الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - . وأما غير الحيوان فضربان طاهر ونجس ( فأما ) النجس فلا يؤكل لقوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } والنجس خبيث ، وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تقع في السمن إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه } فلو حل أكله لم يأمر بإراقته ( وأما ) الطاهر فضربان ( ضرب ) يضر ( وضرب ) لا يضر ، فما يضر لا يحل أكله كالسم والزجاج والتراب والحجر ، والدليل عليه قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وأكل هذه الأشياء تهلكة فوجب أن لا يحل ، وما لا يضر يحل أكله كالفواكه والحبوب ، والدليل عليه قوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 38 ] الشرح ) أما حديث فأرة السمن فبعضه في الصحيح وبعضه في غيره فعن ابن عباس عن ميمونة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن فماتت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذوها وما حولها وكلوا سمنكم } رواه البخاري .

                                      وفي رواية له { ألقوها وما حولها وكلوه } وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه } رواه أبو داود بإسناد صحيح ولم يضعفه وذكره الترمذي بإسناد أبي داود ثم قال : وهذا حديث غير محفوظ ، قال سمعت البخاري يقول هو خطأ ، قال : والصحيح حديث ابن عباس عن ميمونة وذكره البيهقي من رواية أبي داود ولم يضعفه ، فهو وأبو داود متفقان على السكوت عليه ، مع صحة إسناده ، قال الخطابي وروي في بعض الأخبار { وإن كان مائعا فأريقوه } .

                                      ( وأما ) السم والزجاج ففيهما ثلاث لغات فتح السين والزاي وضمهما وكسرهما والفصيح فتح السين وضم الزاي .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) قال أصحابنا يحرم أكل نجس العين ، كالميتة ولبن الأتان والبول وغير ذلك ، وكذا يحرم أكل المتنجس كاللبن والخل والدبس والطبيخ والدهن وغيرها إذا تنجست ، وهذا لا خلاف فيه ، وقد سبق في باب إزالة النجاسة وجه ضعيف أن الدهن يطهر بالغسل ، فعلى هذا الوجه إذا غسل طهر وحل أكله ودليل المسألة ما ذكره المصنف واعلم أنه يستثنى من قولهم : لا يحل أكل شيء نجس مسألة وهي الدود المتولد من الفواكه والجبن والخل والباقلا ونحوها ، فإنه إذا مات فيما تولد منه نجس بالموت على المذهب ، وفي حل أكل هذا الدود ثلاثة أوجه ( أصحها ) يحل أكله مع ما تولد منه لا منفردا ( والثاني ) يحل مطلقا [ ص: 39 ] والثالث ) يحرم مطلقا ، فعلى الصحيح يكون نجسا لا ضرر في أكله ، ويحل أكله معه ، فيحتاج إلى استثنائه ، والله سبحانه أعلم . ولو تنجس فمه حرم عليه الأكل والشرب قبل غسله ، لأن ما يصل إليه ينجس فيكون أكل نجاسة ، وينبغي أن يبالغ في غسله ، وقد سبقت هذه المسألة في آخر باب إزالة النجاسة .

                                      ( الثانية ) لا يحل أكل ما فيه ضرر من الطاهرات كالسم القاتل والزجاج والتراب الذي يؤذي البدن ، وهذا هو الذي يأكله بعض النساء وبعض السفهاء ، وكذلك الحجر الذي يضر أكله ، وما أشبه ذلك ، ودليله في الكتاب ، قال إبراهيم المروذي : وردت أخبار في النهي عن أكل الطين ، ولم يثبت شيء منها ، قال : وينبغي أن يحكم بالتحريم إن ظهرت المضرة فيه ، وقد جزم المصنف وآخرون بتحريم أكل التراب ، وجزم به القاضي حسين في باب الربا ، قال أصحابنا : ويجوز شرب دواء فيه قليل سم إذا كان الغالب منه السلامة واحتيج إليه ، قال إمام الحرمين : ولو تصور شخص لا يضره أكل السموم الطاهرة لم يحرم عليه إذ لا ضرر ، قال الروياني : والنبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة يحرم أكله ، ولا حد على آكله . قال : ويجوز استعماله في الدواء ، وإن أفضى إلى السكر ما لم يكن منه بد ، قال : وما يسكر مع غيره ولا يسكر بنفسه إن لم ينتفع به في دواء وغيره فهو حرام ، وإن كان ينتفع به في التداوي حل التداوي به ، والله أعلم .

                                      ( الثالثة ) كل طاهر لا ضرر فيه فهو حلال إلا ثلاثة أنواع ، وذلك كالخبز والماء واللبن والفواكه والحبوب واللحوم الطاهرة وغير ذلك ، لما ذكره المصنف والإجماع ( وأما ) الأنواع الثلاثة المستثناة ( فأحدها ) المستقذرات كالمخاط والمني ونحوهما وهي محرمة على الصحيح المشهور ، وفيه وجه ضعيف حكاه إمام الحرمين وغيره أنها حلال ، وممن قال به في [ ص: 40 ] المني أبو زيد المروذي وحكم العرق حكم المني والمخاط ، وقد جزم الشيخ أبو حامد في تعليقه عقب كتاب السلم في مسألة بيع لبن الآدميات بأنه يحرم شرب العرق .

                                      ( الثاني ) الحيوان الصغير كصغار العصافير ونحوها يحرم ابتلاعه حيا بلا خلاف ، لأنه لا يحل إلا بذكاة ، هذا في غير السمك والجراد ( أما ) السمك والجراد فيحل ابتلاعهما في الحياة على أصح الوجهين .

                                      ( الثالث ) جلد الميتة المدبوغ في أكله ثلاثة أقوال أو أوجه سبقت ، في باب الآنية ( أصحها ) أنه حرام ( والثاني ) حلال ( والثالث ) إن كان جلد حيوان مأكول فحلال وإلا فلا . وهذه الثلاثة ترد على المصنف حيث لم يستثنها ، والله سبحانه أعلم .



                                      ( فرع ) قال الخطابي : اختلف العلماء في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة ، فقال جماعة من أصحاب الحديث : لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه لقوله صلى الله عليه وسلم ( فلا تقربوه ) وقال أبو حنيفة : هو نجس لا يجوز أكله ولا شربه ، ويجوز الاستصباح به وبيعه . وقال الشافعي : لا يجوز أكله ولا بيعه ، ويجوز الاستصباح به . وقال داود : إن كان هذا سمنا لم يجز بيعه ولا أكله وشربه ، وإن كان زيتا لم يحرم أكله ولا بيعه ، وزعم أن الحديث مختص بالسمن ، وهو لا يقاس ، والله أعلم .

                                      هذا كلام الخطابي ، وقد سبق في باب ما يكره لبسه ، وأن المذهب الصحيح جواز الاستصباح بالدهن النجس والمتنجس ، سواء ودك الميتة وغيره ، وسبقت هناك مذاهب العلماء في الانتفاع بالنجاسات ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) وقعت فأرة ميتة أو غيرها من النجاسات في سمن أو زيت أو دبس أو عجين أو طبيخ أو غير ذلك ، قال أصحابنا : حكمه ما في الحديث الذي ذكره المصنف أنه إن كان مائعا نجسته ، وإن كان جامدا ألقيت النجاسة وما حولها ، وبقي الباقي طاهرا ، قالوا : وضابط الجامد [ ص: 41 ] أنه إذا أخذت منه قطعة لم يراد إلى موضعها منه على القرب ما يملؤها فإن تراد فمائع ، وقد سبقت هذه المسألة في باب إزالة النجاسة في مسألة ولوغ الكلب ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال العبدري : لو نصب قدرا على النار وفيها لحم فوقع فيها طائر فمات ، فأخرج الطائر ، صار ما في القدر نجسا فيراق المرق ولا يجوز أكل اللحم إلا بعد غسله . هذا مذهبنا ، وبه قال ابن عباس وعن مالك روايتان ( إحداهما ) كمذهبنا ( وأصحهما ) عنه أنه يراق المرق ويرمى اللحم فلا يؤكل ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال الغزالي في إحياء علوم الدين ، في أول كتاب الحلال والحرام : لو وقعت ذبابة أو نحلة في قدر طبيخ وتهرأت أجزاؤها فيه ، لم يحرم أكل ذلك الطبيخ ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوه إنما كان للاستقذار ، ولا يعد هذا مستقذرا قال : ولو وقع فيه جزء من لحم آدمي ميت لم يحل أكل شيء من ذلك الطبيخ ، حتى لو كان لحم الآدمي وزن دانق حرام الطبيخ ، لا لنجاسته ، فإن الآدمي الميت طاهر على الصحيح ، ولكن لأن أكل الآدمي حرام لحرمته لا لاستقذاره ، بخلاف الذباب ، هذا كلام الغزالي ، والمختار الصحيح أنه لا يحرم الطبيخ في مسألة لحم الآدمي ، لأنه صار مستهلكا فهو كالبول وغيره إذا وقع في قلتين من الماء فإنه يجوز استعمال جميعه ما لم يتغير لأن البول صار باستهلاكه كالمعدوم ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية