الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2290 ) مسألة : قال : ( فإن أراد التمتع ، وهو اختيار أبي عبد الله ، فيقول : اللهم إني أريد العمرة ) وجملة ذلك أن الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة ; تمتع ، وإفراد ، وقران . فالتمتع أن يهل بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحج ، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من عامه . والإفراد أن يهل بالحج مفردا . والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما ، أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل عليها الحج قبل الطواف . فأي ذلك أحرم به جاز . قالت عائشة : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج } متفق عليه . فهذا هو التمتع والإفراد والقران . وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء ، واختلفوا في أفضلها ، فاختار إمامنا التمتع ، ثم الإفراد ، ثم القران .

                                                                                                                                            وممن روي عنه اختيار التمتع ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وعائشة ، والحسن ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والقاسم وسالم وعكرمة . وهو أحد قولي الشافعي . وروى المروذي عن أحمد : إن ساق الهدي ، فالقران أفضل ، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كل من ساق الهدي من الحل حتى ينحر هديه . وذهب الثوري ، وأصحاب الرأي إلى اختيار القران ; لما روى أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { أهل بهما جميعا : لبيك عمرة وحجا ، لبيك عمرة وحجا } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وحديث الصبي بن معبد ، حين لبى بهما ، ثم أتى عمر فسأله فقال { : هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم . } وروي عن مروان بن الحكم ، قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان ، فسمع عليا يلبي بعمرة وحج ، فأرسل إليه ، فقال : ألم نكن نهينا عن هذا ؟ قال : بلى ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { يلبي بهما جميعا ، فلم أكن أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولك } . رواه سعيد . ولأن القران مبادرة إلى فعل العبادة ، وإحرام بالنسكين من الميقات ، وفيه زيادة نسك هو الدم ، فكان أولى .

                                                                                                                                            وذهب مالك ، وأبو ثور ، إلى اختيار الإفراد . وهو ظاهر مذهب الشافعي . وروي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وجابر ، وعائشة ، لما روت عائشة ، وجابر ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج } . متفق عليهما . وعن ابن عمر وابن عباس مثل ذلك . متفق عليهما . ولأنه يأتي بالحج تاما من غير احتياج إلى جبر ، فكان أولى .

                                                                                                                                            قال عثمان : ألا إن الحج التام من أهليكم ، والعمرة التامة من أهليكم . وقال إبراهيم : إن أبا بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وعائشة ، كانوا يجردون الحج . ولنا ، ما روى ابن عباس ، وجابر ، وأبو موسى ، وعائشة ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت ، أن يحلوا ، ويجعلوها عمرة } . فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل . وهذه الأحاديث [ ص: 123 ] متفق عليها

                                                                                                                                            ولم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة ، أمر أصحابه أن يحلوا ، إلا من ساق هديا ، وثبت على إحرامه ، وقال : { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة } . قال جابر : حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : { أحلوا من إحرامكم ، بطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم أقيموا حلالا ، حتى إذا كان يوم التروية ، فأهلوا بالحج ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة . فقالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ؟ فقال : افعلوا ما أمرتكم به ، فلولا أني سقت الهدي ، لفعلت مثل الذي أمرتكم به } . وفي لفظ : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { قد علمتم أني أتقاكم لله ، وأصدقكم ، وأبركم ، ولولا هديي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ، ما أهديت . فحللنا ، وسمعنا ، وأطعنا } ، متفق عليهما فنقلهم إلى التمتع ، وتأسف إذ لم يمكنه ذلك ، فدل على فضله . ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله تعالى بقوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } دون سائر الأنساك .

                                                                                                                                            ولأن المتمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج مع كمالهما ، وكمال أفعالهما على وجه اليسر والسهولة ، مع زيادة نسك ، فكان ذلك أولى ، فأما القران فإنما يؤتى فيه بأفعال الحج ، وتدخل أفعال العمرة فيه ، والمفرد فإنما يأتي بالحج وحده ، وإن اعتمر بعده من التنعيم ، فقد اختلف في إجزائها عن عمرة الإسلام ، وكذلك اختلف في إجزاء عمرة القران ، ولا خلاف في إجزاء التمتع عن الحج والعمرة جميعا ، فكان أولى .

                                                                                                                                            فأما حجتهم ، فإنما احتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم والجواب عنها من أوجه : الأول ، أنا نمنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم محرما بغير التمتع ، ولا يصح الاحتجاج بأحاديثهم لأمور ; أحدها ، أن رواة أحاديثهم قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم تمتع بالعمرة إلى الحج ، روى ذلك ابن عمر ، وجابر ، وعائشة ، من طرق صحاح ، فسقط الاحتجاج بها . الثاني ، أن روايتهم اختلفت ، فرووا مرة أنه أفرد ، ومرة أنه تمتع ، ومرة أنه قرن ، والقضية واحدة ، ولا يمكن الجمع بينها ، فيجب اطراحها كلها ، وأحاديث القران أصحها حديث أنس ، وقد أنكره ابن عمر ، فقال : يرحم الله أنسا ، ذهل أنس . متفق عليه . وفي رواية : كان أنس يتولج على النساء . يعني أنه كان صغيرا . وحديث علي رواه حفص بن أبي داود ، وهو ضعيف ، عن ابن أبي ليلى ، وهو كثير الوهم . قاله الدارقطني . الثالث ، أن أكثر الروايات ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا . روى ذلك عمر ، وعلي ، وعثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية ، وأبو موسى ، وجابر ، وعائشة ، وحفصة ، بأحاديث صحيحة ، وإنما منعه من الحل الهدي الذي كان معه ، ففي حديث عمر ، أنه قال { : إني لا أنهاكم عن المتعة ، وإنها لفي كتاب الله ، ولقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم . } يعني العمرة في الحج .

                                                                                                                                            وفي حديث علي ، أنه اختلف هو وعثمان في المتعة بعسفان ، فقال علي : { ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه } . متفق عليه . وللنسائي ، وقال علي لعثمان : { ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع ؟ قال : بلى } . وعن ابن عمر ، قال : { تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج } . وعنه أن حفصة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ما [ ص: 124 ] شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر } متفق عليهما .

                                                                                                                                            وقال سعد : صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه . وهذه الأحاديث راجحة ; لأن رواتها أكثر وأعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمتعة عن نفسه ، في حديث حفصة ، فلا تعارض بظن غيره . ولأن عائشة كانت متمتعة بغير خلاف ، وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحرم إلا بأمره ، ولم يكن ليأمرها بأمر ، ثم يخالف إلى غيره . ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث ، بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ، ثم لم يحل منها لأجل هديه ، حتى أحرم بالحج ، فصار قارنا ، وسماه من سماه مفردا ; لأنه اشتغل بأفعال الحج وحدها ، بعد فراغه من أفعال العمرة ، فإن الجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من حملها على التعارض .

                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بالانتقال إلى المتعة عن الإفراد والقران ، ولا يأمرهم إلا بالانتقال إلى الأفضل ، فإنه من المحال أن ينقلهم من الأفضل إلى الأدنى ، وهو الداعي إلى الخير ، الهادي إلى الفضل ، ثم أكد ذلك بتأسفه على فوات ذلك في حقه ، وأنه لا يقدر على انتقاله وحله ، لسوقه الهدي ، وهذا ظاهر الدلالة . الثالث ، أن ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحتجون بفعله ، وعند التعارض يجب تقديم القول ، لاحتمال اختصاصه بفعله دون غيره ، كنهيه عن الوصال مع فعله له ، ونكاحه بغير ولي ولا شهود ، مع قوله : { لا نكاح إلا بولي } . فإن قيل : فقد قال أبو ذر : كانت متعة الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . رواه مسلم . قلنا : هذا قول صحابي ، يخالف الكتاب والسنة والإجماع وقول من هو خير منه وأعلم ; أما الكتاب فقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } وهذا عام . وأجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار ، وإنما اختلفوا في فضله ، وأما السنة فروى سعيد ، حدثنا هشيم ، أنبأنا حجاج ، عن عطاء ، عن جابر ، { أن سراقة بن مالك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، المتعة لنا خاصة ، أو هي للأبد ؟ فقال : بل هي للأبد } .

                                                                                                                                            وفي لفظ قال : { ألعامنا أو للأبد ؟ قال : بل لأبد الأبد ، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } . وفي حديث جابر الذي رواه مسلم في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا ، ومعناه ، والله أعلم ، أن أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع ، ويرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد شرع العمرة في أشهر الحج ، وجوز المتعة إلى يوم القيامة . وقال طاوس : كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور ، ويقولون : إذا انفسخ صفر ، وبرا الدبر ، وعفا الأثر ، حلت العمرة لمن اعتمر . فلما كان الإسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج ، فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة . رواه سعيد . وقد خالف أبا ذر علي ، وسعد ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، وسائر الصحابة ، وسائر المسلمين ، قال عمران : { تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن ، ولم ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسخها شيء } ، فقال فيها رجل برأيه ما شاء . متفق عليه .

                                                                                                                                            وقال [ ص: 125 ] سعد بن أبي وقاص : { فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني المتعة } - وهذا يومئذ كافر بالعرش . يعني الذي نهى عنها ، والعرش : بيوت مكة . وقال أحمد ، حين ذكر له حديث أبي ذر : أفيقول بهذا أحد ، المتعة في كتاب الله ، وقد أجمع المسلمون على جوازها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روى أبو داود ، بإسناده عن سعيد بن المسيب ، { أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر ، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن العمرة قبل الحج } . قلنا : هذا حاله في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع ، كحال حديث أبي ذر ، بل هو أدنى حالا ، فإن في إسناده مقالا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد نهى عنها عمر ، وعثمان ، ومعاوية . قلنا : فقد أنكر عليهم علماء الصحابة نهيهم عنها ، وخالفوهم في فعلها ، والحق مع المنكرين عليهم دونهم ، وقد ذكرنا إنكار علي على عثمان ، واعتراف عثمان له ، وقول عمران بن حصين منكرا لنهي من نهى ، وقول سعد عائبا على معاوية نهيه عنها ، وردهم عليهم بحجج لم يكن لهم جواب عنها ، بل قد ذكر بعض من نهى عنها في كلامه ، ما يرد نهيه ، فقال عمر : والله إني لأنهاكم عنها ، وإنها لفي كتاب الله ، وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا خلاف في أن من خالف كتاب الله وسنة رسوله ، ونهى عما فيهما ، حقيق بأن لا يقبل نهيه ، ولا يحتج به ، مع أنه قد سئل سالم بن عبد الله بن عمر ، أنهى عمر عن المتعة ؟ قال : لا ، والله ما نهى عنها عمر ، ولكن قد نهى عثمان . وسئل ابن عمر عن متعة الحج ، فأمر بها ، فقيل : إنك تخالف أباك . قال : إن عمر لم يقل الذي يقولون . ولما نهى معاوية عن المتعة ، أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلوا بها ، فقال معاوية : من هؤلاء ؟ فقيل : حشم أو موالي عائشة . فأرسل إليها : ما حملك على ذلك ؟ قالت : أحببت أن يعلم أن الذي قلت ليس كما قلت . وقيل لابن عباس : إن فلانا ينهى عن المتعة . قال : انظروا في كتاب الله ، فإن وجدتموها فيه ، فقد كذب على الله وعلى رسوله ، وإن لم تجدوها فقد صدق . فأي الفريقين أحق بالاتباع ، وأولى بالصواب ، الذين معهم كتاب الله وسنة رسوله ، أم الذين خالفوهما ؟ ثم قد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة على الخلق أجمعين ، فكيف يعارض بقول غيره ؟ قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : قال : { تمتع النبي صلى الله عليه وسلم } فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة . فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون نهى عنها أبو بكر وعمر . وسئل ابن عمر عن متعة الحج ، فأمر بها ، فقال : إنك تخالف أباك ، فقال : عمر لم يقل الذي يقولون . فلما أكثروا عليه ، قال : أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر ؟ . روى الأثرم هذا كله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية