الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإذا توضأت المستحاضة ولبست الخفين ثم أحدثت حدثا غير حدث الاستحاضة ومسحت على الخف جاز لها أن تصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاءت من النوافل ، وإن تيمم المحدث ولبس الخف ثم وجد الماء لم يجز له المسح على الخف لأن التيمم طهارة ضرورة فإذا زالت الضرورة بطلت من أصلها فيصير كما لو لبس الخف على حدث ، وقال أبو العباس بن سريج : يصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاء من النوافل كالمستحاضة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذه المسألة مشهورة في كتب الأصحاب ، وفي صورتها في المهذب بعض الخفاء ، فصورتها عند الأصحاب أن تتوضأ المستحاضة بعد دخول وقت فريضة ، وتلبس الخفين على تلك الطهارة ثم تحدث بغير حدث [ ص: 544 ] الاستحاضة كبول ونوم ولمس قبل أن تصلي تلك الفريضة ، فإذا توضأت جاز لها المسح في حق هذه الفريضة وتصلي بالمسح هذه الفريضة وما شاءت من النوافل ، فإن أحدثت مرة أخرى فلها المسح لاستباحة النوافل ولا يجوز لفريضة أخرى ، ولو توضأت ولبست الخف وصلت فريضة الوقت ثم أحدثت لم يجز أن تمسح في حق فريضة أصلا ، لا فائتة ولا مؤداة ، ولكن لها أن تمسح لما شاءت من النوافل .

                                      واحتج الأصحاب لكونها لا تمسح لغير فريضة ونوافل بأن طهارتها في الحكم مقصورة على استباحة فريضة ونوافل ، وهي محدثة بالنسبة إلى ما زاد على ذلك فكأنها لبست على حدث بل لبست على حدث حقيقة فإن طهارتها لا ترفع الحدث على المذهب . هذا الذي ذكرناه هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور في الطرق ونقله أبو بكر الفارسي عن نص الشافعي رضي الله عنه وفي المسألة وجهان آخران :

                                      ( أحدهما ) لا يجوز لها المسح أصلا لا لفريضة ولا نافلة حكاه صاحب التلخيص والدارمي وجماعة من الخراسانيين وصححه البغوي وبه قطع الجرجاني في التحرير لأنها محدثة وإنما جوزت لها الصلاة مع الحدث الدائم للضرورة ولا ضرورة إلى مسح الخف بل هي رخصة بشرط لبسه على طهارة كاملة ولم توجد .

                                      ( والوجه الآخر ) إنها تستبيح المسح ثلاثة أيام ولياليهن في السفر ويوما وليلة في الحضر ولكنها تجدد الطهارة ماسحة لكل فريضة حكاه الرافعي وغيره عن تعليق الشيخ أبي حامد واحتمال لإمام الحرمين ، واعترف بأن المنقول عن الأصحاب خلافه ونقل المتولي وغيره اتفاق الأصحاب على أنها لا تزيد على فريضة . ومذهب زفر وأحمد رضي الله عنهما أنها تمسح ثلاثة أيام سفرا ويوما وليلة حضرا ودليل المذهب ما قدمناه ، وأما قول الغزالي في الوسيط لا تزيد على فريضة بالإجماع فليس كما قال ، وهو محمول على أنه لم يبلغه مذهب زفر وأحمد وقول الشيخ أبي حامد ، وقال القفال : في جواز مسحها لفريضة قولان بناء على أن طهارتها هل ترفع الحدث ؟ وفيه قولان ، قال إمام الحرمين : تخريجه على رفع الحدث غير صحيح فكيف يرتفع حدثها مع جريانه دائما ؟ وكذا قال الشاشي في المعتمد والمستظهري هذا البناء فاسد ، ولا يجوز أن [ ص: 545 ] يقال يرتفع حدثها مع دوامه واتصاله فإن ذلك محال وسنوضح الخلاف في ارتفاع حدثها بالطهارة في آخر باب الحيض في مسائل طهارتها إن شاء الله تعالى والله أعلم .

                                      هذا كله إذا أحدثت غير حدث الاستحاضة ، أما حدث الاستحاضة فلا يضر ولا تحتاج بسببه إلى استئناف طهارة إلا إذا أخرت الدخول في الصلاة بعد الطهارة وحدثها يجري ، وقلنا بالمذهب : إنه ينقض طهارتها ويجب استئنافها فحينئذ يكون حدث الاستحاضة كغيره على ما سبق . هذا كله إذا لم ينقطع دمها ، أما إذا انقطع دمها قبل أن تمسح وشفيت فلا يجوز لها المسح بل يجب الخلع واستئناف الطهارة هكذا قطع به الجمهور ، وصرحوا بأنه لا خلاف فيه ، وحكى البغوي وجها شاذا أن انقطاع دمها كحدث طارئ فلها المسح ، وهذا خلاف المذهب والدليل لأن طهارتها لضرورة وقد زالت الطهارة والضرورة فصارت لابسة على حدث بلا ضرورة والله أعلم .

                                      وحكم سلس البول والمذي ومن به حدث دائم وجرح سائل حكم المستحاضة على ما سبق ، وكذا الوضوء المضموم إليه التيمم لجرح أو كسر له حكم المستحاضة ، وإذا شفي الجريح لزمه النزع كالمستحاضة صرح به الصيدلاني وإمام الحرمين وغيرهما ، وأما المتيمم الذي محض التيمم ولبس الخف على طهارة التيمم فإن كان تيممه لا بإعواز الماء بل بسبب آخر فحكمه حكم المستحاضة لأنه لا يتأثر بوجود الماء لكنه ضعيف في نفسه فصار كالمستحاضة ، هكذا صرح به جماعة منهم الرافعي ، وإن كان التيمم لفقد الماء وهي مسألة الكتاب فقال الجمهور : لا يجوز المسح بل إذا وجد الماء وجب الوضوء وغسل الرجلين ، ونقله المتولي عن نص الشافعي رضي الله عنه وقال ابن سريج : هو كالمستحاضة فتستبيح فريضة ونوافل كما سبق ، والمذهب الفرق لأن طهارته لا تستمر عند رؤية الماء فنظيره من المستحاضة أن ينقطع دمها . والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية