الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 5851 ) مسألة ; قال : ( وإذا قال : قد طلقتك ، أو قد فارقتك ، أو قد سرحتك . لزمها الطلاق ) هذا يقتضي أن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ ; الطلاق ، والفراق ، والسراح ، وما تصرف منهن . وهذا مذهب الشافعي . وذهب أبو عبد الله بن حامد ، إلى أن صريح الطلاق لفظ الطلاق وحده ، وما تصرف منه لا غير . وهو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، إلا أن مالكا يوقع الطلاق به بغير نية ; لأن الكنايات الظاهرة لا تفتقر عنده إلى النية . وحجة هذا القول أن لفظ الفراق والسراح يستعملان في غير الطلاق كثيرا ، فلم يكونا صريحين فيه كسائر كناياته .

                                                                                                                                            ووجه الأول أن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب بمعنى الفرقة بين الزوجين ، فكانا صريحين فيه ، كلفظ الطلاق ، قال الله تعالى { : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . } وقال { : فأمسكوهن بمعروف . } وقال سبحانه { : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته . } وقال سبحانه { : فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . } وقول ابن حامد أصح ; فإن الصريح في الشيء ما كان نصا فيه لا يحتمل غيره ، إلا احتمالا بعيدا ، ولفظة الفراق والسراح إن وردا في القرآن بمعنى الفرقة بين الزوجين ، فقد وردا لغير ذلك المعنى وفي العرف كثيرا ، قال الله تعالى { : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . } وقال { : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } فلا معنى لتخصيصه بفرقة الطلاق ، على أن قوله { : أو فارقوهن بمعروف . } لم يرد به الطلاق ، وإنما هو ترك ارتجاعها ، وكذلك قوله { : أو تسريح بإحسان . }

                                                                                                                                            ولا يصح قياسه على لفظ الطلاق ، فإنه مختص بذلك ، سابق إلى الأفهام من غير قرينة ولا دلالة ، بخلاف الفراق والسراح . فعلى كلا القولين ، إذا قال : طلقتك ، أو أنت طالق ، أو مطلقة . وقع الطلاق من غير نية . وإن قال : فارقتك . أو : أنت مفارقة ، أو سرحتك ، أو أنت مسرحة . [ ص: 295 ] فمن يراه صريحا أوقع به الطلاق من غير نية ، ومن لم يره صريحا لم يوقعه به ، إلا أن ينويه .

                                                                                                                                            فإن قال : أردت بقولي : فارقتك أي بجسمي ، أو بقلبي أو بمذهبي ، أو سرحتك من يدي ، أو شغلي ، أو من حبسي ، أو أي سرحت شعرك . قبل قوله . وإن قال : أردت بقولي : أنت طالق أي : من وثاقي . أو قال : أردت أن أقول : طلبتك . فسبق لساني ، فقلت : طلقتك . ونحو ذلك ، دين فيما بينه وبين الله تعالى ، فمتى علم من نفسه ذلك ، لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه . قال أبو بكر : لا خلاف عن أبي عبد الله ، أنه إذا أراد أن يقول لزوجته : اسقيني ماء . فسبق لسانه فقال : أنت طالق ، أو أنت حرة . أنه لا طلاق فيه . ونقل ابن منصور عنه ، أنه سئل عن رجل حلف ، فجرى على لسانه غير ما في قلبه ، فقال : أرجو أن يكون الأمر فيه واسعا .

                                                                                                                                            وهل تقبل دعواه في الحكم ؟ ينظر ; فإن كان في حال الغضب ، أو سؤالها الطلاق ، لم يقبل في الحكم ; لأن لفظه ظاهر في الطلاق ، وقرينة حاله تدل عليه ، فكانت دعواه مخالفة للظاهر من وجهين ، فلا تقبل ، وإن لم تكن في هذه الحال فظاهر كلام أحمد ، في رواية ابن منصور ، وأبي الحارث ، أنه يقبل قوله . وهو قول جابر بن زيد ، والشعبي ، والحكم ، حكاه عنهم أبو حفص ; لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد ، فقيل : كما لو قال ; أنت طالق ، أنت طالق . وقال : أردت بالثانية إفهامها . وقال القاضي : فيه روايتان ، هذه التي ذكرنا ، قال : وهي ظاهر كلام أحمد . والثانية ، لا يقبل . وهو مذهب الشافعي ; لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف ، فلم يقبل في الحكم ، كما لو أقر بعشرة ، ثم قال : زيوفا ، أو صغارا ، أو إلى شهر .

                                                                                                                                            فأما إن صرح بذلك في اللفظ ، فقال : طلقتك من وثاقي ، أو فارقتك بجسمي ، أو سرحتك من يدي . فلا شك في أن الطلاق لا يقع ; لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه ، كالاستثناء والشرط . وذكر أبو بكر ، في قوله : أنت مطلقة . أنه إن نوى أنها مطلقة طلاقا ماضيا ، أو من زوج كان قبله ، لم يكن عليه شيء ، وإن لم ينو شيئا ، فعلى قولين ; أحدهما يقع . والثاني ، لا يقع . وهذا من قوله يقتضي أن تكون هذه اللفظة غير صريحة ، في أحد القولين . قال القاضي : والمنصوص عن أحمد ، أنه صريح ، وهو الصحيح ; لأن هذه متصرفة من لفظ الطلاق ، فكانت صريحة فيه ، كقوله : أنت طالق .

                                                                                                                                            ( 5852 ) فصل : فأما لفظة الإطلاق ، فليست صريحة في الطلاق ; لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ، ولا الاستعمال ، فأشبهت سائر كناياته . وذكر القاضي فيها احتمالا ، أنها صريحة ; لأنه لا فرق بين فعلت وأفعلت ، نحو عظمته وأعظمته ، وكرمته وأكرمته . وليس هذا الذي ذكره بمطرد ; فإنهم يقولون : حييته من التحية ، وأحييته من الحياة ، وأصدقت المرأة صداقا ، وصدقت حديثها تصديقا ، ويفرقون بين أقبل وقبل ، وأدبر ودبر ، وأبصر وبصر ، ويفرقون بين المعاني المختلفة بحركة أو حرف ، فيقولون : حمل لما في البطن ، وبالكسر لما على الظهر ، والوقر بالفتح الثقل في الأذن ، وبالكسر لثقل الحمل .

                                                                                                                                            وها هنا فرق بين حل قيد النكاح وبين غيره ، بالتضعيف في أحدهما ، والهمزة في الآخر ، ولو كان معنى اللفظين واحدا لقيل طلقت الأسيرين ، والفرس ، والطائر ، فهو طالق ، وطلقت الدابة ، فهي طالق ، ومطلقة . ولم يسمع هذا في كلامهم ، وهذا مذهب الشافعي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية