الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2513 ) مسألة : قال : ( فيكبر ، ويهلل ، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس ) يستحب الإكثار من ذكر الله تعالى والدعاء يوم عرفة ; فإنه يوم ترجى فيه الإجابة ، ولذلك أحببنا له الفطر يومئذ ، ليتقوى على الدعاء ، مع أن صومه بغير عرفة يعدل سنتين . وروى ابن ماجه ، في ( سننه ) ، قال : قالت عائشة رضي الله عنها : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، فإنه ليدنو عز وجل ، ثم يباهي بكم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ } . رواه مسلم .

                                                                                                                                            ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية ، مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { أكثر دعاء الأنبياء قبلي ، ودعائي عشية عرفة ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير } . وكان ابن عمر يقول : الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، اللهم اهدني بالهدى ، وقني بالتقوى ، واغفر لي في الآخرة والأولى . ويرد يديه ، ويسكت بقدر ما كان إنسان قارئا فاتحة الكتاب ، ثم يعود فيرفع يديه ، ويقول مثل ذلك . ولم يزل يفعل مثل ذلك حتى أفاض .

                                                                                                                                            وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة ؟ فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . فقيل له : هذا ثناء ، وليس بدعاء . فقال : أما سمعت قول الشاعر :

                                                                                                                                            أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء     إذا أثنى عليك المرء يوما
                                                                                                                                            كفاه من تعرضه الثناء

                                                                                                                                            وروي أن من دعاء النبي عليه السلام { بعرفة : اللهم إنك ترى مكاني ، وتسمع كلامي ، وتعلم سري وعلانيتي ، ولا [ ص: 209 ] يخفى عليك شيء من أمري ، أنا البائس الفقير ، المستغيث المستجير ، الوجل المشفق ، المقر المعترف بذنبه ، أسألك مسألة المسكين ، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، من خشعت لك رقبته ، وذل لك جسده ، وفاضت لك عينه ، ورغم لك أنفه } .

                                                                                                                                            وروينا عن سفيان الثوري ، أنه قال : سمعت أعرابيا ، وهو مستلق بعرفة ، يقول : إلهي من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا ، ومن أولى بالعفو عني منك ، وعلمك في سابق ، وأمرك بي محيط ، أطعتك بإذنك والمنة لك ، وعصيتك بعلمك والحجة لك ، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي ، وبفقري إليك وغناك عني ، أن تغفر لي وترحمني ، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ، ولم أسئ ، حتى قضيت علي ، اللهم أطعتك بنعمتك في أحب الأشياء إليك ، شهادة أن لا إله إلا الله ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك ، الشرك بك ، فاغفر لي ما بينهما ، اللهم أنت أنس المؤنسين لأوليائك ، وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك ، تشاهدهم في ضمائرهم ، وتطلع على سرائرهم ، وسري اللهم لك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك ، وإذا أصمت علي الهموم لجأت إليك ، استجارة بك ، علما بأن أزمة الأمور بيدك ، ومصدرها عن قضائك .

                                                                                                                                            وكان إبراهيم بن إسحاق الحربي ، يقول : اللهم قد آويتني من ضناي ، وبصرتني من عماي ، وأنقذتني من جهلي وجفاي ، أسألك ما يتم به فوزي ، وما أؤمل في عاجل دنياي وديني ، ومأمول أجلي ومعادي ، ثم ما لا أبلغ أداء شكره ، ولا أنال إحصاءه وذكره ، إلا بتوفيقك وإلهامك ، أن هيجت قلبي القاسي ، على الشخوص إلى حرمك ، وقويت أركاني الضعيفة لزيارة عتيق بيتك ، ونقلت بدني ، لإشهادي مواقف حرمك ، اقتداء بسنة خليلك ، واحتذاء على مثال رسولك ، واتباعا لآثار خيرتك وأنبيائك وأصفيائك ، صلى الله عليهم ، وأدعوك في مواقف الأنبياء ، عليهم السلام ، ومناسك السعداء ، ومساجد الشهداء ، دعاء من أتاك لرحمتك راجيا ، وعن وطنه نائيا ، ولقضاء نسكه مؤديا ، ولفرائضك قاضيا ، ولكتابك تاليا ، ولربه عز وجل داعيا ملبيا ، ولقلبه شاكيا ، ولذنبه خاشيا ، ولحظه مخطئا ، ولرهنه مغلقا ، ولنفسه ظالما ، وبجرمه عالما ، دعاء من جمت عيوبه ، وكثرت ذنوبه ، وتصرمت أيامه ، واشتدت فاقته ، وانقطعت مدته ، دعاء من ليس لذنبه سواك غافرا ، ولا لعيبه غيرك مصلحا ، ولا لضعفه غيرك مقويا ، ولا لكسره غيرك جابرا ، ولا لمأمول خير غيرك معطيا ، ولا لما يتخوف من حر ناره غيرك معتقا ، اللهم وقد أصبحت في بلد حرام ، في يوم حرام في شهر حرام ، في قيام من خير الأنام ، أسألك أن لا تجعلني أشقى خلقك المذنبين عندك ، ولا أخيب الراجين لديك ، ولا أحرم الآملين لرحمتك ، الزائرين لبيتك ، ولا أخسر المنقلبين من بلادك ، اللهم وقد كان من تقصيري ما قد عرفت ، ومن توبيقي نفسي ما قد علمت ، ومن مظالمي ما قد أحصيت ، فكم من كرب منه قد نجيت ، ومن غم قد جليت ، وهم قد فرجت ، ودعاء قد استجبت ، وشدة قد أزلت ، ورخاء قد أنلت ، منك النعماء ، وحسن القضاء ، ومني الجفاء ، وطول الاستقصاء ، والتقصير عن أداء شكرك ، لك النعماء يا محمود ، فلا يمنعنك يا محمود من إعطائي مسألتي من [ ص: 210 ] حاجتي إلى حيث انتهى لها سؤلي ، ما تعرف من تقصيري ، وما تعلم من ذنوبي وعيوبي ، اللهم فأدعوك راغبا ، وأنصب لك وجهي طالبا ، وأضع خدي مذنبا راهبا ، فتقبل دعائي ، وارحم ضعفي ، وأصلح الفساد من أمري ، واقطع من الدنيا همي وحاجتي ، واجعل فيما عندك رغبتي ، اللهم واقلبني منقلب المدركين لرجائهم ، المقبول دعاؤهم ، المفلوج حجتهم ، المبرور حجتهم ، المغفور ذنبهم ، المحطوط خطاياهم ، الممحو سيئاتهم ، المرشود أمرهم ، منقلب من لا يعصي لك بعده أمرا ، ولا يأتي من بعده مأثما ، ولا يركب بعده جهلا ، ولا يحمل بعده وزرا ، منقلب من عمرت قلبه ، بذكرك ، ولسانه بشكرك ، وطهرت الأدناس من بدنه ، واستودعت الهدى قلبه ، وشرحت بالإسلام صدره ، وأقررت بعفوك قبل الممات عينه ، وأغضضت عن المآثم بصره ، واستشهدت في سبيلك نفسه ، يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا ، كما تحب ربنا وترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

                                                                                                                                            وقول الخرقي : ( إلى غروب الشمس ) . معناه ويجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ( بعرفة ) ; ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غابت الشمس في حديث جابر ، وفي حديث علي ، وأسامة ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع حين غابت الشمس } . فإن دفع قبل الغروب فحجه صحيح ، في قول جماعة الفقهاء ، إلا مالكا ، فإنه قال : لا حج له . قال ابن عبد البر : لا نعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقول مالك ، وحجته ما روى ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ، ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج ، فليحلل بعمرة ، وعليه الحج من قابل } .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روى عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي ، قال { : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة . فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبل طي ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى يدفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه } . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                            ولأنه وقف في زمن الوقوف ، فأجزأه ، كالليل . فأما خبره ، فإنما خص الليل ; لأن الفوات يتعلق به إذا كان يوجد بعد النهار ، فهو آخر وقت الوقوف ، كما قال عليه السلام { : من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدركها ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدركها } .

                                                                                                                                            وعلى من دفع قبل الغروب دم ، في قول أكثر أهل العلم ، منهم عطاء ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، ومن تبعهم . وقال ابن جريج : عليه بدنة . وقال الحسن البصري : عليه هدي من الإبل . ولنا ، أنه واجب ، لا يفسد الحج بفواته ، فلم يوجب البدنة ، كالإحرام من الميقات .

                                                                                                                                            ( 2514 ) فصل : فإن دفع قبل الغروب ، ثم عاد نهارا فوقف حتى غربت الشمس ، فلا دم عليه . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وقال الكوفيون ، وأبو ثور : عليه دم ; لأنه بالدفع لزمه الدم ، فلم يسقط برجوعه ، كما لو عاد [ ص: 211 ] بعد غروب الشمس .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه أتى بالواجب ، وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار ( بعرفة ) ، فلم يجب عليه دم ، كمن تجاوز الميقات غير محرم ، ثم رجع فأحرم منه . فإن لم يعد حتى غربت الشمس ، فعليه دم ; لأن عليه الوقوف حال الغروب ، وقد فاته بخروجه ، فأشبه من تجاوز الميقات غير محرم ، فأحرم دونه ، ثم عاد إليه . ومن لم يدرك جزءا من النهار ، ولا جاء عرفة ، حتى غابت الشمس ، فوقف ليلا ، فلا شيء عليه ، وحجه تام . لا نعلم فيه مخالفا ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج . } ولأنه لم يدرك جزءا من النهار ، فأشبه من منزله دون الميقات إذا أحرم منه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية