الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط ولا بول } " ويجوز ذلك في البنيان لما روت عائشة رضي الله عنها { : أن ناسا كانوا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوقد فعلوها حولوا بمقعدتي إلى القبلة } " ولأن في الصحراء خلقا من الملائكة والجن يصلون فيستقبلهم بفرجه ، وليس ذلك في البنيان ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة صحيح رواه الشافعي في مسنده ، وفي الأم بإسناده الصحيح بهذا اللفظ المذكور في الكتاب ، ورواه مسلم في صحيحه دون قوله : لغائط ولا بول ، ورواه البخاري ومسلم من رواية أبي أيوب ، [ ص: 93 ] ووقع في المهذب لغائط باللام . وقد روي هذا الحديث لغائط وبغائط ، باللام وبالباء ، وكلاهما صحيح . وأما حديث عائشة فرواه أحمد بن حنبل وابن ماجه وإسناده حسن ، لكن أشار البخاري في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن فيه علة وقوله صلى الله عليه وسلم " أوقد فعلوها " هو بفتح الواو ، وهي واو العطف ، وهو استفهام توبيخ وتقريع قال الواحدي في تفسير قول الله تعالى { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } إنما جعل الاستفهام للتوبيخ ; لأنه يقتضي الإقرار ، بما الإقرار به فضيحة كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه ، والمقعدة بفتح الميم ، وهي موضع القعود لقضاء حاجة الإنسان .

                                      ( أما حكم المسألة ) فمذهبنا أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء ، ولا يحرم ذلك في البنيان ، ودليله ما ذكره المصنف مع ما سأذكره في فروع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى . قال أصحابنا الخراسانيون وجماعة من العراقيين منهم صاحب الشامل : إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان بشرط أن يكون بينه وبين الجدار ونحوه ثلاث أذرع فما دونها ، ويكون الجدار ونحوه مرتفعا قدر مؤخرة الرحل ، فإن زاد ما بينهما على ثلاث أذرع أو قصر الحائل عن مؤخرة الرحل فهو حرام ، إلا إذا كان في بيت بني لذلك فلا حرج فيه . قالوا : ولو كان في الصحراء وتستر بشيء على ما ذكرناه من الشرطين زال التحريم ، فالاعتبار بالساتر وعدمه . فحيث وجد الساتر بالشرطين حل في البناء والصحراء وحيث فقد أحد الشرطين حرم في الصحراء والبناء . وذكر الماوردي والروياني وجهين : ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) يحل في البناء مطلقا بلا شرط ويحرم في الصحراء مطلقا ، وإن قرب من الساتر . والصحيح الأول قال أصحابنا : ولا فرق في الساتر بين الجدار والدابة والوهدة وكثيب الرمل ونحو ذلك . ولو أرخى ذيله في قبالة القبلة فهل يحصل به الستر ؟ فيه [ ص: 94 ] وجهان ، حكاهما إمام الحرمين وغيره ( أحدهما ) لا يحصل ; لأنه لا يعد ساترا ( وأصحهما ) يحصل ; لأن المقصود أن لا يستقبل ولا يستدبر بسوأته ، وهذا المقصود يحصل بالذيل ، وبهذا الثاني قطع الفوراني وآخرون وصححه الإمام والغزالي في البسيط وحيث جوزنا الاستقبال قال المتولي : يكره . وقال إمام الحرمين : إذا كان في بيت يعد مثله ساترا لم يحرم الاستقبال والاستدبار ، لكن الأدب أن يتوقاهما ويهيئ مجلسه ماثلا عنهما ، ولم يتعرض الجمهور للكراهة التي ذكرها المتولي ، والمختار أنه لا كراهة ، للأحاديث التي سنذكرها إن شاء الله تعالى ، لكن الأدب والأفضل الميل عن القبلة إذا أمكن بلا مشقة ، والله أعلم



                                      ( فرع ) إذا تجنب استقبال القبلة واستدبارها حال خروج البول والغائط ، ثم أراد استقبالها حال الاستنجاء ، فمقتضى مذهبنا وإطلاق أصحابنا جوازه ; لأن النهي ورد في استقبالها واستدبارها ببول أو غائط ، وهذا لم يفعله . ونقل الروياني في الحلية جوازه عن أبي حنيفة قال : وهو صحيح يحتمله مذهبنا ، ولا كراهة أيضا في إخراج الريح إلى القبلة لما ذكرناه والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال العبدري من أصحابنا في كتابه الكفاية : يجوز عندنا الجماع مستقبل القبلة ومستدبرها في البناء والصحراء ، قال : وبه قال أبو حنيفة وأحمد وداود ، واختلف فيه أصحاب مالك ، فجوزه ابن القاسم وكرهه ابن حبيب ، ونقل غير العبدري من أصحابنا أيضا أنه لا كراهة فيه عندنا ; لأن الشرع ورد في البول والغائط ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لا يحرم استقبال بيت المقدس ببول ولا غائط ، ولا استدباره لا في البناء ولا في الصحراء قال المتولي وغيره : ولكنه يكره ونقل الروياني عن الأصحاب أيضا أنه يكره لكونه كان قبلة وأما حديث معقل بن أبي معقل الأسدي رضي الله عنه قال : " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط } " رواه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه وغيرهم وإسناده جيد ، ولم يضعفه أبو داود ، [ ص: 95 ] فأجاب عنه أصحابنا بجوابين لمتقدمي أصحابنا .

                                      ( أحدهما ) أنه نهى عن استقبال بيت المقدس حيث كان قبلة . ثم نهى عن الكعبة حين صارت قبلة فجمعهما الراوي . قال صاحب الحاوي : هذا تأويل أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة ( والثاني ) المراد بالنهي أهل المدينة لأن من استقبل بيت المقدس وهو في المدينة استدبر الكعبة . وإن استدبره استقبلها ، والمراد بالنهي عن استقبالهما النهي عن استقبال الكعبة واستدبارها . قال صاحب الحاوي : هذا تأويل عن بعض المتقدمين ، فهذان تأويلان مشهوران للأصحاب ، ولكن في كل واحد منهما ضعف ، والظاهر المختار أن النهي وقع في وقت واحد ، وأنه عام لكلتيهما في كل مكان ، ولكنه في الكعبة نهي تحريم في بعض الأحوال على ما سبق ، وفي بيت المقدس نهي تنزيه ، ولا يمتنع جمعهما في النهي وإن اختلف معناه ، وسبب النهي عن بيت المقدس كونه كان قبلة فبقيت له حرمة الكعبة . وقد اختار الخطابي هذا التأويل . فإن قيل : لم حملتموه في بيت المقدس على التنزيه ؟ قلنا : للإجماع فلا نعلم من يعتد به حرمه . والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط . هي أربعة مذاهب : ( أحدها ) مذهب الشافعي أن ذلك حرام في الصحراء جائز في البنيان على ما سبق ، وهذا قول العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر والشعبي ومالك وإسحاق ورواية عن أحمد .

                                      ( والمذهب الثاني ) يحرم ذلك في الصحراء والبناء وهو قول أبي أيوب الأنصاري الصحابي ومجاهد والنخعي والثوري وأبي ثور ورواية عن أحمد .

                                      ( والثالث ) يجوز ذلك في البناء والصحراء وهو قول عروة بن الزبير . وربيعة وداود الظاهري .

                                      ( والرابع ) يحرم الاستقبال في الصحراء والبناء ; ويحل الاستدبار فيهما وهو رواية عن أبي حنيفة وأحمد . [ ص: 96 ] واحتج لمن حرم مطلقا بحديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ، ولكن شرقوا أو غربوا } " قال أبو أيوب : " فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة ، فننحرف ونستغفر الله " رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إذا جلس أحدكم على حاجة فلا يستقبلن القبلة ولا يستدبرها } " رواه مسلم . وعن سلمان رضي الله عنه قال : " { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة لغائط أو بول } " رواه مسلم ، قالوا ولأنه إنما منع لحرمة القبلة وهذا موجود في البناء كالصحراء ولأنه لو كفى الحائل لجاز في الصحراء ، فإن بيننا وبين الكعبة أودية وجبالا وأبنية . واحتج أصحابنا عليهم بحديث عائشة المذكور في الكتاب وبحديث { ابن عمر رضي الله عنهما قال : رقيت على ظهر بيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا على لبنتين مستقبلا بيت المقدس مستدبرا الكعبة } " رواه البخاري ومسلم . وعن جابر رضي الله عنه قال : " { نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } " حديث حسن ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وهذا لفظهما ، قال الترمذي : حديث حسن . وعن مروان الأصفر قال " رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ، ثم جلس يبول إليها فقلنا يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا ؟ قال بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس " رواه أبو داود والدارقطني والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين وقال : هو صحيح على شرط البخاري ، ولأنه تلحقه المشقة في اجتناب القبلة في البناء دون الصحراء ، فإن قالوا : خصوا الجواز بمن لحقه مشقة ، قلنا : الرخصة ترد لسبب ، ثم تعم كالقصر ، ولأن الأحاديث تعارضت في المنع والجواز فوجب الجمع بينهما ويحصل الجمع بينهما بما قلناه فإنها جاءت على فقه ولا تكاد تحصل بغيره . [ ص: 97 ] وأما الجواب عن الأحاديث التي احتجوا بها . فهو أنها محمولة على من كان بالصحراء للجمع بين الأحاديث ، وأما قول أبي أيوب رضي الله عنه فننحرف ونستغفر الله تعالى فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه شك في عموم النهي فاحتاط بالاستغفار . والثاني : أن هذا مذهبه ، ولم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا ، وقد خالفه غيره من الصحابة ، كما سبق ، وأما قولهم : المنع لحرمة القبلة وما بعده فجوابه أن الشرع ورد بالفرق على ما قدمناه فلا يلتفت إلى قياس ومعنى يخالفه . ومع هذا فالفرق ظاهر فإن المشقة تلحق في البناء دون الصحراء . واحتج من أباح مطلقا بحديثي جابر وعائشة قالوا : وهما ناسخان للنهي . قالوا : ولأن الأحاديث تعارضت فرجعنا إلى الأصل . واحتج أصحابنا بأن الأحاديث السابقة صحيحة فلا يجوز إلغاؤها بل يجب الجمع بينها فجمعنا بينها واستعملناها ولم نعطل شيئا منها . وأما قولهم : ناسخان فخطأ لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع ولم يتعذر هنا وأما من جوز الاستدبار - دون الاستقبال - فمحجوج بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عنهما جميعا والله أعلم .

                                      ( فرع ) قول المصنف : " ولأن في الصحراء خلقا من الملائكة والجن يصلون " هكذا قاله أصحابنا واعتمدوه ، ورواه البيهقي بإسناد ضعيف عن الشعبي التابعي من قوله وهو تعليل ضعيف فإنه لو قعد قريبا من حائط واستقبله ووراءه فضاء واسع جاز بلا شك صرح به إمام الحرمين البغوي وغيرهما ويدل عليه ما قدمناه عن ابن عمر أنه أناخ راحلته وبال إليها فهذا يبطل هذا التعليل فإنه لو كان صحيحا لم يجز في هذه الصورة ، فإنه مستدبر الفضاء الذي فيه المصلون ، ولكن التعليل الصحيح أن جهة القبلة معظمة ، فوجب صيانتها في الصحراء ، ورخص فيها في البناء للمشقة ، وهذا التعليل اعتمده القاضي حسين والبغوي والروياني وغيرهم ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية