الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ويجب إدخال الكعبين في الغسل لقوله تعالى - : { وأرجلكم إلى الكعبين } قال أهل التفسير : مع الكعبين ، والكعبان هما العظمات الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، والدليل عليه ما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه وقال : أقيموا صفوفكم ، فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه } فدل على أن الكعب ما قلناه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث النعمان حديث حسن رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما بأسانيد جيدة ، وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فقال في أبواب تسوية الصفوف . وقال النعمان بن بشير : ( رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ) وقد قدمنا أن تعليقات البخاري إذا كانت بصيغة جزم كانت صحيحة . وقوله وروى النعمان : " أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 452 ] أقبل علينا " هو من باب تلوين الخطاب ، وفيه حذف تقديره : قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا ، ولو أتى المصنف بلفظة ( قال ) كما هي في روايات الحديث لكان أحسن . وقوله صلى الله عليه وسلم : " أقيموا صفوفكم " معناه أتموها واعتدلوا واستووا فيها . وقوله : " يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه " إخبار عن شدة مبالغتهم في إقامة الصفوف وتسويتها . والمنكب بفتح الميم وكسر الكاف سبق بيانه في فصل غسل اليدين . وقول المصنف : ( العظمات الناتئان ) هو بالنون في أوله وبعد الألف تاء مثناة فوق ثم همزة ومعناه الناشزان المرتفعان . وقوله : ( مفصل الساق ) هو بفتح الميم وكسر الصاد ، والساق مؤنثة غير مهموزة وفيها لغة قليلة بالهمز ، وقد قرئ بها في السبع في قوله تعالى - : { وكشفت عن ساقيها } وغيره . وأما النعمان بن بشير راوي الحديث فكنيته أبو عبد الله وهو أنصاري خزرجي ، وهو أول مولود ولد للأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو وأبوه بشير صحابيان ، وأم النعمان عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة صحابية ، وولد النعمان سنة اثنتين من الهجرة وقتل بقرية من قرى حمص سنة أربع وستين وقيل : سنة ستين رضي الله عنه .

                                      أما أحكام الفصل ففيه مسألتان : ( إحداهما ) أنه يجب إدخال الكعبين في الغسل وهذا لا خلاف فيه عندنا وبه قال الجمهور ، وخالف فيه زفر وابن داود ، وقد سبق بيان ذلك ودليله في غسل اليدين ، وقول المصنف قال أهل التفسير أي : كثيرون منهم فإنهم مختلفون كما سبق .

                                      ( المسألة الثانية ) : أن الكعبين هما العظمات الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وهذا مذهبنا وبه قال المفسرون وأهل الحديث وأهل اللغة والفقهاء ، وقالت الشيعة : هما الناتئان في ظهر القدمين ، فعندهم أن في كل رجل كعبا واحدا ، وحكاه الخطابي في كتابه الزيادات في شرح ألفاظ مختصر المزني عن أبي هريرة وأهل الكوفة ، وحكاه أصحابنا عن محمد بن الحسن [ ص: 453 ] قال المحاملي : ولا يصح عنه ، وحكاه الرافعي وجها لنا وليس بشيء ، وليس لهؤلاء المخالفين حجة تذكر . ودليلنا عليهم الكتاب والسنة واللغة والاشتقاق .

                                      أما الكتاب فقوله تعالى - : { وأرجلكم إلى الكعبين } قال أصحابنا : هذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان ، ولا يجيء هذا إلا على ما قلناه ، ولو كان كما قالوه لقال إلى الكعاب كما قال إلى المرافق .

                                      وأما السنة فعن عثمان رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم { فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثم اليسرى كذلك } رواه مسلم . وحديث النعمان المذكور في الكتاب وهو صحيح كما سبق ، وموضع الدلالة قوله : " يلصق كعبه بكعب صاحبه " وهذا لا يكون إلا في الكعب الذي قلناه ، ونظائر هذا في الأحاديث كثيرة .

                                      وأما الاشتقاق فهو أن الكعب مشتق من التكعب وهو النتو مع الاستدارة ، ومنه سميت الكعبة ، ومنه كعب ثدي المرأة ، وهذه صفة الكعب الذي قلناه لا الذي قالوه ، وقال الخطابي : وقالت العرب : كعب أدرم وهو المندمج الممتلئ ، ولا يوصف ظهر القدم بالدرم . وأما نقل اللغة فقال الماوردي : المحكي عن قريش ونزار كلها : مضر وربيعة لا يختلف لسان جميعهم أن الكعب اسم للناتئ بين الساق والقدم ، قال : وهم أولى بأن يعتبر لسانهم في الأحكام من أهل اليمن ; لأن القرآن نزل بلغة قريش . وقال صاحب كتاب العين : الكعب ما أشرف فوق الرسغ ، ونقله أبو عبيد عن الأصمعي وهو قول أبي زيد النحوي الأنصاري ، والمفضل بن سلمة وابن الأعرابي وهؤلاء أعلام أهل اللغة ، قال الواحدي : ولا يعرج على قول من قال : الكعب في ظهر القدم ; لأنه خارج عن اللغة والأخبار وإجماع الناس ، فهذه أقوال أئمة اللغة المصرحة بما قلنا ، قال الروياني : فإن قيل للبهائم في كل رجل كعب فينبغي أن يقال كذا في الآدمي - قلنا : خلقة الآدمي تخالف البهائم ; لأن كعب البهيمة فوق ساقها ، وكعب الآدمي في أسفله فلا يلزم اتفاقهما والله أعلم




                                      الخدمات العلمية