الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2957 ) فصل : وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض ، لم يجز التصرف فيه قبل قبضه ، كالذي ذكرنا . والأجرة ، وبدل الصلح ، إذا كانا من المكيل ، أو الموزون ، أو المعدود ، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه ، جاز التصرف فيه قبل قبضه ، كعوض الخلع ، والعتق على مال ، وبدل الصلح عن دم العمد ، وأرش الجناية ، وقيمة المتلف ; لأن المطلق للتصرف الملك ، وقد وجد . لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه ، لم يجز بناء عقد آخر عليه ; تحرزا من الغرر . وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر ، انتفى المانع ، فجاز العقد عليه ، وهذا قول أبي حنيفة . والمهر كذلك عند القاضي ، وهو قول أبي حنيفة ; لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه . ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين : لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول ، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة ، أو نصفه بالطلاق ، أو انفساخه بسبب من غير جهتها . وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع . وهذا التعليل باطل بما بعد القبض ، فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول .

                                                                                                                                            وأما ما ملك بإرث ، أو وصية ، أو غنيمة ، وتعين ملكه فيه ، فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه ; لأنه غير مضمون بعقد معاوضة ، فهو كالمبيع المقبوض ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم . وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة ، أو عارية ، أو مضاربة ، أو جعله وكيلا فيه ، جاز له بيعه ممن هو في يده ، ومن غيره ; لأنه عين مال مقدور على تسليمها ، لا يخشى انفساخ الملك فيها ، فجاز بيعها ، كالتي في يده . وإن كان غصبا ، جاز بيعه ممن هو في يده ; لأنه مقبوض معه ، فأشبه بيع العارية ممن هي في يده ; وأما بيعه لغيره ، فإن كان عاجزا عن استنقاذه ، أو ظن أنه عاجز ، لم يصح شراؤه له ; لأنه معجوز عن تسليمه إليه ، فأشبه بيع الآبق والشارد .

                                                                                                                                            وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في يده ، صح البيع ; لإمكان قبضه . فإن عجز عن استنقاذه ، فله الخيار بين الفسخ ، والإمضاء ; لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه . ويثبت له الفسخ ; للعجز عن القبض ، فأشبه ما لو باعه فرسا ، فشردت قبل تسليمها ، أو غائبا بالصفة ، فعجز عن تسليمه .

                                                                                                                                            ( 2958 ) فصل : وإن كان لزيد على رجل طعام من سلم ، وعليه لعمرو مثل ذلك الطعام سلما ، فقال زيد لعمرو : اذهب فاقبض الطعام الذي لي من غريمي لنفسك . ففعل ، لم يصح ; لأنه لا يجوز أن يقبضه قبل أن يقبضه . وهل يصح لزيد ؟ على روايتين ; إحداهما ، يصح ; لأنه أذن له في القبض ، فأشبه قبض وكيله . والثانية ، لا يصح ; لأنه لم يجعله نائبا له في القبض ، فلم يقع له ، بخلاف الوكيل . فعلى الوجه الأول ، يصير ملكا لزيد ، وعلى الثاني ، يكون باقيا على ملك المسلم إليه .

                                                                                                                                            ولو قال زيد لعمرو : احضر اكتيالي منه لأقبضه لك . ففعل ، لم يصح . وهل يكون قابضا لنفسه ؟ على وجهين ; أولاهما ، أنه يكون قابضا لنفسه ; لأن قبض المسلم فيه قد وجد من مستحقه ، فصح القبض له ، كما لو نوى القبض لنفسه . فعلى هذا ، إذا قبضه لعمرو ، صح . وإن قال : خذه بهذا الكيل الذي قد شاهدته فأخذه به ، صح ; لأنه قد شاهد كيله ، وعلمه ، فلا معنى لاعتبار كيله مرة ثانية . وعنه لا [ ص: 93 ] يجزئ . وهو مذهب الشافعي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان . وهذا داخل فيه .

                                                                                                                                            ولأنه قبضه بغير كيل ، أشبه ما لو قبضه جزافا . ولو قال زيد لعمرو : احضرنا حتى أكتاله لنفسي ، ثم تكتاله أنت . وفعلا ، صح بغير إشكال . وإن اكتاله زيد لنفسه ، ثم أخذه عمرو بذلك الكيل الذي شاهده ، فعلى روايتين . وإن تركه زيد في المكيال ، ودفعه إلى عمرو ليفرغه لنفسه ، صح ، وكان ذلك قبضا صحيحا ; لأن استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ، ولا معنى لابتداء الكيل هاهنا ، إذ لا يحصل به زيادة علم .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الشافعي : لا يصح ; لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان . وهذا يمكن القول بموجبه ، وقبض المشتري له في المكيال جري لصاعيه فيه . ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم ، فقال : اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك علي . ففعل ، لم يصح ; لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو . فإن اشترى الطعام بعينها ، أو في ذمته ، فهو كتصرف الفضولي على ما تبين .

                                                                                                                                            وإن قال : اشتر لي بها طعاما ، ثم أقبضه لنفسك ، ففعل ، صح الشراء ، ولم يصح القبض لنفسه ، على ما تقدم في مثل هذه الصورة . وإن قال : اقبضه لنفسك ففعل ، جاز . نص أحمد على نظير ذلك ، وهكذا جميع المسائل التي تقدمت ، إذا حصل الطعام في يد عمرو لزيد ، فأذن له أن يقبض من نفسه . وقال أصحاب الشافعي : لا يصح ; لأنه لا يجوز أن يكون قابضا لنفسه من نفسه . ولنا ، أنه يجوز أن يشتري لنفسه من مال ولده ، ويقبض لنفسه من نفسه ، وكذلك لو وهب لولده الصغير شيئا ، جاز أن يقبل له من نفسه ، ويقبض منها ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية