الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2861 ) فصل : والحيل كلها محرمة ، غير جائزة في شيء من الدين ، وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما ، مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله ، واستباحة محظوراته ، أو إسقاط واجب ، أو دفع حق ، ونحو ذلك . قال أيوب السختياني : إنهم ليخادعون الله ، كأنما يخادعون صبيا ، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي . فمن ذلك ; ما لو كان مع رجل عشرة صحاح ، ومع الآخر خمسة عشر مكسرة ، فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه ، ثم تباريا ، توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا ، أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة ، ثم وهبه الخمسة الزائدة ، أو اشترى منه بها أوقية صابون ، أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته ، أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة ، ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير . وهكذا لو أقرضه شيئا ، أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها ، أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض ، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم . وبهذا قال مالك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، والشافعي : ذلك كله وأشباهه جائز ، إذا لم يكن مشروطا في العقد . وقال بعض أصحاب الشافعي : يكره أن يدخلا في البيع على ذلك لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه . ولنا ، أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها ، فمسخهم قردة ، وسماهم معتدين ، وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين ; ليتعظوا بهم ، ويمتنعوا من مثل أفعالهم . وقال بعض المفسرين في قوله تعالى { : وموعظة للمتقين } . أي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            فروي أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة ، ويتركونها إلى يوم الأحد ، ومنهم من كان يحفر حفائر ، ويجعل إليها مجاري ، فيفتحها يوم الجمعة ، فإذا جاء السمك يوم السبت ، جرى مع الماء في المجاري ، فيقع في الحفائر ، فيدعها إلى يوم الأحد ، ثم يأخذها ، ويقول : ما اصطدت يوم السبت ، ولا اعتديت فيه . فهذه حيلة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { : من أدخل فرسا بين فرسين ، وقد أمن أن يسبق ، فهو قمار ، ومن أدخل فرسا بين فرسين ، وهو لا يأمن أن يسبق ، فليس بقمار . } رواه أبو داود ، وغيره . فجعله قمارا مع إدخاله الفرس الثالث ; لكونه لا يمنع معنى القمار ، وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا ، أو مأخوذا منه ، وإنما دخل صورة ، تحيلا على إباحة المحرم ، وسائر الحيل مثل ذلك .

                                                                                                                                            ولأن الله تعالى إنما حرم هذه المحرمات لمفسدتها ، والضرر الحاصل منها . ولا تزول مفسدتها مع إبقاء معناها ، بإظهارهما صورة غير صورتها ، فوجب أن لا يزول التحريم ، كما لو سمى الخمر بغير اسمها ، لم يبح ذلك شربها ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ليستحلن قوم من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها } .

                                                                                                                                            ومن الحيل في غير الربا ، أنهم يتوصلون إلى بيع الشيء المنهي عنه ، أن يستأجر بياض أرض البستان بأمثال أجرته ، ثم يساقيه على ثمر شجره بجزء من ألف جزء للمالك ، وتسعمائة وتسعة وتسعون للعامل ، ولا يأخذ منه المالك شيئا ، ولا يريد ذلك ، وإنما قصد بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بما سماه أجرة ، والعامل [ ص: 57 ] لا يقصد أيضا سوى ذلك ، وربما لا ينتفع بالأرض التي سمى الأجرة في مقابلتها ، ومتى لم يخرج الثمر ، أو أصابته جائحة ، جاء المستأجر يطلب الجائحة ، ويعتقد أنه إنما بذل ماله في مقابلة الثمرة لا غير ، ورب الأرض يعلم ذلك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية