الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 1345 ) مسألة : قال : ( وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع ، فصلاة الجمعة في جميعها جائزة ) وجملته أن البلد متى كان كبيرا ، يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ، ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره ، أو ضيق مسجده عن أهله ، كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار ، جازت إقامة الجماعة فيما يحتاج إليه من جوامعها ، وهذا قول عطاء .

                                                                                                                                            وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها ; لأن الحدود تقام فيها في موضعين ، والجمعة حيث تقام الحدود ، ومقتضى قوله : إنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين ، جازت إقامة الجمعة في موضعين منه ; لأن الجمعة حيث تقام الحدود ، وهذا قول ابن المبارك

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، ومالك والشافعي : لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد ، } وكذلك الخلفاء بعده ، ولو جاز لم يعطلوا المساجد ، حتى قال ابن عمر : لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر ، الذي يصلي فيه الإمام .

                                                                                                                                            ولنا ، أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة ، فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع ، كصلاة العيد .

                                                                                                                                            وقد ثبت أن عليا ، رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ، ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري ، فيصلي بهم . فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة جمعتين ، فلغناهم عن إحداهما ، ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته ، وشهود جمعته ، وإن بعدت منازلهم ، لأنه المبلغ عن الله تعالى ، وشارع الأحكام ، ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ، ولم ينكر ، فصار إجماعا .

                                                                                                                                            وقول ابن عمر ، يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ويترك الكبير ، [ ص: 93 ] وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود ، فلا وجه له . قال أبو داود : سمعت أحمد يقول : أي حد كان يقام بالمدينة ، قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار ، فجمع بهم وهم أربعون . ( 1346 )

                                                                                                                                            فصل : فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد ، وإن حصل الغنى باثنتين لم تجز الثالثة ، وكذلك ما زاد ، لا نعلم في هذا مخالفا ، إلا أن عطاء قيل له : إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر .

                                                                                                                                            قال : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ، ويجزئ ذلك من التجميع في المسجد الأكبر . وما عليه الجمهور أولى ، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة ، إذ لم تدع الحاجة إلى ذلك ، ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل ، فإن صلوا جمعتين في مصر واحد من غير حاجة ، وإحداهما جمعة الإمام ، فهي صحيحة تقدمت أو تأخرت ، والأخرى باطلة ، لأن في الحكم ببطلان جمعة الإمام افتياتا عليه ، وتفويتا له الجمعة ولمن يصلي معه ، ويفضي إلى أنه متى شاء أربعون أن يفسدوا صلاة أهل البلد أمكنهم ذلك ، بأن يجتمعوا في موضع ، ويسبقوا أهل البلد بصلاة الجمعة

                                                                                                                                            وقيل : السابقة هي الصحيحة ، لأنها لم يتقدمها ما يفسدها ، ولا تفسد بعد صحتها بما بعدها . والأول أصح ، لما ذكرنا . وإن كانت إحداهما في المسجد الجامع والأخرى في مكان صغير لا يسع المصلين ، أو لا يمكنهم الصلاة فيه ; لاختصاص السلطان وجنده به ، أو غير ذلك ، أو كان أحدهما في قصبة البلد ، والآخر في أقصى المدينة ، كان من وجدت فيه هذه المعاني صلاتهم صحيحة دون الأخرى .

                                                                                                                                            وهذا قول مالك ; فإنه قال : لا أرى الجمعة إلا لأهل القصبة ; وذلك لأن لهذه المعاني مزية تقتضي التقديم ، فقدم بها ، كجمعة الإمام .

                                                                                                                                            ويحتمل أن تصح السابقة منهما دون الأخرى ، لأن إذن الإمام آكد ، ولذلك اشترط في إحدى الروايتين . وإن لم يكن لإحداهما مزية ، لكونهما جميعا مأذونا فيهما ، أو غير مأذون في واحدة منهما ، وتساوى المكانان في إمكان إقامة الجمعة في كل واحد منهما ، فالسابقة هي الصحيحة ; لأنها وقعت بشروطها ، ولم يزاحمها ما يبطلها ، ولا سبقها ما يغني عنها ، والثانية باطلة ; لكونها واقعة في مصر أقيمت فيه جمعة صحيحة ، تغني عما سواها

                                                                                                                                            ويعتبر السبق بالإحرام ; لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بغيرها ; للغنى عنها ، فإن وقع الإحرام بهما معا فهما باطلتان معا ; لأنه لا يمكن صحتهما معا ، وليست إحداهما بالفساد أولى من الأخرى ، فبطلتا كالمتزوج أختين ، أو إذا زوج الوليان رجلين . وإن لم تعلم الأولى منهما ، أو لم يعلم كيفية وقوعهما ، بطلتا أيضا ; لأن إحداهما باطلة ، ولم تعلم بعينها ، وليست إحداهما بالإبطال أولى من الأخرى ، فبطلتا كالمسألتين .

                                                                                                                                            ثم إن علمنا فساد الجمعتين لوقوعهما معا ، وجب إعادة الجمعة إن أمكن ذلك ، لبقاء الوقت ، لأنه مصر ما أقيمت فيه جمعة صحيحة ، والوقت متسع لإقامتها فلزمتهم ، كما لو لم يصلوا شيئا .

                                                                                                                                            وإن تيقنا صحة إحداهما لا بعينها ، فليس لهم أن يصلوا إلا ظهرا ، لأنه مصر تيقنا سقوط فرض الجمعة فيه بالأولى منهما ، فلم تجز إقامة الجمعة فيه ، كما لو علمناها وقال القاضي : يحتمل أن لهم إقامة جمعة أخرى ; لأننا حكمنا بفسادهما معا ، فكأن المصر ما صليت فيه جمعة صحيحة .

                                                                                                                                            والصحيح الأول ; لأن الصحيحة لم تفسد ، وإنما لم يمكن إثبات حكم الصحة لها بعينها ; لجهلها ، فيصير هذا كما لو زوج الوليان أحدهما قبل الآخر ، وجهل السابق منهما ، فإنه لا يثبت حكم الصحة بالنسبة إلى واحد بعينه ، وثبت حكم النكاح في حق المرأة ، بحيث لا يحل [ ص: 94 ] لها أن تنكح زوجا آخر

                                                                                                                                            فأما إن جهلنا كيفية وقوعهما ، فالأولى أن لا يجوز إقامة الجمعة أيضا ، لأن الظاهر صحة إحداهما ، لأن وقوعهما معا - بحيث لا يسبق إحرام إحداهما الأخرى - بعيد جدا ، وما كان في غاية الندرة فحكمه حكم المعدوم ، ولأننا شككنا في شرط إقامة الجمعة ، فلم يجز إقامتها مع الشك في شرطها ، ويحتمل أن لهم إقامتها ; لأننا لم نتيقن المانع من صحتها . والأول أولى

                                                                                                                                            ( 1347 ) فصل : وإن أحرم بالجمعة فتبين في أثناء الصلاة أن الجمعة قد أقيمت في المصر ، بطلت الجمعة ، ولزمهم استئناف الظهر ; لأننا تبينا أنه أحرم بها في وقت لا يجوز الإحرام بالجمعة ، فلا تصح ، فأشبه ، ما لو تبين أنه أحرم بها بعد دخول وقت العصر . وقال القاضي : يستحب أن يستأنف ظهرا ، وهذا من قوله يدل على أن له إتمامها ظهرا قياسا على المسبوق الذي أدرك دون الركعة ، وكما لو أحرم بالجمعة فانفض العدد قبل إتمامها .

                                                                                                                                            والفرق ظاهر ; فإن هذا أحرم بها في وقت لا تصح الجمعة فيه ، ولا يجوز الإحرام بها ، والأصل الذي قاس عليه بخلاف هذا . ( 1348 ) فصل : وإذا كانت قرية إلى جانب مصر ، يسمعون النداء منه ، فأقاموا جمعة فيها ، لم تبطل جمعة أهل المصر ; لأنهم في غير المصر ، ولأن لجمعة المصر مزية بكونها فيه . ولو كان مصران متقاربان ، يسمع أهل كل مصر نداء المصر الآخر ، كأهل مصر والقاهرة ، لم تبطل جمعة أحدهما بجمعة الآخر .

                                                                                                                                            وكذلك القريتان المتقاربتان ; لأن لكل قوم منهم حكم أنفسهم ، بدليل أن جمعة أحد الفريقين لا يتم عددها بالفريق الآخر ، ولا تلزمهم الجمعة بكمال العدة بالفريق الآخر ، وإنما يلزمهم السعي إذا لم يكن لهم جمعة ، فهم كأهل المحلة القريبة من المصر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية