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله تعالى - : } : قال البيهقي وفي هذا دلالة أن الله تعالى - : أمر بغسلهما وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة وذكر الحديث إلى أن قال : فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب } رواه مسلم وعن لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وخلل بين الأصابع } وهو حديث صحيح سبق بيانه في فصل المضمضة وسنعيده في تخليل ، الأصابع قريبا إن شاء الله تعالى - : ، وفيه دلالة للغسل ، والأحاديث في المسألة كثيرة جدا وفيما ذكرناه كفاية ، قال أصحابنا : ولأنهما عضوان محدودان فكان واجبهما الغسل كاليدين .

                                      وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى - : { وأرجلكم } فقد قرئت بالنصب والجر فالنصب صريح في الغسل ، وتكون معطوفة على الوجه واليدين ، وأما الجر فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة أشهرها أن الجر على مجاورة الرءوس مع أن الأرجل منصوبة وهذا مشهور في لغة العرب ، وفيه أشعار كثيرة مشهورة وفيه من مأثور كلامهم كثير ، من ذلك قولهم : ( هذا جحر ضب خرب ) بجر خرب على جوار ضب وهو مرفوع صفة لجحر ، ومنه في القرآن { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } فجر أليما على جوار يوم وهو منصوب صفة لعذاب فإن قيل : إنما يصح الإتباع إذا لم يكن هناك واو ، فإن كانت لم يصح والآية فيها واو قلنا : هذا غلط فإن الإتباع مع الواو مشهور في أشعارهم ، من ذلك ما أنشدوه .

                                      لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول

                                      فخفض موثقا مجاورته " منفلت " وهو مرفوع معطوف على أسير . [ ص: 450 ] فإن قالوا : الإتباع إنما يكون فيما لا لبس فيه ، وهذا فيه لبس قلنا : لا لبس هنا لأنه حدد بالكعبين والمسح لا يكون إلى الكعبين بالاتفاق . والجواب الثاني : أن قراءتي الجر والنصب يتعادلان ، والسنة بينت ورجحت الغسل فتعين . الثالث : ذكره جماعات من أصحابنا منهم الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي والقاضي أبو الطيب وآخرون ، ونقله أبو حامد في باب المسح على الخف عن الأصحاب أن الجر محمول على مسح الخف ، والنصب على الغسل إذا لم يكن خف .

                                      الرابع : أنه لو ثبت أن المراد بالآية المسح لحمل المسح على الغسل جمعا بين الأدلة والقراءتين ; لأن المسح يطلق على الغسل كذا نقله جماعات من أئمة اللغة ، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون ، وقال أبو علي الفارسي : العرب تسمي خفيف الغسل مسحا ، وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش قال : كانوا يقرءونها وكانوا يغسلون . وأما الجواب عن احتجاجهم بكلام أنس فمن أوجه : أشهرها عند أصحابنا : أن أنسا أنكر على الحجاج كون الآية تدل على تعيين الغسل ، وكان يعتقد أن الغسل إنما علم وجوبه من بيان السنة فهو موافق للحجاج في الغسل مخالف له في الدليل .

                                      ( والثاني ) ذكره البيهقي وغيره أنه لم ينكر الغسل إنما أنكر القراءة فكأنه لم يكن ( يرى ) قراءة النصب وهذا غير ممتنع ، ويؤيد هذا التأويل أن أنسا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على الغسل وكان أنس يغسل رجليه .

                                      ( الثالث ) : لو تعذر تأويل كلام أنس كان ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وفعل الصحابة وقولهم مقدما عليه . وأما قول ابن عباس فجوابه من وجهين ، أحسنهما : أنه ليس بصحيح ولا معروف عنه وإن كان قد رواه ابن جرير بإسناده في كتابه اختلاف العلماء إلا أن إسناده ضعيف ، بل الصحيح الثابت عنه أنه كان يقرأ : [ ص: 451 ] { وأرجلكم } بالنصب ويقول : عطف على المغسول ، هكذا رواه عنه الأئمة الحفاظ الأعلام منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وجماعات القراء والبيهقي وغيره بأسانيدهم ، وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه { توضأ فغسل رجليه وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ } . والجواب الثاني نحو الجواب السابق في كلام أنس . وأما حديث رفاعة فهو على لفظ الآية فيقال فيه ما قيل في الآية . وأما حديث علي فجوابه من أوجه أحسنها أنه ضعيف ضعفه البخاري وغيره من الحفاظ فلا يحتج به لو لم يخالفه غيره ، فكيف وهو مخالف للسنن المتظاهرة والدلائل الظاهرة ؟ ( الثاني ) لو ثبت لكان الغسل مقدما عليه لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الثالث ) جواب البيهقي والأصحاب أنه محمول على أنه غسل الرجلين في النعلين فقد ثبت عن علي من أوجه كثيرة غسل الرجلين فوجب حمل الرواية المحتملة على الروايات الصحيحة الصريحة . وأما قياسهم على الرأس فمنتقض برجل الجنب فإنه يسقط فرضها في التيمم ولا يجزئ مسحها بالاتفاق والله أعلم




                                      الخدمات العلمية