الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع أو أعتقه أو وقفه [ ص: 517 ] ثبت له أرش العيب ; لأنه أيس من الرد فثبت له الرجوع بأرش العيب )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) امتناع الرد عند هذه الأمور لعدم إمكانه ; لأن الرد يعتمد مردودا واتفقوا على أنه لا تقام قيمة التالف مقامه ليرد الرد عليها إلا ما نقل عن أبي ثور وقد ذكرته عند الكلام في المصراة من نقل الجوزي عنه . لكن ابن المنذر نقل عنه هنا لمذهب الشافعي . وبعضهم زعم أن الرد ورد على خلاف القياس . فيقتصر فيه على مورد النص فالإجماع ، ولم يحصل ذلك عند تلف العين ، وفرقوا بينه وبين التخالف حيث جاز عند هلاك العين بهذا . أو بان لنا في الرد بالعيب طريقا آخر وهو الأرش بخلاف التخالف . وكذلك الفسخ بخيار المجلس أو الشرط عند تلف المبيع في يد المشتري ( إذا قلنا ) بانتقال الضمان يقبضه في زمان الخيار فإنه يجوز كالتخالف والإقالة بعد تلف المبيع جائزة على الأصح ( إن قلنا ) إنها فسخ ، وقيل : لا ; لعدم الحاجة إليها . إذا عرف ذلك فالأرش واجب قطعا بعلتين : ( إحداهما ) ما ذكره المصنف أنه أيس من الرد ، وهذه مقتضى قول أكثر الأصحاب كما سيتبين لك فيما إذا باعه ( والثانية ) أنه لم تستدرك الظلامة ، وهو مقتضى علة أبي إسحاق في مسألة البيع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ولم يتفقوا على أن كل واحدة علة مستقلة لاختلافهم فيما إذا تلف في يد المشتري الثاني كما سيأتي . ولا جزء علة كذلك ، بل الأكثرون يعتبرون اليأس ولا يعتبرون العلة الأخرى ، وأبو إسحاق بالعكس فإذا وجد المعنيان أو انتفيا اتفقوا ، وإن وجد أحدهما دون الآخر اختلفوا . وههنا اجتمع اليأس وعدم استدراك الظلامة ، فاتفقوا على الرجوع بالأرش ، فالمصنف تبع الأكثرين في التعليل ، ولم يعتبر قول أبي إسحاق وقد ذكر المصنف ثلاث مسائل مشتركة في الفوات ( إحداها ) في الفوات الحسي ( الثانية ، والثالثة ) في الفوات الشرعي . أما الأولى [ ص: 518 ] وهي هلاك المبيع ، فذلك يشمل ما إذا هلك بنفسه ، كموت العبد ، واحتراق الثوب وشبههما ، وهذا لا خلاف فيه . وممن قال به مالك وأحمد وأبو ثور على ما حكاه ابن المنذر وروى ذلك عن الشعبي والزهري وحكى الإمام قبيل كتاب الرهن فيما إذا قبض المسلم المسلم فيه قال : وذهب المزني إلى أن الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوض قال ابن الرفعة وهو يجري هنا بطريق الأول لأن غاية الأمر أن يجعل المعين عما في الذمة كالمعين في العقد .

                                      ( قلت ) وليس كذلك . وقد كنت استغربت هذا القول عن المزني فتبعت أثره فرأيت في تعليق القاضي حسين قبيل كتاب الرهن أيضا ما يثبته ويبين مأخذه وأنه لا يطرد ههنا ، وذلك أنه قال : إذا أسلم في طعام وقبض بعضه وأتلفه ثم قبض الباقي فاطلع على عيب به وادعى أن المتلف كان به هذا العيب فالقول قول المسلم إليه ، فإن نكل حلف المسلم ورجع عليه بالأرش . قال المزني : وجب أن لا يجوز له الرجوع بالأرش ; لأنه يؤدي إلى أن يأخذ بعض المسلم فيه وبدلا عن الباقي . قلنا : هذا ليس من الاستبدال في شيء ، وإنما هو فسخ العقد في البعض ، لأنه كاحتباس جزء ، ألا ترى أنه إنما يثبت له حق استرداد ما يقابل العيب من رأس المال لو أسلم في كر حنطة فقبضها وأتلفها . ثم اطلع على عيب قديم بها ينقص عشر قيمتها ، رجع على المسلم إليه بعشر رأس المال ، فكلام القاضي هذا يبين لنا أن مأخذ المزني في ذلك جعله من باب الاستبدال عن المسلم فيه ، والإمام أخذ ذلك عن القاضي واختصر وسكت عن مأخذه ، واقتصر على حكاية النقل عن المزني ، في حالة التلف ، فحصل في كلامه إشكال أوجب لابن الرفعة أن نقل ذلك هنا ، وبما ذكره القاضي اندفع ذلك ، ومقتضاه أن المزني يمنع أخذ الأرش عن المسلم فيه مطلقا عند التلف وغيره . ثم إن القاضي أيضا فرضها في الإتلاف لا في التلف ، فهذا ما يتعلق بهذا القسم الذي يحصل هلاك المبيع بنفسه ، وأما إذا قتل [ ص: 519 ] العبد أو أكل الطعام ونحوه فكذلك عندنا ، سواء حصل ذلك بفعل المشتري أو أجنبي . وقال أبو حنيفة : لا يرجع بالأرش فيهما ; لأنه فعل مضمون فأشبه ما إذا باعه أو أمسكه وقاس أصحابنا على الموت والإعتاق ، وأجابوا عن البيع بعدم اليأس . وعن الإمساك بدلالته على الرضا بالعيب .

                                      وأما الثانية والثالثة ، وهي ما إذا أعتقه أو وقفه ، فاتفق أصحابنا أيضا على أنه يرجع بالأرش ، ووافقنا مالك وأحمد وأبو ثور والشعبي والزهري فيما روي عنهما في العتق ، وروي عن شريح والحسن أنهما قالا : إذا أعتقه فقد وجب عليه . ومحل اتفاق أصحابنا على ما إذا كان العتق بإنشاء المشتري ، كما تدل عليه عبارة المصنف وكان متبرعا بذلك . وفي معناه إنشاء وكيله . أما لو لم يكن بإنشائه ، كمن اشترى من يعتق ثم اطلع على عيب ، أو كان بإنشائه ولكنه كان اشتراه بشرط العتق ثم وجد به عيبا بعد العتق ، فنقل الرافعي عن ابن كج عن أبي الحسين وهو ابن القطان في المسألة الأولى وجهين في شراء القريب ( الثانية ) أنه لا أرش في مسألة شرط العتق . قال - يعني ابن كج - : وعندي أن له الأرش في الصورتين ، فعلى هذا يكون قول المصنف أعتقه ; لأنه الغالب ، أو على سبيل المثال ، وليس المقصود به الاحتراز ، ولا يستثنى من كلامه شيء على رأي ابن كج - وهو الصحيح - وعلى رأي ابن القطان تستثنى مسألة شرط العتق والذي يترجح في مسألة شرط العتق ما قاله ابن كج ، وأما شراء القريب فإن كان مع جهل المشتري بالقرابة حين الشراء فكذلك ، وبه جزم الإمام قبيل كتاب السلم ، وإن علم المشتري حالة الشراء أنه قريبه الذي يعتق عليه فقد يقال : إنه إنما بذل الثمن في مقابلة العتق ، وليس المال مقصودا له ، لكن الأظهر الرجوع بالأرش أيضا ; لأن المقصود إن كان هو العتق فبذل ذلك الثمن بكماله إنما كان في مقابلة ما يظن من المبيع ، فإذا فات جزء صار المبيع الذي قصد عتقه مقابلا [ ص: 520 ] لبعض الثمن فيرجع في الباقي . وأطلق الروياني في الحلية أنه لا يجب الأرش في شراء القريب ، قال : لأن المعنى في العاقد لا في العبد .

                                      ( قلت ) وهذا المعنى لو سلم له يرد عليه في إنشاء العتق تبرعا ، وهو يوافق على أخذ الأرش . وقد أورد الأصحاب سؤالا ، وجوابه فيما إذا أعتقه مطلقا وإن كان تبرعا ; قالوا : ( فإن قيل ) إذا أعتقه فقد حصل له الثواب ( فالجواب ) أن استدراك الظلامة بالمال دون الثواب على أنه إنما حصل له ثواب عبد معيب وهو دون ثواب السليم ، لقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر رضي الله عنه : { أي الرقاب أفضل ؟ قال : أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها } رواه البخاري ، فالجزء الفائت بالعيب لم يتناوله العتق ، ولا حصل له عنه ثواب فيرجع بأرشه .

                                      ( فإن قيل ) فيلزمه أن يتصدق به ( قلنا ) ليس هو بدلا عما وقع عليه العتق ، وإنما هو عن الجزء الفائت . هذا ذكره في العتق المطلق ، وهو يأتي في العتق المشروط . وأما عتق القريب فقد تبين فيه أيضا .

                                      ( فرع ) يستثنى من إطلاق المصنف ما إذا منع مانع من أخذ الأرش كمسألة الحلي ، كما تقدم عن الأكثرين فيما إذا كان تالفا خلافا للقاضي حسين ، وصاحب التهذيب .

                                      ( فرع ) استيلاد الجارية مانع من الرد ، وينتقل إلى الأرش كما في الثلاثة التي ذكرها المصنف ، ورابعها تشترك في عدم إمكان النقل من شخص إلى شخص مطلقا ، لكن الأول للهلاك الحسي ، والعتق خارج عن الملك وغير قابل للنقل شرعا ، والمستولدة غير قابلة للنقل ولكنها مملوكة والموقوف على الخلاف في انتقال الملك فهو بين العتق والاستيلاد . وأما ما لا يمنع النقل من شخص إلى شخص مطلقا ، فإما أن يكون مع بقاء ملك المشتري ، أو مع زواله إن كان مع زواله . وسيأتي [ ص: 521 ] في كلام المصنف إن شاء الله تعالى ، وإن كان مع مقابله ، فقد تقدم جملة منه عند الكلام في العيب الحادث ; لأن منها ما هو عيب .




                                      الخدمات العلمية