الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن بذله له لزمه قبوله لأنه لا منة عليه في قبوله ، وإن باعه منه بثمن المثل وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه ، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة والطعام للمجاعة ، فإن لم يبذله له وهو غير محتاج إليه لنفسه لم يجز أن يكابره على أخذه كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة وصاحبه غير محتاج إليه ; لأن الطعام ليس له بدل وللماء بدل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : " باعه منه " صحيح ، وقد عده بعض الناس في لحن الفقهاء وقال : لا يقال باع منه إنما يقال باعه وليس كما قال بل هما جائزان ، وقد أوضحته في تهذيب الأسماء بدلائله وشواهده ، والشرى والشراء : لغتان مقصور بالياء وممدود بالألف ، والمجاعة - بفتح الميم - هي المخمصة ، وهي شدة الجوع ، وهذه القطعة تشتمل على ثلاث مسائل : إحداها : إذا وهب له الماء لزمه قبوله ، هذا هو الصحيح المنصوص ، وبه قطع الأصحاب في الطرق ، وحكى صاحب التتمة والبيان وغيرهما وجها أنه لا يلزمه ، كما لا يلزمه قبول الرقبة للكفارة ، وهذا ليس بشيء لأن الماء لا يمن به في العادة بخلاف الرقبة ، ولو وهب له ثمن الماء لم يلزمه قبوله بالاتفاق ، ونقل إمام الحرمين الإجماع فيه ، ثم الصحيح المشهور أنه لا فرق بين هبة الأجنبي والقريب ، وذكر الدارمي وجماعة أن هبة الأب لابنه [ ص: 292 ] ثمن الماء وعكسه في وجوب قبولها وجهان كقبول المال ليحج به . وأما هبة آلة الاستقاء فكهبة ثمن الماء ، ذكره القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وآخرون .

                                      وأما إعارتها فقطع الجمهور بوجوب قبولها مطلقا وهو الصحيح فعلى هذا هل يلزمه طلب العارية ؟ فيه الوجهان السابقان في استيهاب الماء ذكره الإمام والغزالي وغيرهما . أصحهما : يجب وانفرد الماوردي فقال : يلزمه الاستعارة إن كان ثمن الآلة قدر ثمن الماء فإن كان أكثر فوجهان ( أحدهما ) : لا يلزم لأنها قد تتلف فيضمن ( والثاني ) يلزم لأن الظاهر سلامتها والله أعلم . المسألة الثانية : إذا وجد الماء يباع بثمن مثله وهو واجد للثمن غير محتاج إليه لزمه شراؤه بلا خلاف ، ودليله ما ذكره المصنف . وفي ثمن المثل ثلاثة أوجه مشهورة عند الخراسانيين .

                                      ( أحدها ) أنه أجرة نقله إلى الموضع الذي هذا المشتري فيه ، ويختلف ذلك ببعد المسافة وقربها ، وعلى هذا قال الرافعي : يجوز أن يعتبر الوسط المقتصد . ويجوز أن يعتبر الحد الذي يسعى إليه المسافر عند تيقن الماء ، فإن ذلك الحد لو لم يقدر على السعي إليه بنفسه وقدر على بذل أجرة لمن ينقل له الماء منه لزمه .

                                      ( والوجه الثاني ) يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات فإن الشربة الواحدة في وقت عزة الماء يرغب فيها بدنانير ، فلو كلفناه شراءه بقيمته في الحال لحقه المشقة والحرج ، وبهذا الوجه قطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وصاحب الشامل وحكوه عن أبي إسحاق المروزي ، واختاره الروياني .

                                      ( والوجه الثالث ) يعتبر ثمن مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة فإن ثمن المثل يعتبر حالة التقويم ، وهذا الثالث هو الصحيح عند جمهور الأصحاب ، وبه قطع الدارمي وجماعة من العراقيين ، ونقله صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد ، ونقله إمام الحرمين عن الأكثرين قال : والوجه الأول بناه قائلوه على أن الماء لا يملك ، وهو وجه سخيف قال : والوجه الثاني أيضا ليس بشيء . قال : وعلى طريقة الأكثرين الأقرب أن يقال لا يعتبر ثمن الماء عند الحاجة [ ص: 293 ] إلى سد الرمق فإن ذلك لا ينضبط ، وربما رغب في الشربة حينئذ بدنانير ، ويبعد في الرخص والتخفيفات أن نوجب ذلك على المسافر ، ولكن يعتبر الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى سد الرمق ، وأما الغزالي رحمه الله فانفرد عن الأصحاب ، فاختار الوجه الأول قال الرافعي : ولم نر أحدا اختاره غيره وغير من تابعه والله أعلم . أما إذا لم يبع الماء إلا بأكثر من ثمن المثل فلا يلزمه شراء بلا خلاف لكن الأفضل أن يشتريه ، صرح به جماعة منهم أبو عبد الله الزبيري في كتابه الكافي ، قال أصحابنا : وسواء كثرت الزيادة على ثمن المثل أو قلت لا يلزمه الشراء ، هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور في كل الطرق ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم ، وفيه وجه أنه يجب شراؤه بزيادة يتغابن الناس بها ، وبه قطع البغوي ، وحكاه المتولي عن القاضي حسين بعد حكايته عن الأصحاب أنه لا فرق ، والمذهب ما سبق عن الجمهور لأن هذا القدر من المال محترم ولهذا لو خاف تلف شيء يسير من ماله لو ذهب إلى الماء لم يلزمه الذهاب ، وبهذا الذي ذكرناه عن جمهور أصحابنا ، قال جماهير علماء السلف والخلف وقال الثوري وأبو حنيفة : يلزمه شراؤه بالغبن اليسير ، وقال الحسن البصري يلزمه شراؤه بكل ماله والله أعلم .

                                      هذا إذا وجد ثمن الماء وهو غير محتاج إليه ، فإن وجده ولكنه يحتاج إليه لدين مستغرق أو نفقته ، أو نفقة من تلزمه نفقته من عياله أو مملوكه أو حيوانه المحترم أو غير ذلك من مؤن السفر في ذهابه ورجوعه من مأكوله ومشروبه ، وملبوسه ومركوبه لم يجب صرفه في الماء ، فإن فضل عن هذه الحاجات لزمه صرفه في الماء من أي نوع كان ماله ولو لم يكن معه ماء ولا ثمنه ووجد من يقرضه الماء وجب قبوله على المذهب ، وفيه وجه أنه لا يجب حكاه البغوي . ولو أقرضه ثمن الماء - فإن لم يكن له مال غائب لم يلزمه قبوله بلا خلاف وإن كان فوجهان مشهوران ، قطع إمام الحرمين والغزالي بالوجوب ، والأصح أنه لا يجب ، صححه الرافعي وغيره ; لأنه لا يؤمن أن يطالبه قبل وصوله إلى ماله ، ولو وجد من يبيعه الماء بثمن مؤجل - فإن لم يكن له مال غائب - لم يلزمه شراؤه بلا خلاف ، وإن كان فوجهان ، الصحيح [ ص: 294 ] يلزمه شراؤه ، وهو المنصوص في البويطي وبه قطع الجمهور .

                                      ممن قطع به القاضي أبو الطيب والبندنيجي والمحاملي في المجموع والفوراني وابن الصباغ والمتولي والشيخ نصر والبغوي وآخرون ; لأن الأجل لازم فلا مطالبة قبل حلوله بخلاف القرض . وشذ الماوردي فقطع بأنه لا يلزمه الشراء بمؤجل وإن كان مالكا للثمن في بلده ; لأنه يجوز أن يتلف ماله فيبقى الدين عليه وفي ذلك ضرر ، واختاره الشاشي ، والمختار الأول . وصورة المسألة أن يكون الأجل ممتدا إلى أن يصل بلد ماله ، ولا فرق بين أن يزاد في الثمن بسبب الأجل ما يليق به أو لا يزاد ، هذا هو الصحيح المشهور وفيه وجه أنه لا يلزمه إذا زاد على ثمن النقد وبه قطع القاضي حسين وهو شاذ ضعيف ، فإن قيل : لم قطعتم هنا بأنه لا يلزمه الشراء بمؤجل إذا لم يكن له مال غائب وقلتم فيمن لا يجد طول حرة ، ووجد حرة ترضى بمهر مؤجل لا يباح له نكاح الأمة في وجه ، فالجواب ما أجاب به المتولي وغيره أنه في النكاح تعلق به حق ثالث وهو الولد ، فإن ولد الأمة يكون رقيقا فراعينا حقه ، وهنا الحق لله تعالى ، وهو مبني على المسامحة مع أنه أتى ببدل .

                                      ولو وجد آلة الاستقاء بالثمن أو الأجرة لزمه تحصيلها بثمن المثل أو أجرة المثل ، فإن زاد لم يجب ، كذا قاله الأصحاب . قال الرافعي : ولو قيل : يجب ما لم تجاوز الزيادة ثمن مثل الماء لكان حسنا ، وكذا العريان إذا وجد ثوبا يباع أو يؤجر يلزمه تحصيله بثمن المثل أو أجرة المثل إذا وجد . قال أصحابنا : وإذا لم يفعل ما أوجبناه عليه في هذه الصور كلها وصلى بالتيمم أثم ولزمه الإعادة إلا إذا وهب له الماء فلم يقبله فإنه يأثم ، وفي الإعادة تفصيل ، فإن كان الماء حال التيمم باقيا في يد الواهب وهو باق على هبته لم يصح تيممه ، وإن لم يكن الماء باقيا أو رجع عن هبته ففي الإعادة الوجهان فيمن أراق الماء سفها ، وسيأتي إيضاحهما حيث ذكرهما المصنف إن شاء الله تعالى . ولو وجد العريان ماء وثوبا يباعان ومعه ثمن [ ص: 295 ] أحدهما فقط لزمه شراء الثوب لأنه لا بدل له . قال البغوي : ولهذا يلزمه أن يشتري لعبده ساتر عورته ، ولا يلزمه شراء الماء لطهارته في السفر ، والله أعلم . المسألة الثالثة : إذا احتاج إلى ماء الطهارة دون العطش ووجد الماء مع من لا يحتاج إليه فطلبه منه بيعا أو هبة أو قرضا فامتنع من ذلك لم يجز أن يقهره على أخذه بلا خلاف ، بخلاف ما لو احتاج إليه لشدة العطش وصاحبه غير محتاج إليه فإنه يقهره على أخذه ; لأن لماء الطهارة بدلا فيتيمم ويصلي ولا إعادة . قال أصحابنا ولا يجب على صاحب الماء بذله لطهارة هذا المحتاج ، هذا هو الصحيح المشهور . وحكى صاحب البيان عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا أنه قال : يلزمه . وحكى الدارمي عن أبي عبيد أنه حكاه عن بعض المتقدمين والمذهب الأول ، ولا يجوز للعاري أن يقهر صاحب الثوب على أخذه لستر العورة للصلاة فإن خاف من حر أو برد فله قهره إذا لم يضطر صاحبه إليه ، هكذا ذكره البغوي وغيره ، وهو كما ذكره . قال أصحابنا : وحيث قلنا يجوز أن يقهره ويكابره ، فإن قهره فأدى إلى هلاك المالك كان هدرا لأنه ظالم بمنعه ، وإن أدى إلى هلاك المضطر كان مضمونا لأنه مظلوم .



                                      قال أصحابنا : ولو كان مع المحتاج إلى ماء الطهارة ماء مغصوب أو مرهون أو وديعة تيمم وصلى ولا إعادة عليه ، ويحرم عليه أن يتوضأ به ، وهذا وإن كان ظاهرا فذكرته لأن بعض الناس قد يتساهل فيه ، فإن خالف وتوضأ به صح - وإن كان عاصيا - وأجزأته صلاته والله أعلم . وأما قول المصنف رحمه الله : ( لا يجوز أن يكابره على الماء للطهارة كما يكابره على طعام يحتاج إليه للمجاعة لأن الطعام لا بدل له وللماء بدل ) فهذا التعليل ينتقض بالعاري فإنه لا يجوز أن يكابر صاحب الثوب ، وإن كان لا بدل للثوب وإنما التعليل الصحيح أن المكابرة في الطعام جازت لحرمة الروح ، ولهذا حلت الميتة للمضطر وأما الطهارة بالماء فإنما تجب على من وجده ، وهذا لم يجده والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية