الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا أراد الاستنجاء نظرت فإن كانت النجاسة بولا أو غائطا ولم تجاوز الموضع المعتاد جاز الماء والحجر ، والأفضل أن يجمع بينهما لأن الله تعالى أثنى على أهل قباء ، فقال سبحانه وتعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين } فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عما يصنعون ، فقالوا نتبع الحجارة الماء . فإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل ; لأنه أبلغ في الإنقاء ، وإن أراد الاقتصار على الحجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها قالت " { بال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عمر خلفه بكوز من ماء ، فقال ما هذا يا عمر ؟ قال ماء نتوضأ به ، فقال ما أمرت ، كلما بلت أن أتوضأ ، ولو فعلت لكان سنة } " ولأنه قد يبتلى بالخارج في مواضع لا يلحق الماء فيها ، فسقط وجوبه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث عائشة فرواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي في سننهم ، وهو حديث ضعيف ، والمراد بالوضوء هنا الاستنجاء بالماء . وقوله : لكان سنة أي واجبا لازما . ومعناه : لو واظبت على الاستنجاء بالماء لصار طريقة لي يجب اتباعها . وأما حديث أهل قباء فروي فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { نزلت هذه الآية في أهل قباء { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } وكانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية } " . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم ولم يضعفه أبو داود لكن إسناده ضعيف فيه يونس بن الحارث قد ضعفه الأكثرون وإبراهيم بن أبي ميمونة . وفيه جهالة . [ ص: 116 ] وعن عويم بن ساعدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال " { إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ قالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود يغسلون أدبارهم فغسلنا كما غسلوا } " رواه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه . وعن جابر وأبي أيوب وأنس رضي الله عنهم قالوا : { نزلت هذه الآية { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار قد أثنى الله عليكم في الطهور فما طهوركم ؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء . فقال هو ذلك فعليكموه } " رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي رواية للبيهقي " فما طهوركم ؟ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهل مع ذلك غيره ؟ قالوا لا ، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء قال : هو ذاك فعليكموه " وإسناد هذه الرواية ورواية ابن ماجه وغيره إسناد صحيح إلا أن فيه عتبة بن أبي حكيم وقد اختلفوا في توثيقه فوثقه الجمهور ، ولم يبين من ضعفه سبب ضعفه ، والجرح لا يقبل إلا مفسرا ، فيظهر الاحتجاج بهذه الرواية ، فهذا الذي ذكرته من طرق الحديث هو المعروف في كتب الحديث أنهم كانوا يستنجون بالماء ، وليس فيها ذكر الجمع بين الماء والأحجار . وأما قول المصنف : قالوا نتبع الحجارة الماء ، فكذا يقوله أصحابنا وغيرهم في كتب الفقه والتفسير . وليس له أصل في كتب الحديث ، وكذا قال الشيخ أبو حامد في التعليق : إن أصحابنا رووه . قال : ولا أعرفه . فإذا علم أنه ليس له أصل من جهة الرواية فيمكن تصحيحه من جهة الاستنباط ، لأن الاستنجاء بالحجر كان معلوما عندهم يفعله جميعهم ، وأما الاستنجاء بالماء فهو الذي انفردوا به فلهذا ذكر ولم يذكر الحجر لأنه مشترك بينهم وبين غيرهم ولكونه معلوما . فإن المقصود بيان فضلهم الذي أثنى الله تعالى عليهم بسببه ، ويؤيد هذا قولهم : إذا خرج أحدنا من الغائط أحب أن يستنجي بالماء ، فهذا يدل على أن استنجاءهم بالماء كان بعد خروجهم من الخلاء ، والعادة جارية بأنه لا يخرج من الخلاء إلا بعد التمسح بماء أو حجر ، وهكذا [ ص: 117 ] المستحب أن يستنجي بالحجر في موضع قضاء الحاجة ويؤخر الماء إلى أن ينتقل إلى موضع آخر والله أعلم . وقباء - بضم القاف : يذكر ويؤنث وفيه لغتان المد والقصر . قال الخليل : مقصور ، وقال الأكثرون : ممدود ، ويجوز فيها أيضا الصرف وتركه ، والأفصح الأشهر مده وتذكيره وصرفه وهو قرية على ثلاثة أميال من المدينة وقيل أصله اسم بئر هناك ، وثبت في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء كل سبت راكبا وماشيا ويصلي فيه } والله أعلم .

                                      ( وأما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : يجوز الاقتصار في الاستنجاء على الماء ويجوز الاقتصار على الأحجار ; والأفضل أن يجمع بينهما فيستعمل الأحجار ثم يستعمل الماء فتقديم الأحجار لتقل مباشرة النجاسة واستعمال الماء ، ثم يستعمل الماء ليطهر المحل طهارة كاملة فلو استنجى أولا بالماء لم يستعمل الأحجار بعده لأنه لا فائدة فيه ، صرح به الماوردي وآخرون وهو واضح ، وإن أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه يطهر المحل ، ولا فرق في جواز الاقتصار على الأحجار بين وجود الماء وعدمه ، ولا بين الحاضر والمسافر ، والصحيح والمريض . هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم . وحكى ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم كانوا لا يرون الاستنجاء بالماء ، وعن سعيد بن المسيب قال ما يفعل ذلك إلا النساء وقال عطاء : غسل الدبر محدث . قال القاضي أبو الطيب وغيره قالت الزيدية والقاسمية من الشيعة : لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء . فأما سعيد وموافقوه فكلامهم محمول على أن الاستنجاء بالماء لا يجب ، أو أن الأحجار عندهم أفضل ; وأما الشيعة فلا يعتد بخلافهم ومع هذا فهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار وأذن فيه وفعله ، وقد سبقت جملة من الأحاديث وسنذكر الباقي في مواضعها إن شاء الله تعالى .

                                      [ ص: 118 ] وأما الدليل على جوازه بالماء فأحاديث كثيرة صحيحة مشهورة منها حديث أنس { كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الخلاء فأتبعه أنا وغلام بإداوة من ماء فيستنجي بها } " رواه البخاري ومسلم . وعن عائشة أنها قالت لنسوة " { مرن أزواجكن أن يستنجوا بالماء فإني أستحييهم وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله } " حديث صحيح رواه أحمد والترمذي والنسائي وآخرون ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وعن أبي هريرة : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ } " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ، ولم يضعفه أبو داود ولا غيره وإسناده صحيح إلا أن فيه شريك بن عبد الله القاضي وقد اختلفوا في الاحتجاج به وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرنا . قال الخطابي : وزعم بعض المتأخرين أن الماء مطعوم فلهذا كره الاستنجاء به سعد وموافقوه ، وهذا قول باطل منابذ للأحاديث الصحيحة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية