الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 97 ) فصل : والمشركون على ضربين : أهل كتاب وغيرهم . فأهل الكتاب يباح أكل طعامهم وشرابهم ، والأكل في آنيتهم ، ما لم يتحقق نجاستها . قال ابن عقيل : لا تختلف الرواية في أنه لا يحرم استعمال أوانيهم ; وذلك لقول الله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وروي عن عبد الله بن المغفل ، قال : { دلي جراب من شحم يوم خيبر ، فالتزمته ، وقلت : والله لا أعطي أحدا منه شيئا . فالتفت ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 62 ] يبتسم . } رواه مسلم ، وأخرجه البخاري بمعناه .

                                                                                                                                            وروي أن { النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة . } رواه الإمام أحمد ، في " المسند " وكتاب " الزهد " ، وتوضأ عمر من جرة نصرانية . وهل يكره له استعمال أوانيهم ؟ على روايتين : إحداهما : لا يكره ; لما ذكرناه .

                                                                                                                                            والثانية يكره لما روى أبو ثعلبة الخشني ، قال : قلت { يا رسول الله ، إنا بأرض قوم أهل كتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها } متفق عليه ، وأقل أحوال النهي الكراهة ; ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة ، ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم ، وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة ، وأما ثيابهم فما لم يستعملوه ، أو علا منها ; كالعمامة والطيلسان والثوب الفوقاني ، فهو طاهر ، لا بأس بلبسه ، وما لاقى عوراتهم ; كالسراويل والثوب السفلاني والإزار ، فقال أحمد : أحب إلي أن يعيد ، يعني : من صلى فيه . فيحتمل وجهين : أحدهما وجوب الإعادة وهو قول القاضي . وكره أبو حنيفة والشافعي ، الإزار والسراويلات ; لأنهم يتعبدون . بترك النجاسة ، ولا يتحرزون منها ، فالظاهر نجاسة ما ولي مخرجها .

                                                                                                                                            والثاني لا يجب ، وهو قول أبي الخطاب ; لأن الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشك . الضرب الثاني : غير أهل الكتاب ، وهم المجوس ، وعبدة الأوثان ، ونحوهم ، فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة ، وأما أوانيهم ، فقال القاضي : لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم ; لأن أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم ، وذبائحهم ميتة ، فلا تخلو أوانيهم من وضعها فيها .

                                                                                                                                            وقال أبو الخطاب حكمهم حكم أهل الكتاب ، وثيابهم وأوانيهم طاهرة ، مباحة الاستعمال ، ما لم يتيقن نجاستها ، وهو مذهب الشافعي ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة مشركة ، } متفق عليه ; ولأن الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشك . وظاهر كلام أحمد ، رحمه الله ، مثل قول القاضي ، فإنه قال في المجوس : لا يؤكل من طعامهم إلا الفاكهة ; لأن الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم ، فأشبهت السراويلات من ثيابهم . ومن يأكل الخنزير من النصارى ، في موضع يمكنهم أكله ، أو يأكل الميتة ، أو يذبح بالسن والظفر ونحوه ، فحكمه حكم غير أهل الكتاب ; لاتفاقهم في نجاسة أطعمتهم . ومتى شك في الإناء ; هل استعملوه في أطعمتهم ، أو لم يستعملوه ( النصارى ) ، فهو طاهر ; لأن الأصل طهارته .

                                                                                                                                            ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في إباحة الصلاة في الثوب الذي ينسجه الكفار ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إنما كان لباسهم من نسج الكفار . فأما ثيابهم ، التي يلبسونها ، فأباح الصلاة فيها الثوري ، وأصحاب الرأي ، وقال مالك في ثوب الكفار : يلبسه على كل حال ، وإن صلى فيه يعيد ، ما دام في الوقت . ولنا أن الأصل الطهارة ، ولم تترجح جهة التنجيس فيه ، فأشبه ما نسجه الكفار .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية