الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 935 ) مسألة : قال : ( ومن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته ) أما الكلام عمدا ، وهو أن يتكلم عالما أنه في الصلاة ، مع علمه بتحريم ذلك لغير مصلحة الصلاة ، ولا لأمر يوجب الكلام ، فتبطل الصلاة إجماعا . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو يريد صلاح صلاته ، أن صلاته فاسدة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن } رواه مسلم وعن زيد بن أرقم قال : { كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه ، حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت } متفق عليه ولمسلم : ونهينا [ ص: 391 ] عن الكلام وعن ابن مسعود قال : { كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه ، فلم يرد علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، كنا نسلم في الصلاة فترد علينا . قال : إن في الصلاة لشغلا } متفق عليه ورواهما أبو داود ، ولفظه في حديث ابن مسعود : { فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ، قال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة }

                                                                                                                                            فأما الكلام غير ذلك ، فيقسم خمسة أقسام : أحدها أن يتكلم جاهلا بتحريم الكلام في الصلاة . فقال القاضي في " الجامع " لا أعرف عن أحمد نصا في ذلك .

                                                                                                                                            ويحتمل أن لا تبطل صلاته لأن الكلام كان مباحا في الصلاة ، بدليل حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، ولا يثبت حكم النسخ في حق من لم يعلمه ، بدليل أن أهل قباء لم يثبت في حقهم حكم نسخ القبلة قبل علمهم ، فبنوا على صلاتهم بخلاف الناسي ، فإن الحكم قد ثبت في حقه ، وبخلاف الأكل في الصوم جاهلا بتحريمه ، فإنه لم يكن مباحا ، وقد دل على صحة هذا حديث معاوية بن الحكم السلمي قال : { بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله . فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت واثكل أمياه ، ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتوني ، لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن }

                                                                                                                                            أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم فلم يأمره بالإعادة ، فدل على صحتها وهذا مذهب الشافعي والأولى أن يخرج هذا على الروايتين في كلام الناسي ، لأنه معذور مثله . القسم الثاني ، أن يتكلم ناسيا ، وذلك نوعان ; أحدهما أن ينسى أنه في صلاة ، ففيه روايتان . إحداهما ، لا تبطل الصلاة .

                                                                                                                                            وهو قول مالك والشافعي لأن ; النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في حديث ذي اليدين ، ولم يأمر معاوية بن الحكم بالإعادة إذ تكلم جاهلا ، وما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان . والثانية : تفسد صلاته . وهو قول النخعي ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وأصحاب الرأي ; لعموم أحاديث المنع من الكلام ولأنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة ، فلم يسامح فيه بالنسيان ، كالعمل الكثير من غير جنس الصلاة .

                                                                                                                                            النوع الثاني : أن يظن أن صلاته تمت ، فيتكلم ، فهذا إن كان سلاما لم تبطل الصلاة ، رواية واحدة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه ، وبنوا على صلاتهم ، ولأن جنسه مشروع في الصلاة ، فأشبه الزيادة فيها من جنسها . وإن لم يكن سلاما ، فالمنصوص عن أحمد ، في رواية جماعة من أصحابه ، أنه إذا تكلم بشيء مما تكمل به الصلاة ، أو شيء من شأن الصلاة ، مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين ، لم تفسد صلاته وإن تكلم بشيء من غير أمر الصلاة كقوله : يا غلام اسقني ماء . فصلاته باطلة .

                                                                                                                                            وقال في رواية يوسف بن موسى من تكلم ناسيا في صلاته يظن أن صلاته قد تمت ، إن كان كلامه فيما تتم به الصلاة ، بنى على صلاته كما كلم النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين . وإذا قال : يا غلام اسقني ماء . أو شبهه أعاد وممن تكلم بعد أن سلم ، وأتم صلاته ، الزبير ، وابناه عبد الله وعروة ، وصوبه ابن عباس ولا نعلم عن غيرهم في عصرهم خلافه . وفيه رواية ثانية أن الصلاة تفسد بكل حال . قال في رواية حرب : أما من تكلم اليوم وأجابه أحد أعاد الصلاة .

                                                                                                                                            وهذه الرواية اختيار الخلال . وقال : على هذا استقرت الروايات عن أبي عبد الله بعد توقفه وهذا مذهب أصحاب الرأي ; لعموم الأخبار في منع الكلام . وفيه رواية ثالثة أن [ ص: 392 ] الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال بحال سواء كان من شأن الصلاة ، أو لم يكن ، إماما كان أو مأموما . وهذا مذهب مالك ، والشافعي ; لأنه نوع من النسيان فأشبه المتكلم جاهلا ، ولذلك تكلم النبي ; صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وبنوا على صلاتهم ، وتخرج فيه رواية رابعة ، وهو أن المتكلم إن كان إماما تكلم لمصلحة الصلاة لم تفسد صلاته ، وإن تكلم غيره فسدت صلاته . ويأتي الكلام على الفرق بينهما فيما بعد ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            القسم الثالث ، أن يتكلم مغلوبا على الكلام ، وهو ثلاثة أنواع : أحدها أن تخرج الحروف من فيه بغير اختياره ، مثل أن يتثاءب ، فيقول : هاه ، أو يتنفس ، فيقول : آه . أو يسعل ، فينطق في السعلة بحرفين ، وما أشبه هذا أو يغلط في القراءة ، فيعدل إلى كلمة من غير القرآن ، أو يجيئه البكاء فيبكي ولا يقدر على رده ، فهذا لا تفسد صلاته نص عليه أحمد في الرجل يكون في الصلاة فيجيئه البكاء فيبكي ، فقال : إذا كان لا يقدر على رده لا تفسد صلاته . وقال : قد كان عمر يبكي ، حتى يسمع له نشيج . وقال مهنا : صليت إلى جنب أحمد فتثاءب خمس مرات ، وسمعت لتثاؤبه : هاه هاه وهذا لأن الكلام هاهنا لا ينسب إليه ، ولا يتعلق به حكم من أحكام الكلام .

                                                                                                                                            وقال القاضي في من تثاءب ، فقال آه آه : تفسد صلاته . وهذا محمول على من فعل ذلك غير مغلوب عليه ; لما ذكرنا من فعل أحمد خلافه . والنوع الثاني أن ينام فيتكلم ، فقد توقف أحمد عن الجواب فيه . وينبغي أن لا تبطل صلاته ; لأن القلم مرفوع عنه . ولا حكم لكلامه ، فإنه لو طلق أو أقر أو أعتق لم يلزمه حكم ذلك . النوع الثالث : أن يكره على الكلام فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في العفو ، بقوله عليه الصلاة والسلام { عفي لأمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه } وقال القاضي ; هذا أولى بالعفو ، وصحت الصلاة ; لأن الفعل غير منسوب إليه ، ولهذا لو أكره على إتلاف مال لم يضمنه ولو أتلفه ناسيا ضمنه والصحيح ، إن شاء الله ، أن هذا تفسد صلاته ; لأنه أتى بما يفسد الصلاة عمدا ، فأشبه ما لو أكره على صلاة الفجر أربعا ، أو على أن يركع في كل ركعة ركوعين .

                                                                                                                                            ولا يصح قياسه على الناسي لوجهين : أحدهما أن النسيان يكثر ، ولا يمكن التحرز منه بخلاف الإكراه ، والثاني أنه لو نسي فزاد في الصلاة ، أو نسي في كل ركعة سجدة ، لم تفسد صلاته ، ولم يثبت مثل هذا في الإكراه . القسم الرابع ، أن يتكلم بكلام واجب ، مثل أن يخشى على صبي أو ضرير الوقوع في هلكة ، أو يرى حية ونحوها تقصد غافلا أو نائما أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شيء ونحو هذا ، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح . فقال أصحابنا : تبطل الصلاة بهذا .

                                                                                                                                            وهو قول بعض أصحاب الشافعي ; لما ذكرنا في كلام المكره . ويحتمل أن لا تبطل الصلاة به . وهو ظاهر قول أحمد ، رحمه الله ; فإنه قال في قصة ذي اليدين : إنما كلم القوم النبي صلى الله عليه وسلم حين كلمهم لأنه كان عليهم أن يجيبوه . فعلل صحة صلاتهم بوجوب الإجابة عليهم . وهذا متحقق هاهنا ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي . والصحيح عند أصحابه ، أن الصلاة لا تبطل بالكلام في جميع هذه الأقسام ، ووجه صحة الصلاة هاهنا ، أنه تكلم بكلام واجب عليه ، أشبه كلام المجيب للنبي صلى الله عليه وسلم . القسم الخامس : أن يتكلم لإصلاح الصلاة ونذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            ( 936 ) فصل : وكل كلام حكمنا بأنه لا يفسد الصلاة فإنما هو في اليسير منه ، فإن كثر ، وطال ، أفسد الصلاة . وهذا منصوص الشافعي . وقال القاضي ، في المجرد كلام الناسي إذا طال يعيد رواية واحدة . وقال في [ ص: 393 ] الجامع لا فرق بين القليل والكثير في ظاهر كلام أحمد لأن ما عفي عنه بالنسيان استوى قليله وكثيره كالأكل في الصيام . وهذا قول بعض الشافعية ولنا : أن دلالة أحاديث المنع من الكلام عامة تركت في اليسير بما ورد فيه الأخبار ، فتبقى فيما عداه على مقتضى العموم ، ولا يصح قياس الكثير على اليسير ; لأنه لا يمكن التحرز منه ، وقد عفي عنه في العمل من غير جنس الصلاة بخلاف الكثير

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية