الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 446 ] باب ما يفسد البيع من الشروط وما لا يفسده قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا شرط في البيع شرطا - نظرت فإن كان شرطا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبههما - لم يبطل العقد لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد فلم يبطله فإن شرط ما لا يقتضيه العقد ، ولكن فيه مصلحة كالخيار والأجل والرهن والضمين لم يبطل العقد لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله وبه الثقة . ولأن الحاجة تدعو إليه فلم يفسد العقد . فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد ، لأن عائشة { رضي الله عنها اشترت بريرة لتعتقها ، فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق } . وإن اشتراه بشرط العتق فامتنع من إعتاقه ففيه وجهان ( أحدهما ) يجبر عليه لأنه عتق مستحق عليه ، فإذا امتنع أجبر عليه ، كما لو نذر عتق عبد ثم امتنع من إعتاقه ( الثاني ) لا يجبر بل يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع ، لأنه ملكه بالعوض ، وإنما شرط للبائع حقا فإذا لم يف ثبت للبائع الخيار كما لو اشترى شيئا بشرط أن يرهن بالثمن رهنا فامتنع من الرهن فإن رضي البائع بإسقاط حقه من العتق ففيه وجهان ( أحدهما ) لا يسقط لأنه عتق مستحق فلا يسقط بإسقاط الآدمي كالمنذور ( والثاني ) أنه يسقط لأنه حق شرطه البائع لنفسه فسقط بإسقاطه كالرهن والضمين . وإن تلف العبد قبل العتق ففيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنه ليس للبائع إلا الثمن ، لأنه لم يفقد أكثر من العتق ( والثاني ) يأخذ الثمن وما نقص من الثمن بشرط العتق ، فيقوم من غير شرط العتق ثم يقوم مع شرط العتق ويجب ما بينهما من الثمن ، ( والثالث ) أنه يفسخ العقد لأن البائع لم يرض بهذا الثمن وحده والمشتري لم يلتزم أكثر من هذا الثمن فوجب أن يفسخ العقد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم . وبريرة - بفتح الباء الموحدة - وهي بريرة بنت صفوان مولاة عائشة رضي الله عنها روت حديثا واحدا . [ ص: 447 ] قوله ) ( عتق مستحق عليه ) احتراز ممن نذر عتقا على وجه اللجاج ، ثم اختار كفارة اليمين بالإطعام ، وممن وعد العبد أنه يعتقه .

                                      ( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : الشرط خمسة أضرب ( أحدها ) ما هو من مقتضى العقد بأن باعه بشرط خيار المجلس أو تسليم المبيع أو الرد بالعيب أو الرجوع بالعهدة أو انتفاع المشتري كيف شاء وشبه ذلك فهذا لا يفسد العقد بلا خلاف لما ذكره المصنف ويكون شرطه توكيدا وبيانا لمقتضاه .

                                      ( الضرب الثاني ) أن يشترط ما لا يقتضيه إطلاق العقد لكن فيه مصلحة للعاقد كخيار الثلاث والأجل والرهن والضمين والشهادة ونحوها ، وكشرط كون العبد المبيع خياطا أو كاتبا ونحوه فلا يبطل العقد أيضا بلا خلاف بل يصح ويثبت المشروط .

                                      ( الضرب الثالث ) أن يشترط ما لا يتعلق به غرض يورث تنازعا كشرط ألا يأكل إلا الهريسة ، أو لا يلبس إلا الخز أو الكتان ، قال إمام الحرمين : وكذا لو شرط الإشهاد بالثمن وعين شهودا وقلنا : لا يتعينون فهذا الشرط لا يفسد العقد ، بل يلغو ويصح البيع ، هذا هو المذهب ، وبه قطع إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما ، وقال المتولي : لو شرط التزام ما ليس بلازم بأن باع بشرط أن يصلي النوافل ، أو يصوم غير رمضان أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها بطل البيع لأنه ألزم ، ما ليس بلازم ، قال الرافعي : مقتضى هذا فساد العقد في مسألة الهريسة ونحوها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      ( الضرب الرابع ) أن يبيعه عبدا أو أمة بشرط أن يعتقه المشتري [ ص: 448 ] ففيه ثلاثة أقوال ( الصحيح ) المشهور الذي نص عليه الشافعي في معظم كتبه وقطع به المصنف وأكثر الأصحاب ، أن البيع صحيح والشرط لازم يلزم الوفاء به ( والثاني ) يصح البيع ويبطل الشرط ، فلا يلزمه عتقه ( والثالث ) يبطل الشرط والبيع جميعا كغيره من الشروط ، والمذهب صحتهما ، وعليه التفريع قال أصحابنا : وإذا صححناه فصورته إذا شرط أن يعتقه المشتري عن نفسه ، أو أطلق اشتراط عتقه ( أما ) إذا باعه بشرط أن يعتقه المشتري من البائع فالبيع باطل قطعا ، قال أصحابنا : وإذا شرط العتق للمشتري أو أطلق ففي العتق المشروط وجهان ( أصحهما ) أنه حق لله تعالى كالعتق الملتزم بالنذر ( والثاني ) أنه حق للبائع ، وقد أشار المصنف إلى دليلهما .

                                      ( فإن قلنا : ) إنه حق البائع فله مطالبة المشتري به بلا خلاف ( وإن قلنا ) حق لله تعالى فللبائع مطالبته أيضا على أصح الوجهين وإن امتنع من الإعتاق ( فإن قلنا : ) الحق لله تعالى أجبر عليه المشتري قطعا ( وإن قلنا ) للبائع لم يجبر ، بل يجبر البائع في فسخ البيع ( وإذا قلنا ) بالإجبار قال المتولي : يخرج على الخلاف في المولى إذا امتنع من الطلاق ومن الفيئة ، ففي قول يعتقه القاضي ، وفي قول يحبسه حتى يعتقه وذكر إمام الحرمين احتمالين ( أحدهما ) تخريجه على القولين كما قال المتولي ( والثاني ) يتعين الحبس ( قلت ) ويحتمل أن يجزم بأن يعتقه القاضي كما إذا توجه عليه بيع ماله في دين فامتنع فإن القاضي يبيعه في وفاء الدين ( أما ) إذا أسقط البائع حق الإعتاق ( فإن قلنا : ) الحق لله تعالى لم يصح إسقاطه ( وإن قلنا : ) للبائع ، صح إسقاطه كما لو شرط رهنا أو كفيلا ثم عفا عنه ، فإنه يسقط على المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه ضعيف للشيخ أبي محمد الجويني إن شرط الرهن والكفيل لا يصح إفراده بالإسقاط كالأجل قال أصحابنا : ومتى أعتقه المشتري فالولاء له قطعا [ ص: 449 ] سواء قلنا : الحق فيه لله تعالى أم للبائع ، لأنه أعتق ملكه ، هذا إذا أعتقه المشتري مجانا فلو أعتقه عن كفارة عليه ( فإن قلنا : ) الحق فيه لله تعالى أو للبائع ولم يأذن لم يجزئه ( وإن قلنا : ) له وأذن فوجهان ( أصحهما ) يجز عن الكفارة وعن أداء حق العتق ( والثاني ) لا يجز ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يجوز استخدام العبد والأمة اللذين اشتراهما بشرط العتق قبل حصول العتق ، ويجوز الوطء وتكون أكسابهما للمشتري ، لأنهما على ملكه قبل العتق ولو قتلا كانت القيمة للمشتري ولا يكلف صرفها إلى عتق غيرهما . ولو أجره قال الدارمي : يحتمل وجهين ( أصحهما ) بطلان الإجارة .

                                      ( فرع ) لو باعه لآخر بشرط أن يعتقه الثاني فوجهان ( الصحيح ) المشهور لا يصح البيع ( والثاني ) يصح البيع والشرط . ولو أولد الجارية لم تجزئه عن الإعتاق على الصحيح ، وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه شاذ . ( فرع ) لو مات هذا العبد قبل إعتاقه ففيه أربعة أوجه منها ثلاثة مشهورة ذكرها المصنف بأدلتها ( أصحها ) ليس على المشتري إلا الثمن المسمى ، لأنه لم يلتزم غيره ( والثاني ) يلزمه مع المسمى قدر التفاوت بمثل نسبته من المثل بأن يقال : قيمته من غير شرط العتق مائة ، وبشرطه تسعون فيجب قدر عشر المسمى مضافا إلى المسمى .

                                      ( والثالث ) ينفسخ البيع ويلزم المشتري قيمة العبد ، لفواته في يده ويرجع بالثمن .

                                      ( والرابع ) للبائع الخيار إن شاء أجاز العقد ولا شيء له غير المسمى ، وإن شاء فسخه ورد الثمن ، ورجع بقيمة العبد ، ثم هذه الأوجه هل هي [ ص: 450 ] مفرعة على أن العتق للبائع ؟ أم مطردة ؟ سواء قلنا : له أو لله تعالى فيه احتمالان لإمام الحرمين ( أصحهما ) الثاني ، وهو مقتضى كلام الأصحاب وإطلاقهم .



                                      ( فرع ) لو اشتراه بشرط أن يدبره أو يكاتبه أو يعتقه بعد شهر أو سنة أو يعلق عتقه ، أو اشترى دارا بشرط أن يقفها فطريقان ( أصحهما ) القطع ببطلان البيع ( والثاني ) أنه على الخلاف في شرط الإعتاق .

                                      ( فرع ) جميع ما سبق هو فيما إذا شرط العتق ، ولم يتعرض للولاء ، أو شرطا كونه للمشتري ( فأما ) إذا شرطاه للبائع ، فالمذهب بطلان البيع وبه قطع الجمهور لأنه منابذ لقوله صلى الله عليه وسلم { إنما الولاء لمن أعتق } وحكى جماعة قولا شاذا أنه يصح البيع ويلغو شرط الولاء ، وحكاه الدارمي وجها للإصطخري ، وحكى إمام الحرمين وجها باطلا أنه يصح البيع ، ويصح أيضا شرط الولاء للبائع قال الرافعي : لا يعرف هذا الوجه لغير الإمام ولو اشتراه بشرط الولاء للبائع دون اشتراط الإعتاق بأن قال : بعتكه بشرط أن يكون الولاء لي إن أعتقته فالبيع باطل بلا خلاف ، ذكره المتولي والرافعي .



                                      ( فرع ) لو اشترى أباه أو ابنه بشرط أن يعتقه ، قال القاضي حسين : البيع باطل بلا خلاف ، لتعذر الوفاء بالشرط فإنه يعتق عليه بمجرد الملك فلا يتصور إعتاقه ، وحكى الرافعي هذا عن القاضي وسكت عليه موافقة ، وفيه نظر ، ويحتمل أن يصح البيع ويكون شرط الإعتاق توكيدا للمعنى فإن مقصود الشرط تحصيل الإعتاق ، وهو حاصل هنا .



                                      ( فرع ) لو اشترى جارية حاملا بشرط العتق فولدت ، ثم أعتقها ، فهل يتبعها الولد ؟ فيه وجهان حكاهما ابن كج ( الأصح ) لا يتبعها ، قال [ ص: 451 ] الدارمي : هما مبنيان على أن الحمل هل له حكم أم لا ؟ والأصح أن له حكما فلا يتبعها .



                                      ( فرع ) لو باع عبدا بشرط أن يبيعه المشتري بشرط العتق ، فالمذهب بطلان هذا البيع ، وبه قطع الجمهور ، وحكى ابن كج عن ابن القطان أن في صحته وجهين ، وهذا شاذ ضعيف .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن باع عبدا بشرط العتق . قد ذكرنا أن الصحيح المشهور من مذهبنا صحة السبيع والشرط وبه قال النخعي وأحمد وغيرهما ، وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور : البيع صحيح والشرط باطل ، وقال أبو حنيفة وصاحباه : البيع فاسد ، لكن لو أعتقه بعد عتقه لزمه الثمن عند أبي حنيفة ، وبالقيمة عند صاحبيه ، وهو عندهم مملوك للمشتري ملكا ضعيفا كما قالوا في غيره من البيوع الفاسدة ، واحتجوا بحديث النهي عن بيع وشرط ، وبحديث { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } وسنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى . واحتج أصحابنا بحديث عائشة في قصة بريرة رضي الله عنهما ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها في شرائها بشرط العتق ( فإن قيل : ) إنما كان بشرط الولاء ( قلت : ) والولاء يتضمن اشتراط العتق ( فإن قيل : ) فبريرة كانت مكاتبة . والمكاتب لا يصح بيعه على الصحيح ( قلنا : ) هو محمول على أنها عجزت نفسها وفسخ أهلها الكتابة ولأن للعتق قوة سراية فاحتمل اشتراطه في البيع بخلاف غيره ( وأما ) الحديثان اللذان احتجوا بهما فعامان مخصوصان بما ذكرناه .




                                      الخدمات العلمية